|
-قراءة اللاشعور فى الرواية- رواية السيد نجم نموذجا-
شوقى يوسف بدر
الحوار المتمدن-العدد: 3649 - 2012 / 2 / 25 - 20:54
المحور:
الادب والفن
قراءة اللاشعور فى النص الروائي رواية "الروح وما شجاها" للسيد نجم نموذجا
"حدثتني يوما وهى تقول لماذا خلقت؟ لماذا خلقت؟ كي تشتهى، وتموت". "أوبرا تريستان وأيزوالد" لفاجنر
تقول مارت روبير فى كتابها "رواية والأصول وأصول الرواية"، هذا الكتاب المعنى بالرواية والتحليل النفسي: إن الرواية فى التحليل النفسي هي مجموعة الاستيهامات والصور التي يبتدعها الروائي وبها يستعيد، على شكل غير مباشر إستيهامات وصور أقدم، كانت فى حينها الصدى الأول للرغبات المكبوتة والتعبير الأقرب إليها. وهذه الرغبات هي بالأصل جسدية، ولا يمكن التمييز فى الرغبات بين الفردي والاجتماعي، وتتكون الرواية، أول ما تتكون، على غرار أحلام اليقظة، أي بين الحلم والواقع، الوهم والحقيقة، اللاشعور والشعور، الذاكرة الأولى والراهن.. ويبلورها التعبير فى نص هو حصيلة إعداد طويل يختفي وراء مسافات من الحجب الكثيفة منها الأسطورة الأسرية الأولى التي يستطيع التحليل النفسي وقراءة اللاشعور وحده كشفها" (1) على هذا النحو تبدو رواية الأسرة أو رواية الشخصية هي التعبير الحقيقي فى مواجهة الذات مع نفسها، وهى البعد المسيطر على جوانب النص الروائي فى هذا النوع من الكتابة، خاصة عندما تكون الشخصية المحورية داخل النص، شخصية غرائبية النزعة والتفسير والتماهى، لها هواجسها الخاصة، وبوحها الذاتي، ووساوسها المضمرة، المتعلقة بشؤون حياتها، وحين تبدأ خيوط تعلقها بالحياة مع هذه الوساوس والهواجس تتفتح وتظهر منذ بداية النشأة والتكوين والتشكّل، حتى وبعد أن تتنامى فى مراحل التحّول المختلفة داخل نسيجها الحياتي المحتدم دائما، حينئذ تبدأ الأبعاد السيكولوجية فى تجربة خاصة من الفعل ورد الفعل تتفاعل وتتماهى حصيلتها فى النص الروائي فى مجموعة من الممارسات، خاصة ما نجده متواجدا فى أنثربولوجيا المجتمع، وما يدور فى مجتمعات الأسر الفقيرة والمهمشة، والواقعة، تحت منحنى خط الفقر، ومن خلال الواقع السري المضمر للإنسان فى مختلف جوانب حياته، وهو ما يقودنا فى العمل الروائي إلى منحنيات كثيرة وزوايا حادة تعرفنا بؤر الشخصية الشعورية واللاشعورية، وبحسب ما قاله جان بيلمان – نويل فى كتابه "التحليل النفسي والأدب"، ": "إن القارئ الذي يسبح فى النص لأجل الإصغاء إلى عمل لا شعوري، عندما يأخذ القلم ليتوجّه إلى الجمهور، عليه أن يكتشف فى نفسه وسائل تسمح له بنقل هذا العمل إلى لاشعور قرائه". (2) وفى رواية "الروح وما شجاها" للروائي "السيد نجم" يبدو النص وكأنه يتماهى مع واقع المتخيّل السردي، وتتبلور ملامحه من خلال واقع ما يجرى فى ذات الشخصية من أحوال بدت حاشدة لكثير من الأمور والممارسات الذاتية والمعرفية التي مرت بها هذه الشخصية منذ مرحلة الطفولة وحتى مراحل متأخرة من العمر، تتجاوز الخمسين عاما، ولعل المؤثرات الكامنة فى ما سيطر على نزعاتها، وتجذّر فى منحنيات نفسها من أمور ومواضعات وأحوال وهو الذي شكّل فيها حالة من حالات التفاعل مع المجتمع وصلت إلى حد الاحتدام المرضى والنفسي، وأصل داخل الشخصية ذاتها ما يشبه الحالة المرضية التي طالت النفس وعزلتها عن كثير من جوانب المجتمع، فى شتى أطواره، ولعلنا فى قراءتنا لمحوري الشعور واللاشعور فى هذا النص الروائي، لا بد لنا أن نأتي إلى بؤرة النص من خلال البحث عن شفرته، وعن أيقونة الشخصية، وعلامة المعنى ومفاتيح القراءة فى أمور تخص الفعل بالدرجة الأولى، ثم رد الفعل الكامن داخل جنيات الحدث والشخصية خاصة ما يتحلق حول اللاشعور المستحوذ على بؤرة الذات، فى كل سكناتها وحركاتها، وعلى كل ما يصادفها من بؤر تتفاعل مع النفس، وتؤثر فى ممارساتها وتصرفاتها من قريب أو بعيد.
