|
الحلقة الثانية-البروتوكولات الصهيونية-الماسونية اليهودية الصهيونية-الثالوث الراديكالي للشتات والغيتو
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1076 - 2005 / 1 / 12 - 09:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان القرن التاسع عشر الأوربي قرن الراديكاليات السياسية من فوضوية وعدمية وشيوعية طوباوية واشتراكيات متطرفة وحركات إرهابية وماسونيات متنوعة تراكمت في مجرى تأمل نتاج ونماذج الثورة الفرنسية. وهي راديكاليات اشترك اليهود فيها اشتراكا فعالا، لأنها شكلت أسلوبا لاندماجهم الواسع الانتشار آنذاك في الثقافة الأوربية. كما كانت في الوقت نفسه استجابة لتقاليد الشتات والغيتو ونفسيتها الاجتماعية المنغلقة. وقد صبّ اليهود في هذه العملية المعقدة إفرازاتهم في خميرة التيارات الراديكالية المتنوعة. وليست "البروتوكولات" سوى نموذج ونتاج لتداخل "منطق" الراديكالية و"باطنية" الماسونية في اليهودية الصهيونية. وهو تداخل كان يعكس التمظهر التاريخي لتقاليد الشتات والغيتو اليهوديين، أي وحدة الانعزال والتشرذم. وهي صفات ميزت نفسية الماسونية والصهيونية والراديكالية على السواء. فقد تمثلت اليهودية الصهيونية تراث الماسونية وراديكالية الحركات الثورية، وبالأخص عناصرها الكبرى في "قواعد العمل" مثل العمل السري، والتنظيم المبرمج لهدم النظم القائمة، واتباع أسلوب التغيير الجذري، وأولوية العنف والقوة، والاعتماد على القوى المهمشة والهامشية، وادعاء العالمية والكونية في البرامج والرؤية. ولعبت هذه القواعد الست دورا تقدميا عميقا في تراث الراديكالية اليسارية والحركات الثورية (الاشتراكية والشيوعية) في أوربا. وهي قواعد يمكن العثور عليها في كل كراريس وبيانات الحركات الثورية الاشتراكية والشيوعية الأوربية ابتداء من ثلاثينيات القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين. غير أن هذه القواعد الست العامة صارت من الناحية الرمزية بمثابة ايام العمل الست التي تسبق يوم السبت اليهودي, وذلك ضمن آلية فعل الشتات والغيتو لليهودية الصهيونية الناشئة منذ بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر، إلى أيام العمل الستة العادية من اجل التحضير للسبت اليهودي. لكن إذا كان العنصر اليهودي المندمج والساعي للاندماج في الثقافة الأوربية قد افرز بالضرورة عناصر الراديكالية في الحركات الثورية، فان التيار الذي بقي ضمن حيز اليهودية العنصرية وتقاليدها التلمودية استثمر نفسية الراديكالية وقواعد عملها ضمن هيكل الماسونية ونزوعها المنغلق من اجل تنفيذ مساعيه الخاصة للسيطرة (العالمية). طبعا أن النزوع للسيطرة العالمية ليس جديدا أو أمرا غريبا. فقد كانت الإمبراطوريات العظمى والأديان العالمية والحركات الأممية تسعى جميعا للسيطرة العالمية. ثم أننا نعثر في التاريخ عموما على مساع حثيثة للسيطرة العالمية على مستوى الدين والدولة والحركات السياسية. ولا يخلو العالم المعاصر من هذه الظاهرة، التي تكشف عن ضيق أفق في رؤية الدولة، وعن جوهرية الله (أو الفكرة) في الدين، وجوهرية الغاية (المتسامية) في الحركات السياسية الأممية. ومن الناحية التنظيمية يمكن العثور في تقاليد الكاثوليكية على محاولات تجسيد هذه