جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3651 - 2012 / 2 / 27 - 12:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إنَّه "دستور بشَّار"، الذي إنْ صَلُح لشيءٍ فإنَّما يَصْلُح لإعادة تعريف "الدكتاتورية"؛ فهذا الذي يريد إحكام قبضته على "الأرض والفضاء معاً"، على ما قال مُتَبَجِّحاً وهو يدلي بصوته، أعاد تعريف "الدكتاتورية (والاستبداد)"، قائلاً (وكأنَّه يريد أنْ يقول إنْ لم تَسْتَحِ فَقُلْ ما شِئْت) إنَّ "الدكتاتورية (الأسدية) الجديدة" هي "بشَّار الحاكِم بأمره، وقد لبس، هذه المرَّة، لبوس الدستور الجديد، العصري، الديمقراطي"؛ فهذا الدكتاتور، الذي يُحْكِم قبضته على سلطةٍ تَقْطُر دماً من رأسها حتى أخمص قدمها، ما عاد يضيره بشيء أنْ يُزيِّن ويُزركش نظام حكمه ولو بـ "دستور سويدي"!
"الدستور الجديد، العصري، الديمقراطي (أو الأكثر ديمقراطية)"، أين نراه؟
نراه في "المجتمعات الحُرَّة"، وفي "الدول الديمقراطية في نُظُمها السياسية، أو في أنظمة الحكم فيها"؛ لكن لكل قاعدة استثناء؛ فهذا "الدستور"، أو شبيهه، يُمْكِن أنْ يُرى في غير تلك المجتمعات، وفي غير تلك الدول، أيْ في مجتمعاتنا ودولنا العربية.
وإنِّي لأرى في "التجربة الديمقراطية" في البلاد العربية (والتي منها المشمولة بـ "الربيع العربي") ما يجعلها من الأهمية (الديمقراطية) بمكان؛ ففيها، أيْ في هذه التجربة، وبها، ثَبُتَ وتأكَّد أنْ لا "الدستور الجديد، العصري، الديمقراطي"، ولا "الانتخاب الحُر الديمقراطي"، يصلحان دليلاً على وجود الديمقراطية نفسها؛ وربَّما يصلحان دليلاً على عدم (أو ضآلة) وجودها!
إنَّها لمعركة جديدة تلك التي شرع الشباب الثائر العربي يُعِدُّ العدة لخوضها, ألا وهي معركة "تغيير الدستور", والتي من غاياتاها ومقاصدها "دَسْتَرَة الدساتير", أي جعلها دستورية; وإنَّ أوَّل ما ينبغي لنا قوله في أمر الدساتير هو ضرورة أنْ نتحرَّر, عقلاً وفكراً وشعوراً وممارَسةً, من "الأوهام الدستورية", وأهمُّها وَهْم أنَّ الدستور نصٌّ خالد, مقدَّس؛ وليس من دستور مستقل, بنصِّه وروحه وتفسيره وتأويله، والأفعال التي يُتَرْجَم بها, عن العلاقة, وعن جوهر وخواص العلاقة, بين "الحاكم" والمحكوم"; فإنَّ الدستور هو دائماً وأبداً, ولو "أقرَّه" الشعب, "الإرادة العليا للحاكم, مُعبَّر عنها بلغة قانونية"; والحاكم لا يريد إلاَّ كل ما تقتضيه مصلحته في البقاء حاكماً, وفي توطيد حكمه.
والحاكم هو وحده الذي يحقُّ له خَرْق وانتهاك دستوره, فتَناقُض مصالحه (الواقعية) قد يجعله في تَناقُض مع بعضٍ من دستوره, فَتَغْلُب مصلحته الجديدة مبدأ "التزام الدستور", نصَّاً وروحاً.