النص وقراءة اللاشعور : يقول "فرويد" حول اللاشعور: هو منطقة رغبات الفرد وأهوائه، وغرائزه الطبيعية عامة، والجنسية خاصة، التي يحرمه المجتمع من التعبير عنها وتحقيقها، ولهذا تصبح هذه المنطقة مخزنا للمكبوتات والمحرمات على أنها فى الحقيقة ليست مجرد مخزن، بل هي قوة محركة ودافعة وموجهة – رغم خفائها– لسلوك الإنسان الظاهري، وليس المجتمع وحده المسؤول عن مكونات هذه القوى، بل هناك حسب نظرية فرويد عوامل أخرى متعددة، تسمى منطقة اللاشعور هذه باسم (الهي) .(3) وقراءة اللاشعور داخل هذا النص الروائي هو المنحى الذي نحاول أن نعّول عليه فى هذه القراءة من خلال تناول عدة إشكاليات تتمحور جميعها حولها مقاربات الشخصية فى شتى أطوارها المعيشية منذ النشأة الأولى، كذلك (الهي) فى شخصية "يوسف" كما يشير فرويد، وهى الرغبة المكبوتة، والنزوع الدائم إلى فعل كل ما يريد، بطريقة لاشعورية أملتها عليه المواقف والأحداث والمناخ المتواجد فيه، هو يقف وهو طفل صغير فى شرفة المنزل يتابع لعب الأولاد فى الشارع بينما هو منفرد بهذا المشهد فى شرفة المنزل وشعوره الذاتي يجسد له أنه يلعب مع هؤلاء الأولاد العفاريت عبثهم": يدخل الصغير لاهثا يكسوه العرق فى عز الشتاء من فرط انفعاله الصامت مع رفقاء الشارع.. فتسرع أمه تدفعه أمامها نحو الرشاش البارد بالصراخ والسباب على الشقاوة!" (4)، نجده أيضا فى مشهد أخر، وهو فى وظيفته وعمله الفندقي لديه رغبة طاغية فى أن يعمل كل شئ نافع ومفيد، هذه الرغبة ناتجة عن لاشعوره الذاتي ورغباته الدفينة، وهذا التفاعل الناشئ عن اللاشعور بين زملاء العمل الذي أطلق عليهم "الأنذال"، من خلال ما يحدث داخل إدارة الفندق الذي يعمل به كرئيس للحسابات من ممارسات فجة يمليها واقع العمل والعلاقات المتشابكة بين الإدارة والعاملين وبين المرؤسين والرؤساء، وما يحدث عن مستوى المعنى والمبنى فى هذه المؤسسة الفندقية، بين الأفراد من جهة وإدارة الفندق من جهة أخرى. هي فى الحقيقة تسبب له منغصات حياتية داخل محيط العمل بسبب كمية الفساد المرتبطة بها، ومن ثم فهي سرعان ما تنعكس على ذاته، وعلى ممارساته الشخصية معهم، ومع دولاب العمل بأكمله، كذلك ما كان يحدث بين أفراد عائلته التي أطلق عليهم "القبيلة"، والذي شكل الموت لديهم حالة خاصة من حالات التواجد المتتابع المستمر، ما سمعه عن موت أخوته وهم صغار، ثم موت الجد، والسر المختبئ وراء اختفاء الأب، أو بمعنى أصح موته الغامض، ثم رحيل الخال للاشتراك فى حرب اليمن، وموته العبثي على قارعة الطريق، وأخيرا موت الأم، هذا التدافع الغريب فى حالات الفقد التي طالت حياة يوسف شكلت لديه نوعا من الاكتئاب النفسي وموات الذات والميل إلى العزلة والانطواء طال جوانب حياته المختلفة. وقد انعكست