السيطرة، كما سعى الكومنترن (الاممية الشيوعية)، بعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، إلى تجسيدها استنادا إلى الفكرة الشيوعية (خارج الدين والقومية). والشئ نفسه يمكن قوله عن حركة الإخوان المسلمين كما وضعها حسن البنا في سعيه لما اسماه بالدورة العالمية لاستعادة السيطرة الشرقية بشكل عام والإسلامية منها بشكل خاص. وبغض النظر عن الفشل الذريع أحيانا لهذه المشاريع والمساعي، إلا أنها تبقى تحمل في ذاتها إدراكا عميقا لمعنى الوحدة وأهميتها الإنسانية. أما سبب فشلها فيقوم في محاولاتها تطبيق نموذجها بهيئة بديل جاهز. بينما تفترض حقيقة الوحدة تطورا تلقائيا يؤدي بالضرورة، في حالة استناده إلى رؤية ثقافية عقلانية (معتدلة) في بناء الدولة والمجتمع والفرد، إلى تلاق متناغم في تنظيم شئون الدول والأمم وتقاربها المتناسق. أما الماسونية فقد تمثلت أساسا نفسية الراديكالية وتقاليدها المغلقة مما اسبغ عليها وعلى قواعد عملها طابع المؤامرة والمغامرة. تأثرت الماسونية ودانت من حيث نشوئها لتقاليد الفرق النصرانية، التي تشكل اغلبها منذ بداية الحروب الصليبية وغزو فلسطين. ولعل أكثرها تأثيرا بهذا الصدد هي فرقة (فرسان الهيكل)، التي تأسست في نهاية القرن الحادي عشر بعد احتلال القدس. وهي فرقة تميزت بالصرامة والعزلة. ولعبت هذه الفرقة بعد تحرير فلسطين عام 1291، ورجوعها إلى أوربا دورا كبيرا في تأسيس "دولة داخل دولة". حينذاك اخذ دورها المادي والمعنوي في الازدياد، مع الاحتفاظ ببنيتها المغلقة وتقاليدها السرية. فقد ازدادت ثروتها الخاصة من خلال انتقال ثروات المنتمين إليها. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن المنتمين إليها من بين أرستقراطية وأمراء أوربا آنذاك، فمن الممكن توقع نوعية وكمية الثروة المتجمعة عندها، مما حولها في نهاية المطاف إلى "إمبراطورية" موازية "لإمبراطورية" البابا والألمانية المقدسة. وبغض النظر عن تعرضها لتدمير هائل زمن فيليب الرابع (الملقب بالجميل) ملك فرنسا عام 1307، إلا أنها استطاعت الاستمرار عبر فروعها في أسبانيا والبرتغال واسكوتلنده وغيرها من المناطق حتى القرن السابع عشر. بعد ذلك اندمجت بالحركة الماسونية ونقلت إليها "تاريخها" السابق ورموزها مثل المثلث والكأس ونجمة داوود (الهيكل) وغير ذلك من الرموز. كما نقلت إلى الماسونية أيضا قواعد عملها. والشيء نفسه يمكن قوله عن فرقة روزينكرايتس (الوردة والصليب)، التي شكلت إلى جانب (فرسان الهيكل) أحد أهم الفرق التي دخلت الحركة الماسونية في وقت لاحق. فهي الفرقة التي لم يعق اهتمامها بالباطنية والتصوف والطلسمات من انتماء شخصيات أوربية لامعة اليها نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر ليينتس وديكارت. لكنها خلافا لفرقة (فرسان الهيكل) لم تتدخل بصورة مباشرة في الشئون السياسية ودنيا المال. لكنها كانت تدعو إلى ضرورة تحويل العالم عبر تكوين دولة واحدة ودين واحد بالقضاء على البابوية والكاثوليكية. لقد جعلت الماسونية من اهتمامها بالمستقبل مقدمة نقدها للواقع، ومن نقدها للواقع ذريعة للثورة عليه. وهي قيم إنسانية عميقة من حيث طبعها المجرد، إلا أن خطورتها التاريخية كانت تقوم في إمكانية تحجرها "العقائدي" من