|
الخطأ والخطيئة في المعادلة السورية
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3649 - 2012 / 2 / 25 - 00:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
توطئة
إن الفكرة التي أسعى للبرهنة عليها تقوم، في ضرورة تذليل الخطأ الاستراتيجي المتعلق بالحالة السورية ومستقبلها لكي لا يقع الجميع في خطيئة تاريخية. مما يستلزم بدوره الخروج من المعادلة التي تحاصر السلطة والمعارضة بكافة أنواعها وأشكالها وأطيافها وعقائدها من البقاء بين زمن الأخطاء الإستراتيجية وإمكانية الوقوع في خطيئة تاريخية فاحشة. فالخطأ الاستراتيجي يعادل حالة ونموذج البقاء ضمن تقاليد السلطة الاستبدادية، بينما الخطيئة تعادل أوهام القضاء عليها خارج إرساء أسس العقلانية السياسية، وجوهرية الفكرة الإصلاحية، ومرجعيات الفكرة القومية العربية. فهو الثالوث الضروري لوحدة الدولة والأمة، والحاضر والمستقبل، والروح والجسد السوري الاجتماعي. إن لهذا الخطأ والخطية أسسهما ومقدماتهما في التاريخ السوري بشكل عام والحديث بشكل خاص. إذ لم تستطع الدولة السورية لحد الآن تذليل تقاليد الاستبداد التركي العثماني في بنية الدولة، كما أنها لم تستطع صنع البنية الاجتماعية والثقافية الوطنية والقومية الدنيوية. من هنا تفاعلهما السيئ في إنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد. لقد قطعت الدول السورية على امتداد القرن العشرين أشواطا كبيرة في بناء تكاملها الذاتي، لكنها مازالت متعثرة فيما يتعلق بإرساء أسس بنية النظام السياسي القادر على تنشيط مكونات الدولة الحديثة بالشكل الذي يجعل منها دولة عصرية شرعية ومجتمع مدني حر. فقد بقت آمال ومشاريع رجال النهضة والإصلاح والفكرة القومية، أي المراحل الثلاث الكبرى للوعي الذاتي السوري، معزولة عن بعضها البعض فيما يتعلق بفكرة الدولة والأمة والثقافة. كما أنها لم تتحول لحد الآن إلى جزء عضوي في فكرة البدائل. من هنا تناقض السلطة والمجتمع، والمعارضة والدولة. مع ما يترتب عله من إمكانية سقوط الجميع في أوحال التجزئة والصراع الهمجي. وهي نتيجة تعادل ما ادعوه بالخطيئة التاريخية، لأنها تكشف عن عبث البعث، وبعث العبث عند الجميع، أي تجاهل التراث السوري العربي الحديث، الذي صنع من حيث الجوهر الخميرة الروحية للكينونة العربية المعاصرة. ***
إن الحالة السورية المتأزمة والمثيرة لجدل العقل والوجدان هي الوجه الآخر لجدل الروح الاجتماعي والوطني والقومي حول المستقبل. فالجميع تشترك بما في ذلك في خلافاتها الحادة وتناقضاتها العصية على التوفيق، بمشاعر المستقبل. فالكل تريد أن يكون مستقبل ما يجري جزء من مستقبلها. وفي هذا يكمن الخطأ التاريخي الأكبر للحالة السورية وقواه المتصارعة. وذلك لان حقيقة المستقبل، والمستقبل الحقيقي يقوم بالذات في أن لا يكون المستقبل جزء من احد، بل على العكس تماما! أي أن يكون الجميع جزءا منه. ولكن ما هو هذا المستقبل العائم وراء الحالة السورية المتناقضة والمثيرة؟ وكيف يمكن أن يظهر من وراء سديم المعارك العلنية والخفية، الداخلية والخارجية، الوطنية والقومية، السورية والعربية، العربية والعالمية؟ وما هي الأسباب القادرة على جعله بديهية عملية كبرى بالنسبة للبدائل واحتمالاتها الواقعية والعقلانية؟ أن الصعوبة الظاهرية للإلمام بطبيعة وآفاق الحالة السورية، تكمن في شدة ولاعقلانية وتناقض اغلب قواها المتصارعة، وتياراتها السياسية والفكرية، ووسائل وأساليب وغايات كل منها. إلا أن المقدمة التاريخية والطبيعية من اجل فك عقدة هذا الترابط "السيئ" يفترض الانطلاق من بؤرته الأولية، آلا وهي صيرورة الدولة الحديثة، وطبيعة النظام السياسي المتراكم فيها وحالة الأزمة البنيوية التي تواجها سوريا على مستوى الدولة والوطن والمجتمع والقومية. فقد انبثقت سوريا من تحت ركام العثمانية التركية الثقيلة، منهكة بصورة شبه تامة! لا شيء فيها قادر على الحياة باستثناء الإرادة القومية. من هنا أولية الإرادة والفكرة السياسية في وعيها الظاهر والباطن، والتي يمكن رؤيتها عند جميع مؤسسي الفكر السياسي السوري على امتداد قرن من الزمن. ولعل ظهور وتكامل الفكرة القومية فيها بدأ من الكواكبي ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي ونجيب عازوري ومرورا بالارسوزي وانطون سعادة وانتهاء بعفلق هو المؤشر الدقيق لهذه الظاهرة الجميلة والجليلة والمأساوية بالقدر ذاته. وقد وجد ذلك انعكاسه في استحواذ فكرة السلطة أولويتها بوصفها أداة التغيير والتطوير والتسريع، باختصار أداة الزمن المتسرع وليس التاريخ المتراكم. وفي هذا يكمن تناقض المسار المعقد للدولة والنظام السياسي، الذي لم تفعل الانقلابات العسكرية والسياسية على إعادة ترتيبه، وذلك لان البنية التأسيسية لهذا الخلل ما زالت قائمة وفاعلة عند الجميع بدون استثناء. الأمر الذي جعل من السلطة زمنا متناقضا لم يفعل مروره إلا على استنفاذ طاقة الفكرة السياسية. ووجد ذلك انعكاسه في تضييق فكرة الدولة وتحجيم أسسها الاجتماعية. مع ما ترتب عليه، رغم كل الانجازات الكبيرة، من ضعف تنفيذ شعاراتها المعلنة (الوطنية والقومية، والسياسية والاجتماعية - الاقتصادية). ويمكن النظر إلى مظاهر وملامح استشراء الجهوية والطائفية المبطنة والعلنية، باعتبارها الصيغة المعبرة عن عدم انجاز وتكامل الفكرة الوطنية. بينما تذبذبت المواقف القومية حسب الإدراك العابر للمصالح العابرة وليس حسب إستراتيجية الرؤية القومية السليمة بوصفها حصانة مرجعية عميقة. مع أن السلطة السياسية السورية ونظامها السياسي يبقى الأكثر تجانسا من بين جميع الدول العربية بدون استثناء وأكثرها ديمومة وثباتا وأصالة. والاستثناء الوحيد هو لمصر الناصرية. في حين يمكن النظر إلى ضعف وإنهاك فكرة الشرعية والديمقراطية الاجتماعية على أنها تعبير عن خلل تنفيذ الشعار السياسي. مما أسهم من جهة في استمرار واستفحال تقاليد الاستبداد السياسي، العلة الموروثة من المرحلة العثمانية. الأمر الذي يشير بدوره إلى أن الدولة السورية لم تجاوز مرحلة ما قبل الدولة الحديثة. وعندما نقرأ (طبائع الاستبداد) للكواكبي، فأننا نقف في اغلب جوانبه النقدية أمام حالة لم تتغير كثيرا. بمعنى بقاء حالة الخلل البنيوي بهذا الصدد كما هو. وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، فان سوريا مازالت ضعيفة للغاية، رغم قدرتها الذاتية الهائلة. وبالمقابل نرى تحلل البنية الاجتماعية والأخلاقية في مؤسسات الدولة وتفاقم الانحطاط الإداري وفساده شبه التام. أما النتيجة المأساوية لكل ذلك فتقوم فيما يمكن دعوته ببلوغ الدولة السورية ونظامها السياسي حالة التأزم الشامل. وإذا كان من المجحف القول، أن الدولة السورية دولة فاشلة بالمعنى الدقيق للكلمة، كما هو الحال بالنسبة للدول العربية الحالية قاطبة بدون استثناء، فأنها تقف على مشارف هذه الهاوية. وهي حالة لها تاريخها ومقدماتها الخاصة. ومن ثم فهي ليست نتاج مرحلة وحالة سياسية في ظروف سوريا الآنية، رغم مسئولية النظام السياسي أولا وقبل كل شيء، بقدر ما أنها أصبحت جزء مما أسميته بالمستقبل، أي الفكرة المستقبلية التي ينبغي تأسيس مرجعياتها الوطنية والقومية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية. وليست هذه الفكرة المستقبلية، من حيث إطارها العام، سوى الفكرة الإصلاحية الشاملة، وليس فكرة أو شعار "الإطاحة بالنظام" و"قتل الأسد"وما شابه