آثار هذا الفقد حين تواجد يوسف، بين زملاء التجنيد فى مرحلة تواجده بالقوات المسلحة، أو مع جيرانه فى مسكنه الخاص، خاصة ما ارتبط بعنصر المرأة المتواجد بكثافة كبيرة داخل هذا المنحى، الأم فى مرحلة الطفولة، و"سعاد" فى مرحلة المراهقة، وتفتح رجولته وفحولته على يدها، ثم "سونة" وتجربته العاطفية معها، كذلك تشابك العلاقات بين أصدقائه فى الشارع والمقهى والسوق وكل الأماكن الذي تواجد فيها. لقد شكلت هذه المقاربات وهذا التلاحم مع مناخ بيئاته المختلفة نوعا من "ثرثرة الصمت" كما أطلق عليها الكاتب فى نزوع الشخصية إلى الانغلاق والعزلة والتقوقع الذي فرضها على ذاته منذ نشأته الأولى فى منزل الأسرة، فشخصية "يوسف عرفة" وتفاعلها مع ذاتها ومع المجتمع المحيط بها، تتناولها هذه القراءة النصية حول الموت والألم والمرض والجسد والجنس والعنف وبقية ما يحيط بالشخصية من تفاعلات ذاتية ونفسية مرت بها. ربما تكون قراءة الموت هي المقاربة المسيطرة على عدة جوانب داخل النص خاصة تلك المتهيئة لواقعة الأم التي كانت تخاف عليه من هذا الموت فادعت إنه أنثى، وحاكت له ثيابا أنثوية، بل ووصل الحد إلى أنها خرمت له أذنه حتى تتجنب الحسد، وموته كما مات أخوته من قبل. كذلك هذا الحوار الدائر بين الخال والجد حول متناقضات الحياة المختلفة خاصة تلك المتحلقة حول الماء والموت، الجد المولع بالماء كدلالة لاستمرار الحياة بكل أبعادها، طقوسه مع هذا العنصر تبدأ من الفجر وتمتد إلى كل شئ حوله، وحتى ساعة متأخرة من الليل": الجد يتجرع كميات كبيرة من المياه إن صباحا أو مساء، أو فى ساعات الليل، سواء شعر بالعطش أو لم يشعر. يبقى على حال التعلق بالماء طوال اليوم، كأنه يخشى انقضاض ملاك الموت عليه قبل اقتناص جرعة ماء، ربما تحميه وتلطف من جوفه فى حومة جهنم".(5) . بينما الخال الفكه والذي يرمى الحياة بأقذع النعوت، ودائما ما يخرج حديثه إلى الإباحية والفكاهة، ودائما ما يلعن الحياة ويسكب عليها النعوت المنتقاة من البيئة والحالة السائدة. أما قراءة الألم فقد جاءت مقرونة بمحاولته معرفة نفسه والوقوف من أحواله عن هوية الذات عند هذا اليوسف، كانت الآلام ما فتئت تحاصره، وتحاول أن تنال منه، كان يصمد أحيانا، ويسقط أحيانا أخرى": وهو فى طريقه إلى شقته العلوية، شعر أنه لا يملك الشجاعة لأن يتجاسر بتفسير واقع الناس من حوله. قائم على الزيف والخداع. إن سبر أغوار هذه الحالة التي عاشها حالا والتي يستشعرها فى نفسه. حقيقة الحقيقة أن هناك ما يهددنا من داخلنا، فيصبح السلوك أشبه بالجنون، وربما بسبب فكرة الموت المنحوتة داخلنا، ترى عما يدافع ويقاوم حتى نسى أمه بعد ذلك كل هذه السنوات؟!" (6) ثمة بعد آخر فى قراءة اللاشعور فى شخصية يوسف هذا البعد يكمن فى هوايته