خلال تحويل قواعد عملها ومبادئها الكبرى إلى جزء من لعبة المقامرة والمغامرة التي عادة ما تؤدي إليها الراديكالية المغلقة. وهي لعبة تصنع على خلفية الانغلاق "الأرستقراطي" أوهامها عند الشباب، ومغامراتها الخطرة عند الرجال، ومقامراتها الرذيلة عند الكهول. وليس مصادفة أن تظهر حينذاك "الرؤى المستقبلية" و"التنبؤات" كما هو الحال في رسالة ناسترداموس إلى هنري الثاني و"تنبؤات" باراسيلوس وكثير غيرها. وتراكمت هذه الحصيلة في مجرى تعمق الشحنة الراديكالية والعقلانية، التي بلغت ذروتها التاريخية في الثورة الفرنسية. فقد قدمت الماسونية شعار الحرية والعدالة والاخوة للثورة الفرنسية، كما كان رجالها الكبار مثل ميرابو ومارات ودانتون وروبيسبير وسان جوست وغيرهم من اتباع الماسونية. كما دخل فيها في وقت لاحق كبار رجال عصر التنوير والإبداع الأدبي والموسيقي والسياسي مثل فولتير وديدرو وروسو وغوته وبايرون وغاريبالدي وبتهوفن ومادزيني وغيرهم. ذلك يعني أن الماسونية تمثلت في مراحل صعودها التاريخي الشحنة المتراكمة للروح الثوري والراديكالي في مواجهة تحجر وتكلس "النظام العالمي" للكاثوليكية وأنظمة الحكم الاستبدادية. لهذا كانت بدائلها تتميز بالدفاع عن "المطلق" و"العالمي"، باعتبارها الصيغة الراديكالية في مواجهة الواقع والسعي لتغييره. وهي مواجهة أدت تاريخيا، وبالأخص مع انتصار الثورة البرجوازية وصعود أهمية ودور راس المال ودخول اليهود المتأخر فيها كجزء أيضا من محاولاتهم للاندماج في الثقافة الأوربية، إلى تحولها من منظمة "بنائين أحرار" إلى "هدامين أحرار". كما تحولت حركة "الفئات الدنيا" إلى حركة "الفئات العليا"، أي من حركة العمال إلى حركة الأرستقراطية. مما أفرغها من مضمونها الاجتماعي الأول وأخلى توجهها السياسي من حوافزه الاجتماعية الأولى، بينما أبقى على "قواعد عملها"، التي غذّتها لاحقا الراديكالية السياسية والأيديولوجية في غضون القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لقد جرى هذا التحول التدريجي والراسخ في كافة المراكز الأوربية آنذاك. وتغلغل لاحقا في الولايات المتحدة الأمريكية. أما في روسيا فقد كرر أيضا المسار الأوربي، ولكن بصورة مقلوبة. وذلك لأنه انتقال بلا تاريخ اجتماعي. على عكس ما كان عليه الحال في أوربا. إذ لم تكن في روسيا حركة "بنائين أحرار" وماسونية ثورية وتقاليد برجوازية وتنوير. لقد أخذت روسيا النموذج الماسوني بصيغته الأرستقراطية الجاهزة. لهذا نرى أول من يدخل فيها القيصر الروسي بافل الأول، ثم أخذت بالانتشار ماسونيات عديدة ضمت الكثير من رجال الإبداع الروسي في العلوم والآداب والفنون مثل تروبسكوي وغلينكا وبيستوجيف وتورغينيف وبوشكن وكارامزين وسوفوروف وكوتوزف وريبين وغريبايدوف وباكونين وسبيرانسكي. وهي شخصيات اغلبها أرستقراطية المنشأ دخلت الماسونية في بداية مراحلها. بعبارة أخرى أنها وجدت في الماسونية عناصر التقدم والتنوير. فمن المعلوم أن الماسونية ليس لها "طرقها" وحركاتها الاجتماعية المغلقة، بفعل غياب تقاليدها التاريخية والتطور الرأسمالي. لهذا سرعان ما ذابت في التقاليد الأوسع للراديكالية الثورية التي ميزت تاريخ روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى ثورة