وويلٌ للدستور, وعبيده وعَبَدَتِه، إذا ما ثَبُت وتأكَّد للسيِّد الرئيس أنَّ دستوره, على نفعه الجزيل له, لا يفي بالغرض, ولا يَخْدُم مصلحته على خير وجه; فإنَّه, عندئذٍ, يحيل الدستور على التقاعد, لِيَشْرَع ويَسِن لحكمه قانوناً جديداً, وكأنَّ البلاد قد حلَّ بها (أو يوشك أن يحل بها) من الكوارث والمصائب والنوازل ما يشدِّد الحاجة إلى نبذ الدستور في إدارة شؤونها وأمورها, وإلى الاستمرار في هذه الإدارة (المنافية للدستور, والمضادة له) زمناً طويلاً (عشرات السنين).
الحاكم العربي ما عاد (والحمد لله) يستمد شرعيته في الحكم من السماء, وإنْ ظلَّ بعض الحُكَّام مُفَضِّلاً "شرعية أرضية يخالطها نزر من الشرعية السماوية". إنَّه يستمدها الآن من "الدستور"; أمَّا الدستور نفسه فيستمد شرعيته من "الشعب"; لكن هل من "شرعية شعبية" إذا ما كان الشعب نفسه "غير حُرٍّ"?!
إنَّ "المجتمع الحُرُّ" هو وحده الذي فيه, وبه, يوجد "الشعب الحُر", فيحظى "الدستور", من ثمَّ, بـ "شرعية شعبية", ويحظى "الحاكم", من ثمَّ, بـ "شرعية دستورية".
وهذا إنَّما يعني أنَّ غياب "المجتمع الحُر" يُغيِّب, حتماً, "شرعية" الدستور والحاكم معاً.
ولن ينال من قوَّة هذه الحقيقة أنْ نرى "أعراساً انتخابية" تضم الأكثرية, أو حتى الأكثرية الساحقة, من الناخبين العرب; فهذه "الأكثرية الشعبية" هي خير دليل على أنَّ "الشعب", أو "المجتمع", ما زال "أقلية سياسية".
"الديمقراطية" أوَّلاً، أيْ قَبْل "الدستور"، وقبل "انتخاب الرئيس"؛ فأوَّلاً, وبادئ ذي بدء, يتمكَّن (أقول "يتمكَّن" ولا أقول "يُمكَّن") الشعب (أفراداً وجماعات) من ممارَسة حقوقه الديمقراطية والسياسية والمدنية كاملةً غير منقوصة; وهذا إنَّما يعني بدء مرحلة انتقالية (ليست بالقصيرة) فيها من الحرِّية والديمقراطية والحراك والجدال والتفاعل.. ما يكفي لولادة المجتمع الحُر; والحاجة إلى هذه المرحلة لا تنتفي مهما خالطها من أخطاء وخلال وسلبيات, فالناس لا تتعلَّم إلاَّ من تجاربها, ومِمَّا انطوت عليه هذه التجارب من أخطاء وخلال وسلبيات.
ولا بدَّ للأفكار والآراء والمقترحات الدستورية من أن تكون مدار الجدل الشعبي والحزبي في المرحلة الانتقالية; فمن هذه الطريق يأتي الدستور الديمقراطي الجديد العصري.
قد يزدحم "الشارع السياسي", في المرحلة الانتقالية, بالأحزاب والمنظمات والجماعات السياسية, فـ "يتعرقل السير"; لكنَّ هذه الحال لن تدوم طويلاً; فإنَّ ما يشبه قانون "الانتخاب (أو الانتقاء, أو الاصطفاء) الطبيعي" سيَفْعَل فعله, محوِّلاً هذا الشتات الحزبي إلى نقيضه .
كل شيء في الحراك الشعبي الذي تعرفه بلاد "الربيع العربي" يعتمد اعتماداً أساسياً على الفترة, أو المرحلة, الانتقالية, لجهة طولها, وخواصها وسماتها الجوهرية; فمن غير عملية انتقالية كافية سياسياً لن نرى من التغيير السياسي والديمقراطي إلاَّ ما يضمن لنظام الحكم القديم, القائم على الاستبداد الشرقي.
والحاجة عندنا إلى فترة انتقالية مخصوصة تشتد; لأن مجتمعنا لم يعرف, أو لم يُمَكَّن من أن يعرف, حياة حزبية سياسية حقيقية, يتهيأ فيها, وبها, للمجتمع, أو للشعب, من الأسباب والشروط ما يكفي لإنشاء وتطوير تمثيل حزبي سياسي له, يقوم على التعددية.