التي تستحوذ على هواجسه وذاته بطريقة شبه مرضية، وهى حالة من حالات الرغبة اللاشعورية تدفعه نحو الالتحام بماديات الحياة المتمثلة فى كثير من منافعها وأشياءها، لذا كانت هواياته الذاتية نابعة من هذا المنطلق، جمعه للعملات الورقية والمعدنية، واقتنائه أنوع من الأزرار، ثم ورق الشيكولاته والبومبونى، والطوابع، ثم عروجه على سوق الحمام مع أمه ومحاولته امتلاك زوج من الحمام الهزاز، كرغبة ربما كانت تدفعه إلى الانطلاق والتحليق مع هذا الطائر، حتى إنه عندما وصل إلى المنزل أطلق سراحه وطيّره، كنزعه داخله تدفعه إلى ذلك. كذلك ميله إلى خاله الشاويش حسين الذي كان يأخذه معه فى مباريات كرة القدم التي كانت تقام وقتئذ، والذي فتّح مداركه نحو الجنس بنكته الإباحية، وجلساته المتحلقة حولها. كما جاءت رغباته المكبوتة وغرائزه المضمرة فى محاولات عدة لولوج أول مدارج الجنس، كانت سونه هي آخر هذه المدارج، ومع ذلك كانت كثيرا ما تقتحم عالمه بطرقها المختلفة": فور أن اقتحمته، تندرت عليه، فعلت مثلما فعل زملاءه فى الفندق، بررت أحواله ونظام حياته، وتعلقه بتلك الأمور الغريبة الطائشة إلى الفراغ.. لأنه لو انشغل بزوجة وعيل ما عاش يوما واحدا مثلما رأته. فى هدوء سألته؟ برر لها حب اقتناء الزهور والصبار، ثم جمع العملات النقدية والورقية والمعدنية حتى الصدئ المتآكل منها، بل حتى الديدان والحشرات مع الأشياء الغريبة مثل أوراق لف الشيكولاتة والتوفى والبوبونى.. لأنه مدفوعا من قوة لا يعلمها.. كل ما يشعر به أنه يرغب فى أن يعيش مع تلك الأشياء.. وينشغل بها". (7).
النص والعنوان العنوان هو نوع من التخييل الخاص تتواجد آثاره ودلالات مفرداته داخل نسيج النص، كما يمنح هو أيضا من بؤرة مفرداته، هو المعنى الحقيقى – أو هكذا يجب أن يكون – للدلالات النابعة من داخل النص، وهو أول دالاته، لذا نجده يتواجد داخل نسيج الرواية فى أكثر من صورة، وأكثر من معنى، وأكثر من دلالة. إن لم يكن يحتوى المعنى الشامل داخل مفرداته المكثفة، والمقطرة إلى أبعد الحدود. وقد سبق للكاتب أن احتفى بهذا العنوان على وجه التحديد "الروح وما شجاها" فى أكثر من موضع إبداعي له، فقد استخدمه قبل ذلك فى نص من نصوص القص القصير، قبل استخدامه كعنوان لهذا النص الروائي، فقد نشرت قصة قصيرة تحت نفس العنوان، أكثر من مرة فى "جريدة العرب العالمية" فى العدد المؤرخ 23 أكتوبر 2003، ثم تضمنتها مجموعة "غرفة ضيقة بلا جدران"، وإن كانت القصة القصيرة قد تناولت واقع لجندي عائد من الجبهة وزوجته الشابة التي تنتظر رجوعه بشبقية طاغية بينما يقابلها هو بسطوة حكائية خاصة لما حدث على أرض المعركة، بتفاصيلها السردية المملة من وجهة نظر الزوجة، مما يجهض شبقية الزوجة، وتتفاعل الرؤيتان بين الجندي