أكتوبر عام 1917. أدت غلبة الراديكالية السياسية إلى بروز أولوية محاربة القيصرية والأرثوذكسية الروسية وظهور نقائضها في الاشتراكية والإلحاد. وهي توجهات استجابت لنفسية اليهودية الصهيونية التي تبلورت ضمن تقاليد الراديكالية الثورية في أوربا القرن التاسع عشر وبلورت بعض معالم "نظمها الفكرية" وأيديولوجياتها العملية. وفي هذا يكمن أحد الأسباب التي تفسر سر الخلاف الجوهري بين "الاشتراكية الروسية" و"الاشتراكية الأوربية" (الماركسية بالأخص) في الموقف من القوى المحركة للثورة والقائدة للبديل الاشتراكي. فقد كان التيار الروسي إلى جانب الفلاحين انطلاقا من اعتبارهم القوة الاجتماعية الأساسية في روسيا والمكون الجوهري بالنسبة للتاريخ الروسي، بينما كانت الطبقة العاملة هي القوة الرئيسية بالنسبة للتيار الغربي. وهو خلاف يتضح الآن معناه ومغزاه التاريخي والسياسي. فقد كان الفلاحون هم مصدر الطاقة التاريخية لروسيا وقوة استمرارها كدولة وقومية وتقاليد مشاعية (الجماعة والشراكة)، بينما كانت الطبقة العاملة من حيث الكم والنوع جزء لا يمثل تقاليد روسيا الكبرى. وهو واقع أدى بالضرورة إلى صعود العناصر "الهدامة"، أو إلى أن يكون الوعي السياسي والنفسية الاجتماعية لحاملي الفكرة الثورة اكثر استعدادا لتقبل العناصر الهدامة في الفكرة الراديكالية. لاسيما وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن القوة السياسية القائدة للطبقة العاملة وأحزابها السياسية وممثليها الراديكاليين كانت في اغلبها يهودية الأصل والمشرب والمنزع. وكان سبب هذا الاستعداد القائم فيها للتحزب يقوم في ثقل اليهودية المتربية بتقاليد الشتات والغيتو بشكل عام وفي روسيا بشكل خاص. فقد كانت نهاية القرن التاسع عشر أيضا نهاية الماسونية التقليدية واليهودية التقليدية. وعوضا عن الأولى ظهرت الحركات الراديكالية والثورية الاشتراكية، التي شكل اليهود اغلب قياداتها. وتحولت اليهودية إلى يهودية صهيونية ظهرت ملامحها الجلية والمنظمة و"الرسمية" في مؤتمر بازل عام 1897. وفي هذا يكمن أحد الأسباب الجوهرية في استجابة اليهودية الصهيونية للحركة الثورية وسيادة روح المغامرة والمؤامرة فيها. مما أدى بالضرورة إلى إفراغ طاقتها من عناصر الاعتدال والوحدة، حتى في اشد حالات الدفاع عنها نظريا. ووجد ذلك انعكاسه في تعمق الانغلاق الذاتي مع دعوى بالانفتاح كما وجد انعكاسه الصارخ بعد الثورة البلشفية في مختلف ميادين الحياة. والشيء نفسه يمكن قوله عن التناقضات التي ميزت الاشتراكية السوفيتية وأدت لاحقا إلى انهيارها. أما عند تخوم القرنين التاسع عشر – العشرين، فقد كانت تتضح اكثر فاكثر ملامح "تكامل" الماسونية مع اليهودية وخضوعهما غير المباشر للصهيونية الآخذة في النمو. وهو "تكامل" أثار حينذاك في الوعي الحكومي والسياسي في روسيا تحسسا جديا حول الخطر الكامن فيه بالنسبة لمصير روسيا والنظام القيصري والديانة الأرثوذكسية. وهو تحسس تنامى في إدراك جسدته الفكرة الأكثر انتشارا بين التيارات القيصرية والروسية القومية والنصرانية الأرثوذكسية في شعارات (القيصرية، الأرثوذكسية، الجماعة والتنوير) كبديل روسي لشعارات الليبرالية والإلحاد والتنوير البرجوازي والاشتراكي، الذي تلمست فيه