|
العسكرة والأدلجة في الثقافة والإبداع
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1075 - 2005 / 1 / 11 - 11:05
المحور:
الادب والفن
تشكل الثقافة الإرث التاريخي المعبر عن حضارة الشعوب، وتختلف تبعاً لاختلاف المكونات الأساسية لأنماط الحياة اليومية وما يتمخض عنها من سلوكيات وطراز معيشة وتصورات وآراء مشتركة بين أفراد المجتمع وانعكاسها على العلاقات النفعية والعامة مع المجتمعات الأخرى المتجاورة. وقد تتداخل ثقافات الشعوب المتجاورة من خلال قنوات نفعية عديدة (اقتصادية، ومصاهرة، والدين، والعرق..) وتكون الغلبة دائماً للثقافة الأكثر رقياً وسيادة في المنطقة. ويترك التداخل بين الثقافات لشعوب متجاورة آثاره المتبادلة على جميع الأطراف، لكنه يختلف في النسب تبعاً لحجم المجموعة البشرية ودورها الاقتصادي-السياسي في المنطقة. ويعتقد ((موريس دوفرجيه))" بأن الثقافة هي جملة أنواع التكنيك والمؤسسات والسلوك وطراز المعيشة والعادات والتصورات المشتركة والاعتقادات والقيم التي تميز بها مجتمعاً ما". ومع التحديث والعصرنة الذي طرأ على المجتمعات المتخلفة في العالم، تغيرت الأنماط والسلوكيات وطرق المعيشة وأشكال التعليم وطبيعة القوانين الناظمة للعلاقة بين السلطة والشعب. هذه الأنماط المتغيرة والمتطورة لم تفرض صياغات جديدة على مفهوم الثقافة حسب، بل وسعت من أبعاده ليكون أكثر شمولية وتعبير عن الأنماط المستحدثة من الثقافة. ويعبر ((تايلور)) عن الصياغة الجديدة لمفهوم الثقافة قائلاً:" بأنها الكل المعقد الذي يشمل المعارف والمعتقدات والفن والأخلاق والقوانين والأعراف وغيرها من الاستعدادات والعادات التي يكتسبها الفرد باعتباره عضواً في المجتمع". وعموماً الثقافة لايمكنها أن تعبر عن ذاتها ومكوناتها إلا في شروط وظروف صحية أبرزها مساحة الحرية المتوفرة، فالمكونات الأساسية للثقافة (العلم، والأدب، والفن...) لايمكن أن تنتعش في ظل العنف والاستبداد. وحالة اللاحرية تفرض قيم استبدادية تحد من الإبداع، مما يؤدي إلى تقليص سُبل النهوض بمكونات الثقافة ذاتها. ويعتقد ((عبد الكريم غلاب))" أن الثقافة وعي بالموضوع (موضوع الثقافة) وهو يتسع فيشمل الأدب والفنون والعلوم والفلسفة والحكمة. يلمسها في الماضي والحاضر ويرصد مستقبلها، ولكن هذا الوعي لاينتعش إلا في ظل الحرية (وهو يختنق في ظل الإكراه) يختنق ويضيق حتى الموت. فالثقافة بوعي ميت تعد ثقافة ميتة لامفعول لها". تتحكم السلطة في المجتمعات المتخلفة بالثقافة وتفرض صياغاتها المؤدلجة لخدمة أهدافها، مما يؤدي إلى تعطيل سُبل الإبداع. كما أن السلطة تعمل جاهدةً على تجيش وعسكرة الثقافة من خلال فتح باب الانتساب للمجندين من المثقفين للدفاع عن سلطتها المعيبوبة. وهذه العسكرة للثقافة، خلقت معسكر لمثقفي السلطة مقابل جبهة من المبدعين الرافضين للتجنيد والأدلجة السياسية على الثقافة. وفي ظل السلطات القمعية يفرض مثقفو السلطة توجهاتهم السلطوية ليس على الثقافة والإبداع حسب، بل على المثقفين الرافضين لنهجهم في المحاباة للسلطة وتحقيق المصالح الذاتية وعلى حساب الثقافة. وبهذا يشكل مثقفو السلطة العائق لتطور الإبداع، لأنهم يسعون نحو عسكرة الثقافة وطلاءها بلون واحد يتوافق واللون المفضل للسلطة المعيبوبة. ويقارن ((أودنيس)) بين ثقافة السلطة والإبداع الحر قائلاً:" إننا حين نقارن بين السلطة-النظام والكتابة-الإبداع، نجد أن الكتابة الإبداعية مظهر جوهري من المظاهر الحضارية في الشعب. بينما السلطة-النظام ليست إلا مظهراً زمنياً، عابراً، موقتاً بل أن السلطة هي التي يجب أن تخضع للإبداع والكتاب الذين يقولون بخضوع الإبداع للسلطة ويزكون هذا الخضوع ويدافعون عنه ليسوا كتاباً، بل هم موظفون-دعاة. إنهم في الواقع لايخونون الكتابة، أي الجوهر الأصيل في الشعب حسب، وإنما يخونون السلطة ذاتها بمعناها السياسي الاعمق. أي من حيث هي فن النهوض بالإنسان من أجل أن يخدموا السلطة بمدلولها التسلطي، أي من حيث هي فن إخضاع الإنسان". إذاً