وزوجته حتى تصل فى نهايتها إلى حد الصدام والاحتدام، لذا كان العنوان فى هذا النص معبرا عن روح كل من العلاقة السائدة بين الاثنين وما شجي كل منهما فى تقاطع وتشابك العلاقة بينهما. بينما كان العنوان فى النص الروائي شاملا لشريحة كبيرة من الحياة وما دار فيها من شجو الروح وتفاعلها مع العديد من المواقف الاجتماعية والميتافيزيقية، وفى عنوان العتبة الأخيرة من النص نجد هذا العنوان "الثعلبة" لقد جاء هذا العنوان لينهى العلاقة بين المتلقي والنص من ناحية، وبين الكاتب والنص من ناحية أخرى، حين أصاب داء الثعلبة يوسف فى رأسه جراء التوترات النفسية الذي تعرض لها، وقد حاول معالجة هذا الداء بشتى الطريق ولكنه فشل فشلا ذريعا، وقد أصاب الحاج شفيق العطار فى سوق الوايلى حين قال له بأن الوراثة من أسباب الثعلبة. وكأن هذا المرض، كان هو الذي وطّن به الكاتب حالة يوسف وحالة العرب حين أنهى هذا النص بخبر غزو العراق للكويت، لقد أصابت الثعلبة الكبرى رأس يوسف ورأس الأمة، وحين يلحق أحد أطفال سكان المنطقة بيوسف أثناء هرولته إلى بيته ليقول له": شفت الخبر الأسود، تعالى فهمنا اللي حصل، أنت صحيح مجنون شوية لكن متعلم عن كل اللي فى الحارة!. لم أجد ما أعلق به، كيف تسألونني عن رأى وأنا المجنون؟ انتبهت على من يتعلق بالبنطلون، نظرت إلى أسفل، سمعته يقول: "هي فين العراق والكويت يا عم يوسف.. قريبين من مصر؟ اندفعت مفضلا عدم الإجابة، ترى بماذا أرد.. أتمنى لو قلت: إنهما بلدان بعيدان.. هناك... فى مكان أقصى.. على الكرة الأرضية (8). لقد كانت هذه الإجابة هي القراءة الأخيرة فى منطقة اللاشعور عند يوسف فند بها رؤيته على الحالة المتردية التي وصلت إليها رأسه ورأس العرب كلهم.
النص وإشكالية الموت سيطرت إشكالية الموت على واقع النص منذ البداية وحتى نهايته، وجاءت هذه الإشكالية لتحدد ممكنات الحياة من خلال الموت، كما سيطرت أيضا فلسفته، وما تشير إليه نحو هذه الإشكالية، أقوالها، وأفعالها، ومنظّريها، فى أكثر من موضع من النص، ولعل الاستهلال الأول لهذه الإشكالية جاءت فى المفتتح الأولى من النص فى هذا المقطع الدلالي": حتى لحظة عبوره مدخل الفندق واكتشافه لظله، كان يظن أن الأنذال، زملاء العمل، يكذبون عليه ويسخرون منه. فلما رمى نظرة فاحصة ولم يسقطها كعادته فى رؤية الأشياء أو أثناء محادثة الناس.. ظن أنه شبح الموت وقد تجسد جليا مع بريق زجاج البوابة الفيميه البني، فقال: "أسمى يوسف عرفه، ملابسي من ريش الطير، أقيم فى حي العباسية. أما أنت الذي أكرهك وأمقتك، لأنك أخذت أهلي وناسي منى.. أراك الآن تسعى لأن تلحق بى. قدر أنت أية جريمة اقترفتها فى حقي؟! لخمسين سنة ظننت أنني أهرب منك، لا أبحث عن ملامحك وأسرارك، ولخمسين سنة تركتني. لماذا