القوى القومية الروسية ثالوثا ماسونيا يهوديا صهيونيا. وهو أمر بمكن تحسسه في "العثور" على "البروتوكولات" ونشرها في روسيا عند تخوم القرنين التاسع عشر – العشرين، باعتبارها "وثيقة" تكشف عن خطر الماسونية اليهودية الصهيونية على المصالح الجوهرية لروسيا والعالم اجمع. فما وراء نشر "البروتوكولات" يمكن تحسس الهموم المباشرة وقلقها من الأهداف والأحقاد الدفينة للماسونية اليهودية الصهيونية. وهو السبب الذي يفسر محاربة الحكومة المؤقتة بعد ثورة شباط 1917 لها ومصادرتها ومنع طباعتها بسبب انتماء الكثير من قيادتها للماسونية، بينما جرى تحريمها وتجريمها بعد ثورة أكتوبر عام 1917 بسبب يهودية الأغلبية الساحقة من قيادتها. لم يكن إدراك مخاطر اليهودية الصهيونية فعلا طارئا برزت معالمه بعد نشر "البروتوكولات"، كما انه لم يكن محصورا في روسيا لحالها، بقدر ما كان له تاريخ عريق في الثقافة الأوربية. فقد تشبعت الثقافة الأوربية منذ القدم، وبالأخص بعد اعتناق النصرانية دينا، بعناصر الكراهية تجاه اليهود واليهودية. وهي صورة لها أبعادها الدينية واللاهوتية، التي لبست ملابسها المتلونة أحيانا مع "انتشار" اليهود في الشتات الأوربي. وقد اغلق هذا الشتات أبوابه على اليهود في المدن الأوربية برتاج العداء الديني. واصبح اليهودي رديفا ليهوذا بوصفه الرجل الذي أودى بحياة معلمه و"الحواري" الذي اغتال نبيه والمريد الذي خان شيخه، كما صورته الأناجيل. ولم يغير من هذه الصورة دخول "العهد القديم" في "الكتاب المقدس" للنصرانية والنصارى. على العكس! انه أدى إلى استفحال نفسية العداء. وهي مفارقة يمكن حل عقدتها استنادا إلى ما في "العهد القديم" من نفسية عداء متأصلة ومستفحلة تجاه "الآخرين". فهو "عهد" لا أمان فيه لغير نفسية العداء وكراهية الآخرين. وليس اعتباطا أن نظهر في أوربا القروسطية الصدى الاجتماعي لشخصية "اليهودي القذر" في القصص والحكايات والخرافات الشعبية. وحيكت حول شخصية اليهودي هذا مختلف الأساطير التي أجمعت على إبراز صفات البخل والغدر واعطشه لسفك الدماء وإلحاق الأذى بالآخرين والتخريب والدمار وما شابه ذلك من الرذائل. وظهر ذلك بوضوح في أسطورة اليهودي الشبح الذي يتصيد مع كلابه الفلاحين والبسطاء بين فترة وأخرى في غابات أوربا. فقد جعله الفرنسيون يقطن في غابة فونتين بلو، والجرمانيون في "الغابة السوداء"، والإنجليز في غابة وندثور. وهو شبح يظهر بين الحين والآخر ليرسل الموت على الحيوانات والوباء والأمراض على الناس. أطلقوا عليه أسماء متعددة مثل يوتاديوس (قاتل الإله) باللاتينية، ويهودي البندقية (صلاتيل بن سعدي). ونعثر على ذلك في مسرحية شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية". وتوجت شخصية اليهودي هذه في الأسطورة الإيطالية النمساوية عما يسمى بألفية الصقيع. وهي أسطورة تحكي لنا عن كيفية ضمور صناعة النبيذ في المناطق الجنوبية من جبال الألب، بسبب الرياح الباردة التي ولدها ظهوره، التي استمرت لمدة ألف عام. وهي أسطورة ترمز إلى أن ظهور اليهودي في أي مكان مثله مثل البرد القارس لمدة ألف عام يقتل كل حي ولا يترك خلفه إلا الخراب والدمار. وهي أساطير تعكس في رمزيتها إلى جانب عشرات غيرها الكيان المغلق لليهودي ودوره التخريبي