خيار مثقف السلطة هو الدفاع عن سقطاتها، مما يبعده عن ماهية عمله الإبداعي ويرسخ في ذهنه مفاهيم عسكرة الثقافة لتنال بدورها من زملاء له في المهنة. في حين أن المهام الأساس للمثقف، الوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن مصالح شعبه ورفع مستوى الوعي لدى الفرد في المجتمع لغرض المطالبة بحقوقه كفرد وكعنصر أساسي من عناصر التنمية والبناء في المجتمع. وعملية فك الارتباط بين السلطة والثقافة، يخدم الجانبين. لأن السلطة غير المعيبوبة تحتاج إلى من يثير انتباها إلى نقاط الضعف في أداءها على المستوى الحكومي والكشف عن مواضع الخلل في أجهزتها التي قد لاتكون أمينة في أداء عملها. والثقافة الحقة هي المعبرة عن التطلعات الإنسانية للمجتمعات والمساهمة في رسم الرقي والتحضر لمجتمعاتها أسوة بالمجتمعات المتقدمة. وهذا الأمر بالنتيجة يخدم السلطة غير المعيبوبة الساعية لنفس الأهداف والتوجهات لخدمة مجتمعاتها ومواكبة العصرنة والتحديث، وبالتالي فأنها تسهم في رفد الحضارة الإنسانية بقيم وصياغات جديدة هدفها الأول الإنسان العنصر الأساس في التنمية. ويرى ((عبد الكريم غلاب))" المثقف مهما يكن الوضع الذي يعيش فيه هو بين أمرين: إما أن يندمج فيفقد حريته (حرية النقد) حرية التعبير عن الرأي الذي يؤمن به.... وإما أن يأبى الاندماج فيحتفظ بحريته( حرية النقد). والمثقفون الذين يندمجون في هذا الوضع أو ذاك يتخلون عن كثير من حريتهم علاوة على ذلك أنهم يؤيدون وضعاً فاسداً". إن المثقف الساعي لعرض خدماته برسم الإيجار للسلطات المعيبوبة، قد يحصل على امتيازات آنية، وتروج السلطة لنتاجاته وتضعه على سكة أعلامها المزيف. لكنه قد يجد نفسه خارج حدود الثقافة بمجرد أن تنهي السلطة خدماته أو تتغير السلطة أو تغير من نهجها فترمي أدواتها (الثقافية) في أقرب مزبلة لتستعين بأدوات أخرى تصلح لنهجها الجديد أو للتغير الذي تنشده. والنتاجات الثقافية السلطوية المتعارضة مع تطلعات الشعوب لا تصمد أمام أيا تغير منشود يصب في مصلحة القيم الإنسانية. والأقلام المأجورة يمكن شراءها وبسهولة، فهي تعرض نفسها برسم الإيجار لمن يدفع أكثر لها. لذا فأنها لن تأمن جانبهم أبداً وتتعامل معهم كجنود في معسكراتها، فتفرض عقوبات صارمة عليهم حال خروجهم عن أجندتها وأوامرها. وإن الكتابة-الإبداع قيمة لايدركها سوى المبدعين، وحين لايخدم الإبداع الأهداف الإنسانية فلا قيمة له!. ويعتقد ((أودنيس))" بأن الكتابة ليست وقوداً، بل هي النار، وهي نار لاتشتعل إلا في أعماق بشر أمتلأوا بوهج الشمس". وما لم تكن الثقافة تخدم أهدافها وتوجهاتها ومهامها الإنسانية، لايمكن أن يطلق عليها صفة الثقافة. وما لم يكن المثقف يمثل انعكاساً لتلك الأوجه الحقيقية للثقافة فأنه لايقوم بمهامه الأساس باعتباره المعبر عن منظومة القيم الخيرة للإنسانية.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نتائج العنف والاستبداد على الشعوب المقهورة
-
الحثالات والرعاع في المجتمع المادة الخام للإرهاب
-
موقف الفلسفة من الشعر والشعراء
-
سلطة الطغاة والشعوب المضطهدة
-
السياسيون وراء قضبان العدالة
-
أنماط الوعي والإدراك في الصراع الاجتماعي
-
إعدام شيخ الفلاسفة بكأس القانون وسَّم السياسة
-
مفهوم الثقافة والمثقف
-
الادعاء والتهويل المعرفي في الوسط السياسي والثقافي
-
صدر كتاب جديد للمؤلف صاحب الربيعي بعنوان (المثقف بين المهادن
...
-
البعد الثالث في التوجهات الجديدة في العالم
-
رؤية فكرية في النظرية والتطبيق
-
شرعية استخدام العنف في النظم الشمولية والديمقراطية
-
مفهوم الثورة والتحديث في المجتمع
-
التوجهات الأساسية في الفكر الليبرالي
-
الانتخابات وعملية إرساء أسس النظام الديمقراطي
-
العلاقة بين السياسة والاقتصاد في النظم الشمولية والليبرالية
-
ظاهرة النزاع والعنف في المجتمع
-
وزارة الموارد المائية العراقية ما لها وما عليها
-
العلاقة بين الكاتب والقارئ
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|