الآن تبين لي؟!" (9). كان خوفه من الموت بعد رؤيته له فى أكثر من موضع يسبب له هذه الحالة من الرهبة والخوف، كان استشعاره من قربه له هي رغبة خالصة للحياة، لذا كان دائما ما يستشعره ويحس به قريبا منه فى صور شتى، وكما يقول الفيلسوف الرواقي سنيكا ": إذا أردت ألا تخشى الموت، فإن عليك ألا تكف لحظة عن التفكير فيه" (10) حتى فى المقطع الذي أخذ عنوان "للموت شكل آخر" وهو المقطع الخاص بالتجنيد استهله الكاتب بهذه العبارة": من منكم يظن أو يعتقد ولو للحظة مجنونة، أن على الأرض بشرى يمكن أن يسير على قدمين.. يأكل ويشرب.. يتكلم أحيانا.. ينام ويصحو، لكنه على الرغم من ذلك كله ميت! منذ أن خطى الخطوة الأولى له نحو عتبات مركز التجنيد بحي حلميه الزيتون، شعر يوسف وكأنه ميت" (11) كان الموت بالنسبة له هو هاجسه الدائم المستمر، وهو شغله الشاغل، ربما هو هاجس قديم بقى معه منذ طفولته عندما سمع بموت أخوته، وكانت أول مداركه التي استوعبتها عقليته فى هذه المرحلة السنية المبكرة هو موت الجد، عندما أحضر له كعادته ذات يوم قلة الماء ليشرب ولكنه وجده فارق الحياة، وكان المشهد بالنسبة له مشهدا مأسويا صارخا حيث شارك هو فيه وكانت تلك هي المحطة الأولى للعبة الموت مع الصغير "يوسف": لم يطل المشهد. صاح يوسف. تمنى لو يقدر على إيقاظ الجد، لم ينجح، بقى معلقا بجده النائم، بينما أجساد الأهل والجيران تتوارد وتكتظ بهم الغرفة.. فلما صاح فيهم أحد الجيران، خرجوا جميعا وقد نسوا أن الصغير هناك منزو فى الركن البعيد". (12) فى جبهة القتال أيضا كان الحديث عن الموت يرتكز دائما فى مخيلة اللاشعور، حيث كانت الكتب التي يحب قراءتها دائما ما تكون عن فلسفة الموت، مناقشته مع زملاء الخندق كانت غالبا ما تدور حول هذا الموضوع، حتى فى فترة حرب الاستنزاف عندما بني دشمته فوق سطح الأرض زرع حولها نوع خاص من الصبار، وعندما أحضر له زميله "ظريف" كتابا عن فلسفة أرسطو كان حديثهما حول آراء أرسطو فى الموت": يبدو أن ظريف كان جادا فى قراءة هذا الموضوع، لم يهمل الكتاب وقرأه، لكن اتفقا أن يقرءاه معا، وتكفل يوسف بالشرح. اخبره أن الكتاب عرض فى البداية رأى "أرسطو" فى الموت:" إن كل كائن حي فى العالم له جوهر يقوم عليه، وهو جزء من سلسلة من العلل، وداخل فى طريقه لأن يكون شيئا آخر"13 كذلك كانت عبثية الموت عنده لها روافد كثيرة فى رأيه حتى عندما علم بموت خاله الشاويش حسين اثر سقوطه من على الرصيف فى ميدان التحرير، عجب لهذا الأمر فخاله قد حارب فى جبال اليمن، وتعرض للموت والقتل كثيرا، وحارب فى سيناء وتعرض لمدافع الألف رطل ولكنه لم يمت، ولكنه مات فعلا عندما سقط من على الرصيف، كانت عبثية الموت فى هذه الحالة محل جدل كبير استشعرها يوسف فى نفسه.