في ممارسة الربا، بحيث جعل منه في الذاكرة الشعبية لأمم القارة الأوربية شبحا متوحشا وموتا باردا. وهي صورة يسهل توظيفها سياسيا مع كل تأويل بسيط لأحداث هي بحد ذاتها عادية وطبيعية، كما هو الحال بالنسبة لنشر الوثائق المنسوبة إلى حاخامات اليهود (السندريون) الذين نصحوا يهود أسبانيا في عام 1485 الذين اكرهوا على اعتناق النصرانية غصبا، بان يعلموا أبناءهم مهن التجارة والطب ودخول الكنيسة من اجل إلحاق الضرر بالنصارى. إذ حتى في حال افتراض صحة ما تقوله هذه الوثائق، فانه رد فعل طبيعي على محاولة تنصيرهم بالإكراه. وهو إكراه يؤدي بالضرورة إلى ردود فعل لا تتسم غالبا بالعقلانية والخير. غير أن الصورة السيئة عن اليهود واليهودية المتراكمة تاريخيا في الوعي الأوربي الشعبي والسياسي تحولت بعد الثورة الفرنسية، وبالأخص يعد دعوة نابليون لمجمع الحاخامات باللقاء به عام 1807 إلى علامة مؤشرة على مكامن الخطر الدفين و"السري" في هذه القوة المنغقلة، التي وجدت منفذها إلى "دكتاتور" رفيع المستوى ومؤثر في السياسة الأوربية والعالمية آنذاك. وبغض النظر عن التأويلات العديدة لهذا اللقاء، إلا انه يشير من الناحية التاريخية إلى الصلة التي كانت تلمح إليها الكتابات التي حاولت البرهنة على أن اليهود يبيتون خطة مشؤومة على النصارى (الأوربيين). وهي "خطة" كانت تتراكم فعلا في نفسية وذهنية الشتات والغيتو في مجرى العملية المتناقضة لكسر قيود الانغلاق عبر مساعي اليهود للاندماج في الحركة الاجتماعية والثقافية وضغوط الفكرة القومية في القرن التاسع عشر. لقد كان تاريخ المسيحية كله حتى القرن التاسع عشر تاريخ تربية العداء لليهود واليهودية. وفي الاثناء ذاتها فان تاريخ اليهود واليهودية تكلسا وانغلقا على نفسيهما مما أدى بالضرورة إلى حالة توجس خفي صنعت بحد ذاتها "خطة" الخروج من هذا المأزق. وهي "خطة" لم يكن بإمكانها التخلص عند اليهود من ضغط تقاليد الانعزال الذاتي. وبالتالي فان كل محاولة للاندماج من جانبهم كانت تؤدي بالضرورة إلى إبراز أسلوب جديد من الراديكالية. وهي راديكالية كان يصعب تذليلها حتى ضمن تقاليد اليهودية بفعل غلوّ اليهودية نفسها. وهو مأزق جديد أدى على خلفية التطور الرأسمالي وتحول المال الربوي اليهودي إلى رأسمال برجوازي وكذلك صعود الحركة اليهودية الصهيونية إلى تراكم الرؤية "المستقبلية"، القائلة بان "خلاص اليهود" ممكن من خلال السيطرة والاستيلاء على الآخرين. وهي ظاهرة أخذت تلوح للعيان في مرى القرن التاسع عشر على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والإعلامية. حيث بدأت تظهر ملامح اليهودية المالية (في البنوك) والإعلامية (في الصحافة) والسياسية (في الحركات الثورية والراديكالية)، أي في المرافق الأساسية الكبرى للحياة الاجتماعية. حينذاك اخذ العداء لليهود واليهودية يتأطر نظريا وسياسيا وإعلاميا. ففي بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولت ألمانيا (ذات الكثافة اليهودية العالية نسبيا آنذاك) إلى ميدان الهجوم الفكري الكبير على اليهود واليهودية. وهي معركة اشتركت فيها مختلف القوى الاجتماعية والسياسية والفكرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فقد عرض ماركس في {المسألة