أولا, وقبل كل شيء, لا بد من الحراك الشعبي; فالآلاف وعشرات الآلاف من المواطنين يجب أن ينزلوا إلى الشوارع والميادين والساحات العامة في العاصمة وسائر المدن المهمة, وأن يعتصموا ويحتشدوا, ويعبِّروا عن مطالبهم العامة, وينظِّموا أنفسهم (وحراكهم) بأنفسهم; فهذا الحراك الدائم المستمر المتعاظم السلمي هو وحده أداة الضغط والتغيير الكبرى التي لدى الشعب في صراعه من أجل الدولة المدنية الديمقراطية التي فيها, وبها, تكون السيادة الفعلية والحقيقية للشعب, وللشعب وحده.
وفي هذه الفترة الانتقالية, التي قد تدوم سنة مثلا, تتصرف الدولة بما يشعر كل مواطن, وكل مجموعة أو جماعة من المواطنين, بزوال كل الأسباب التي كانت تمنع الناس من التعبير بحرية تامة عن أفكارهم وآرائهم ووجهات نظرهم وميولهم ومعتقداتهم ومشاعرهم ومطالبهم..; فـ "الشفافية" السياسية والفكرية يجب أن تسود, و"الباطنية" السياسية والفكرية يجب أن تنتهي; وينبغي للفرق بين باطن المرء وظاهره أن يضمحل ويتلاشى.
كيف تنتهي (أي كيف يمكن ويجب أن تنتهي) هذه الفترة الانتقالية الضرورية والحيوية, والتي فيها الحد الفاصل ما بين نظام الحكم القديم ونظام الحكم الجديد?
إنها تنتهي بما يمكن ويجب أن يؤسس لـ "الجمهورية الثانية" إذا ما كان نظام الحكم العربي جمهورياً, ولـ "المملكة الثانية" إذا ما كان نظام الحكم العربي ملكياً; وهذا إنما يعني, ويجب أن يعني, أن تنتهي (أي تتوَّج) الفترة الانتقالية بالانتخاب الحر لـ "جمعية تأسيسية", تضع دستوراً (ديمقراطياً) جديداً للبلاد, ويتضمن (في ما يتضمن) نظاماً أو قانوناً جديداً (ديمقراطياً عصرياً) للانتخاب; على أن يُعْرَض هذا الدستور (أي مشروع الدستور) على الشعب, ليقول كلمته فيه في استفتاء شعبي; وهذا الدستور يجب أن يتضمن كل الحقوق التي يتمتع بها الأفراد والجماعات في الدول التي عرفت الحياة الديمقراطية الحقيقية منذ زمن طويل; فهذه حقوق عالمية, غير قابلة للاجتزاء والانتقاص بدواعي الخصوصية القومية والثقافية..
وإنَّ هذا الذي تنتهي (أي يجب أن تنتهي) إليه الفترة الانتقالية, بسماتها وخصائصها الجوهرية التي شرحنا وبسطنا أهمها, يعني عملياً وواقعياً التأسيس لـ "بنية تحتية (دستورية وقانونية وسياسية..)" لنظام حكم جديد (أكان جمهورياً أم ملكياً) يتحقق فيه, ويتأكد, مبدأ "السيادة (الفعلية والحقيقية والتامة) للشعب", ويَجْعَل "التغيير (كل تغيير)" يريده الشعب, أي الغالبية الشعبية, ممكنا, ويُكْسِب مبدأ "التداول السلمي الديمقراطي للسلطة" كل ما افتقده حتى الآن من واقعية وصدقية وثقة شعبية, فـ "السلطة الفعلية الحقيقية" لا "الشكلية (أو الجزئية, أو المنقوصة)" هي التي يجب أن تكون محل تداول (بين الأحزاب والائتلافات الحزبية البرلمانية).