بنية النص تنقسم الرواية إلى أربعة أقسام فى كل قسم تتشكل بنية خاصة، تندرج تحتها مشاهد متواترة تفصح عن بعض زوايا ومحاور التجربة النصية والرؤية، كما تتمحّور كل رؤية نصية، وتستقل بتجربتها، وتكمل ما شجته الروح فى مراحلها المختلفة الصغيرة والشابة والكبيرة، ما مارسته وما مورس معها طوال فترة حياتها الخاصة والعامة. فى الثلاث أقسام الأولى يتحرك السرد من خلال الراوي المخاطب، وهو السارد، والراوي، والحاكي، والمتحرك فى جميع الأنحاء من منظور العليم ببواطن الأمور، أما القسم الرابع والأخير فقد جاء من خلال الراوي بلسان المتكلم المشارك ببوحه وهاجسه ووساوسه فى نسيج هذا القسم من النص. وقد بدأ النص بتماهى شخصية يوسف مع إشكالية الموت، وسرعان ما تغلغلت ذاته فى بؤرة النص عن طريق الفلاش باك والعودة إلى الطفولة وتواتر المراحل السنية المختلفة بما فيها مرحلة التجنيد التي شكلت جانبا مهما فى نسيج النص، ثم تسريحه من الجيش والعودة إلى هواجس أخرى فرضتها عليه الحالة النفسية التي وجد نفسها إزاءها، ومنها زراعته لنبات الصبار على سطح سكنه فى أصص خاصة استخدم لها نوعا خاصا من الصفائح، والوهم الذي عاشه فى حياة شبه روتينية يصيبها الملل من كل جانب، كان يوسف": يملك قدرا وافرا من الخيال كفيلا بتحويل العالم إلى مزق لا يعوقه أي شئ" (14) لذا كان لا بد أن يوجه كل همه إلى النساء خاصة حينما وجد أمامه أحاديث أم سلامة التي كانت تقطن معه فى نفس منزله وتحكى له ما يدور فى محيط الحي، كذلك تلصصه على الفتاة سونه التي تسكن أسفل مسكنه من نافذة المطبخ، وتتبع السباب المقذع الذي كان يطلقه أباها عليها كل ليلة، وتتواتر عتبات النص المختلفة المتمثلة فى عناوين أجزاء من البنية النصية، والبنية المشهدية، كل عنوان يشير إلى حادثة حدثت له أو سمع بها، حادثة المنصة واغتيال السادات، وسونه التي فوجئ بها تعمل معه فى النادي الليلي بالفندق الذي نقل إليه من وظيفته، وسعاد التي حاولت إغرائه حتى وافق أخيرا على الزواج منها، واستشعاره للموت من خلال تذكره محاولته وهو صغير أن ينظر إلى الشمس عله يرى أخوته الذين ماتوا وهم صغار فى أشعتها القوية، وفى مجالس أم صيام عرف النساء، والبيت وجالسهن، وعرف أسرارهن الشبقية، والشخصية بالتفصيل، كما علم بشأن الخطابات التي كان يقرأها للعجوز أم سلامة والتي كان يرسلها لها أبنها سلامة من الخارج بينما هي فى الحقيقة خطابات غامضة يكتبها لها ساعي البريد على لسان أبنها، وتؤكد له سونه بأن هناك من يعيش مع هذه المرأة العجوز فى مسكنها الرطب. لقد اشتملت بنية النص فى أقسامها الأربعة على أبعاد انخرطت جميعها فى هذه البنية النصية بعضها جاء واقعيا متماهيا مع الذات، فى هواجسها ووساوسها، والبعض الأخر جاء رامزا للمكبوت داخل ذات يوسف وهو ما يظهر فى الاستهلال الشاعري الذي استهل به الكاتب القسم الثاني من الرواية حين يقول": التحق يوسف عرفة بالجندية جبرا، انخرط بين العشرات، فقرر أن يعيش مواته بعيدا عن شقته التي خلت من الضجيج والحياة، إلا من أمه.. وأصبح فى قلب عالم لا يعرفه. نصف الموتى من الرجال يشوّحون برموشهم.. علهم يتحدونه. الدموع نبوءات متجددة، محارة خائفة. الشمس.. برتقالة تسقط كل مساء. القمر.. يعلو وسط الظلمة يدعو للغموض. يوسف.. يرجو ما جبل عليه، يتمنى