اليهودية} وباكونين في {جدل ضد اليهود} مواقفهما الفلسفية السياسية من "المسألة اليهودية". وظهرت أبحاث متخصصة تتناول نفسية وذهنية اليهود وخطرها بالنسبة للعالم كما هو الحال في الكتب التي ظهرت في روسيا مثل كتاب برافمان {الهقال} عام 1869، كما ظهر في نفس العام كتاب {التلمود واليهود} 1879. بينما نشر عثمان بي (الاسم المستعار للكاتب ميللينغين) كتاب {احتلال اليهود للعالم} عام 1873 الذي طبع في بازل وترجم إلى الروسية وطبع فيها عام 1784. وهو من بين أوائل الكتب التي تحدثت بصراحة عما اسمته بخطط اليهود للاستيلاء على العالم، كما وضعوها في اجتماعاتهم السرية، التي عقدوها في مدينة كراكوف عام 1840. وبنفس الاتجاه سارت ما أطلق عليه {رسالة كريميه} المطبوعة عام 1874، التي تتحدث عما أسمته بخطط اليهود للسيطرة على العالم وإمكانية فوزهم في مساعيهم هذه. وسبقتها في هذا الإطار أيضا {رسالة سيمونيني} للكاتب الإيطالي باريل. كما وضع جملة من الكتاب الاجتماعين والمؤرخين ورجال الدين العديد من الكتب حول الموضوع نفسه كما هو الحال بالنسبة لكتابات أ. توسيل، غوشينو دي موّسو، ادوارد درومون، ورجال الدين النصارى مثل الأسقف ميران والأب شابو. كما نعثر على نفس الظاهرة والتقييم والحوافز في الأدب الروائي. ولعل رواية هيرمن غودشه (الاسم المستعار جون ريتكليف) التي ظهرت في ستينيات القرن التاسع عشر تحت عنوان {بياريتس – روما} التي ترجمت إلى الروسية وطبعت بعنوان {كلام الحاخام} تتحدث في أحد فصولها بعنوان "المقبرة اليهودية في براغ" عن كيفية اجتماع رؤساء اليهود في إحدى المقابر اليهودية في براغ ومناقشة الخطط والأعمال التي ينبغي القيام بها من اجل إحكام السيطرة على العالم. أما في روسيا فقد اتخذت هذه الظاهرة أبعادا خاصة بسبب الموقع المتميز لليهود في تاريخ روسيا منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى بداية القرن العشرين. فهو القرن الذي اختمرت فيه اليهودية الصهيونية وأفرزت أحد اكثر أشكالها المريعة عرقيا وسياسيا وثقافيا، والتي شكلت "البروتوكولات" انعكاسها غير المباشر و"توثيقها" المضاد. إذ لم تكن "البروتوكولات" في الواقع سوى الحصيلة المتراكمة من مواجهات "قواعد العمل" وذروتها النظرية بين اليهودية الصهيونية والمعارضة لها. وهي معارضة متنوعة المستويات والأشكال والنماذج. فقد اتخذت هذه المعارضة في روسيا شكلا نظريا فلسفيا وتاريخيا ولاهوتيا وسياسيا وأدبيا اشترك فيها الفلاسفة والمؤرخين ورجال الدولة ومؤسساتها وأدباؤها وشعراؤها. فقد تناول قضية مخاطر اليهود بصورة محترفة مجموعة من الكتاب الاجتماعيين مثل برشكو ، بورينين، فيكوفسكي، برويتشكوفيتش، تينياكوف، سطاليبين (أخو سطاليبين المشهور)، مينشيكوف وباشماكوف وآخرين. كما كتب بهذا الصدد مؤرخي اليهودية والدين اليهودي مثل برافمان {الهقال} عام 1869، لوتوستانسكي {التلمود واليهود} عام 1879-1880، نوتوفتش في كتاب {حقيقة اليهود} عام 1895. وفي العام نفسه وضعت وزارة الداخلية القيصرية تقريرا سريا موسعا بعنوان {أسرار اليهودية} تناول كل ما له علاقة بعمل ونشاط اليهود بدءاً من الحروب الصليبية وانتهاء بالقرن التاسع عشر، جمعت فيه كل المعلومات المتعلقة بنشاطهم ضد الدول التي