أقول ذلك وأنا أعلم أن المصالح الفئوية الضيقة للقابضين على زمام الحكم والسلطة, والتي لا يمكن أن تكون متصالحة مع نظام الحكم الديمقراطي الجديد, هي التي تدفع أصحابها إلى خوض الصراع بطرائق وأساليب ووسائل لا يمكن أن يترتب عليها من النتائج إلا ما من شأنه أن يظهر ويؤكد عمق الانفصال بين "الدولة" و"المجتمع".
ولو أردتُّ أنْ أُعرِّف "الاستبداد", الذي هو روح أنظمة الحكم العربية, لَقُلْتُ إنَّه الحاكم الذي في مستطاعه أنْ يصطنع له "جماهير شعبية", فيَجْمَع, ويَحْشِد, ويُسيِّر, وقتما يشاء, وكيفما يشاء, عشرات ومئات الألوف (والملايين) من المواطنين, مؤكِّداً, من خلال ذلك, لكل من له عين تُبْصِر, وأُذْن تسمع, وعقل يعقل, أنَّ الشعب يكرهه ويمقته حقَّاً, ويتمنى له سرعة الزوال, فليس من الذهب, ولا بشيء يشبه الذهب, هذا "اللمعان الشعبي" للحاكم, والذي يرينا إيَّاه في أوقات الضيق والشِّدة, أو عندما يصبح قاب قوسين أو أدنى من سقوطه المحتوم.
والشعب يعرف على خير وجه، وفي سورية على وجه الخصوص، "كيف (أي مجموع الوسائل والطرائق والأساليب)" يَسْتَجْمِع الحاكم العربي ما يَسْتَجْمِع من "تأييد" الشعب له; وإنَّه, أي الحاكم نفسه, هو آخر إنسان عاقل يمكن أنْ يُصَدِّق أنَّه يتمتَّع فعلاً بوزن شعبي كهذا, فلو صدَّق (أي لو ارتضى أنْ يَخْدَع نفسه أيضاً) لَمَا بقي في الحكم ساعة واحدة.
وهذا ما قد يَحْمِلَه على اختراع وابتداع جُمْلَة من "الإصلاحات السياسية والديمقراطية.." التي تبقي جوهر وأساس العلاقة بينه وبين شعبه بمنأى عن الإصلاح والتغيير; أمَّا سلاحه الذي لا يتخلى عنه أبداً في صراعه من أجل البقاء فهو "الشعب المنقسم على نفسه". إنَّه لن يقف, من حيث المبدأ, ضدَّ "الإصلاح"; لكنَّه يريده "إصلاحاً" لمجتمع, أو شعب, مُفتَّت, مجزَّأ, فئاته وجماعاته جميعاً تخشى بعضها بعضاً, ويرتاب بعضها في بعض, ويَنْظُر بعضها إلى بعضٍ على أنَّه عدوٌّ مؤكَّد أو مُحْتَمل; وكأنْ لا "إصلاح" يُمْنَح للشعب إلاَّ بعد أنْ يُثْبِت الشعب أنَّه شعوب, تحتاج دائماً إليه إذا ما أرادت لـ "تعايشها السلمي" أنْ يستمر ويدوم; فهو وحده صمَّام الأمان للشعب والوطن; فَلْيُعْطِ الشعب حاكمه مزيداً من انقسامه على نفسه, لِيَحْصَل منه على مزيدٍ من "الإصلاح" الذي يبقي أساس الحكم بمنأى عن الإصلاح.
إنَّ دولنا العربية لم تَسْتَقِلَّ بِعْد; وخير دليل على ذلك هو أنَّ سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" الاستعمارية ما زالت السياسة التي تَعْمَل بها أنظمة الحكم العربية في داخل مجتمعاتها؛ ولن نَعْرِف الديمقراطية ما بقيت شعوبنا تُعْلَف في حظائر السلاطين, مُصَفَّرةً سياسياً وسيادياً, مُغْتَصَبَةٌ حقوقها السياسية والديمقراطية, وما بقي جوهر وأساس العلاقة بين "الحاكم" و"المحكوم" هو الآتي: الحاكم فرد (مؤلَّه) والشعب أفرادٌ (وكل فرد ضدَّ الآخر, ويقول "اللَّهم نفسي").
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