عشق الحياة. فتعّلمأن يخاطب الثواني والساعات والأيام. مضت سنة كاملة.. سنوات، فقال فى نفسه: "يتأهبون وهم قوام السنة ومحيوها، لكنهم اختلفوا.. يقول الشتاء إنه يلتهم حياة الثمار. ويقول الربيع إنه يبحث الحياة فيها. ويقول الصيف إنه ينضجها. أما الخريف فيقول إنه موس الحصاد؟!" (15) كذلك مثلت العتبة الأولى للنص دورا مهما فى تأطير وبلورة السرد الروائي فى نسيجه ومفرداته ونسقه الخاص، كذلك العتبات الداخلية التي رصع بها الكاتب الأجزاء المختلفة من أقسام النص جاءت جميعها مواكبة لما كان يستحضره على مستوى الشكل والمضمون. لقد كانت رواية "الروح وما شجاها" فى منحاها الشعوري واللاشعوري، والتي تحمله الشخصية المحورية للنص، حالة خاصة من حالات القراءة النفسية فى ذائقة تتماهى فيها الذات مع عدة قضايا وإشكاليات وجدت نفسها تطرح على صعيد النص، وفى بنيه فنية لها طرح خاص فى إدراك عدة محاور حياتية عبر شخصية يوسف عرفة الذي كانت أحواله المعيشية فى البيت والوظيفة والتجنيد تشي بأن هذه الروح التي يحملها يوسف هي روح إنسانية مرت بالعديد من الأحوال والأزمات، حاورت الوجود والموت، تحولت مسيرة حياتها من المعقول إلى اللامعقول، بفعل المكبوت ومحنة الغرائز، وقد جاء النص فى بعض تحولاته من الواقعي إلى العبثي إلى المنحى الوجودي، وكان فى بعض تنقلاته النصية مستخدما عدة تيمات حياتية اشتغل عليها النص تواجدت بصور مختلفة عبر المكان والزمان الذي تواجدت فيه الشخصية فى مراحل سنية مختلفة وعبر تجربة حياتية مليئة بزخم الاجتماعي، والسياسي، والجنسي، فى لغة روائية واقعية تتخللها حوارات بالعامية، وسرد يأخذ فنيته من محاولة الكاتب الاشتغال على الناحية النفسية للشخصية، خاصة تلك الناحية التي كان فيها يوسف مجندا وكانت فترة تواجده على الجبهة هي الفترة التي كثر فيها الجدل حول ماهية الشخصية، وانتماءاتها الذاتية، وعلاقتها بالواقع العام والخاص، وبحثها الدائم عن فلسفة الحياة من خلال فلسفة الموت نفسه، فى شتى صوره، لقد كانت تلك الروح التي تحلى بها يوسف عرفة وما شجاها فى مختلف منحنيات ودهاليز الحياة هي التي شغلت واقع النص ونسيجه بهذا الطرح من العلاقات والهواجس والبوح الذي شكل هذه البنية الفنية لهذا النص الروائي المتميز.
الهوامش 01 رواية الأصول وأصول الرواية.. الرواية والتحليل النفسي، مارت روبير، ترجمة وجيه أسعد، إتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1987 ص 43 02 التحليل النفسي للأدب، جان بيلمان- نويل، ترجمة حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997 ص 117 03 الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، الدكتور قيس هادى أحمد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980 ص 30 04 الروح وما شجاها (رواية)، السيد نجم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008 ص 23 05 الرواية ص 29 06 الرواية ص 138 07 الرواية ص 165 08 الرواية ص 197 09 الرواية ص 7 10. مشكلة الإنسان، د . زكريا إبراهيم، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت ص 121 11. الرواية ص 87 12. الرواية ص 35 13. الرواية ص 114 14. الرواية ص 134 15. الرواية ص 79/80
#شوقى_يوسف_بدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|