أقاموا فيها. وهو تقرير نشره سليوزبيرغ كملحق ضن كتاب {أسرار حكماء صهيون- تاريخ كتاب منحول} الذي جمعه وقدم له اليهودي ديليفسكي وطبعه في برلين عام 1923. وفي نفس الاتجاه سار بحث المؤرخ برجيسلافسكي {السر العظيم للماسونية}، الذي اعيد نشره عام 1909 بعنوان {إفشاء السر العظيم للماسونية الإفرنجية}. كما وجد تحسس وإدراك الخطر الذي يمثله اليهود بالنسبة لمصير روسيا انعكاسه في الإبداع الأدبي لعمالقة روسيا كما هو الحال عند بوشكن وبلوك ودستويفسكي وكوبرين. وجرى التعبير عن ذلك في روايات خاصة كما هو الحال عند الكاتب بيسيمسكي في رواية {البحر الهائج} وكريستوفسكي ف. في رواية {الظلمة المصرية} الصادرة عام 1881، وفاغنر ن. في رواية {عمل اسود} الصادرة أيضا عام 1881، وروايات شابلسكايا {شياطين القرن} (1909) و{الحمر والسود} (1911). وقد صبت هذه الكتابات والأبحاث في خميرة الصراع الفعلي بين التيار اليهودي الصهيوني الصاعد في روسيا آنذاك وبين تيار القومية المدافع عن القيصرية المتهالكة من ثقل مشاكلها الكبرى وضعف قدرتها آنذاك على تقديم نظام قادر على هضم التنوع الهائل فيها وتسريع اندماج الأقوام والأمم في الإمبراطورية وتوظيف قدراتها بما يخدم مصالح الجميع. وهي إشكاليات كبرى كان يصعب حلها ضمن نظام الحكم الملكي المطلق، كما أنها كانت مستعصية في ظل الصعود القومي للأمم. وقد كانت "البروتوكولات"، التي ظهرت عند تخوم القرنين التاسع عشر – العشرين، محاولة لتوليف السيطرة العالمية (في روسيا) والاستقلال القومي. من هنا تشوهها الذريع. غير أن "البروتوكولات" لم تكن توليفا نظريا مستندا إلى رؤية فلسفية عن مسار التاريخ بمعايير التقدم والمثل المتسامية، كما كان الحال بالنسبة لبرامج الحركات الاشتراكية آنذاك، بل كانت "قواعد عمل" مناقضة لها جرى استجماعها من تأمل تقاليد وأفعال ونفسية وذهنية اليهودية الصهيونية. لكن ذلك لا يعني أن اليهودية الصهيونية غير قادرة على القيام بذلك. على العكس! أنها أسيرة الاستعداد الذاتي للعمل وفق منطق هذه القواعد وروحها، التي وضعت تحت عنوان ليس له صلة بالحكمة. فهي ليست حكمة، بقدر ما هي قواعد عمل صهيون! ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحلقة الاولى - البروتوكولات الصهيونية - تقاليد قواعد العمل
...
-
الفساد والإرهاب توأم الخراب في العراق المعاصر
-
(4) الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي 3
-
2.الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
(1)الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الشعر والشاعر وإشكالية الحرية
-
فلسفة السيادة وسيادة الدولة في العراق المعاصر
-
الغلاة الجدد وأيديولوجيا الجهاد المقدس
-
التصوف الإسلامي وفكرة وحدة الأديان
-
محاكمة البعث ورموزه
-
استئصال البعث ومهمة البديل الديمقراطي في العراق
-
العراق وإشكالية المثلث الهمجي
-
القضية الكردية وإشكاليات الوطنية العراقية
-
العراق وعقدة الطائفية السياسية
-
الغلاة الجدد وأيدبولوجية الإرهاب المقدس
-
زمن السلطة
-
الطريق المسدود للمؤقتين الجدد
-
المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع
-
السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|