ذلك. فالإطاحة العنيفة بالنظام تعني السير ضمن مسار التقاليد السياسية الخربة للراديكالية السياسية. وذلك لأنها لا تصنع أسس الرؤية النظامية للبدائل. بل على العكس، أنها تؤدي إلى استشراء الفكرة الراديكالية المتشددة والمليئة بعناصر ما قبل الدولة الحديثة. بمعنى أنها لا تفعل في نهاية المطاف إلا على إعادة إنتاج ما ينبغي الخلاص منه ورميه باعتبارها جزء من تجربة مرة ومريرة للدولة والنظام السياسي في سوريا. وقد تكون حالة "المعارضة السورية" نموذجها الواقعي. ومن الممكن حصر كل ما فيها بهذا الصدد، وضمن السياق الذي أتناوله بثلاثة أشياء وهي، أنها: • نتاج مرحلة خربة للتقاليد السياسية، • نتاج هيمنة تقاليد الاستبداد السياسي، • نتاج غياب تقاليد عقلانية للفكرة السياسية. مما أدى إلى أن تكون هذه المعارضة، أو مختلف نماذج المعارضة والتمرد والعصيان والرفض، متناقضة من حيث أصولها ومبادئها وأساليبها وغاياتها. وليست هذه النتيجة بدورها سوى الحصيلة المتراكمة من زمن الممارسة الضيقة للنظام السياسي والسلطة السياسية، لإفراغ المجتمع من قوى المعارضة الحية. أما الصيغة الفعلية لهذه الحالة الخربة فأنها تبرز فيما يلي: • خراب الأسلوب، وهو أمر جلي في ظاهرة استعمال العنف وليس الصراع السياسي السلمي والعقلاني والفعال والايجابي. ولا يخلو ذلك من صعوبات وتعقيد، لكنه الطريق الأمثل لتراكم التقاليد العقلانية السياسية وتذليل تقاليد أولوية وجوهرية الإرادة الحزبية • خراب الوسائل، مع ما يترتب عليه من مساهمة بصورة واعية أو غير واعية في تفتيت الدولة والمجتمع والثقافة • خراب الغاية. وذلك لان الغاية المعلنة هي السلطة وليس الدولة، الإرادة الخاصة وليس العامة، التحويل العنيف والمسلح وليس الإصلاح الشامل والتدريجي. أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي صنع سبيكة مشوهة في الأسلوب والوسائل والغاية، بلغت ذروتها في الاعتماد على قوى خارجية لها مصالحها الخاصة التي لا علاقة لها بالمصلحة السورية الكبرى. بينما البديهة الكبرى التي ينبغي تحويلها إلى مرجعية عملية للجميع فيما يخص المستقبل والفكرة المستقبلية تقوم في ضرورة الاعتماد على النفس فقط. إذ لا يمكن لقوى حية (ومستقبلية) أن تعتمد على دويلات الخليج ومراكز الكولونيالية السابقة. فهذا أمر يتناقض مع التاريخ والمستقبل والحق والحقيقة. فالقوى الخارجية تسعى أساسا لثلاثة أهداف مستترة وهي: • محاولة امتصاص الثورة الاجتماعية والسياسية العربية • حرف مسارها الوطني والقومي • إعادة تقسيم المصالح بالشكل الذي يجعل من الثورة أسلوبا لتحطيم المصالح الجوهرية للوطن والدولة والقومية. إن المهمة الكبرى التي تقف أمام سوريا، تقوم في كيفية تحويل الفكرة المستقبلية السورية إلى بديهية ومرجعية كبرى للجميع بغض النظر عن اختلاف الرؤية السياسية والعقائدية. بمعنى كيفية إعادة تأسيس البنية الشرعية للدولة ونظامها السياسي وإرساء أسس تكاملها الاجتماعي والوطني والقومي عبر تنشيط وتطوير الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا. إن سوريا الحالية، تمتلك كل هذه المقومات والكفاءة الذاتية. والمهمة تقوم في إدراك الجميع لهذه الحقيقة ووضعها فوق كل اعتبار آخر بوصفها حقيقة الحقائق السورية وأملها الأكبر. ولا طريق فعلي واقعي وعقلاني وأمين لبلوغ هذه الغاية غير إجماع الجميع (السلطة والمعارضة بمختلف قوها) على فكرة الإصلاح الشامل للدولة والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي. وبدون ذلك يصبح الخطأ الاستراتيجي خطيئة تاريخية أيضا! ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا وإشكالية موقعها في الصراع العربي والعالمي
-
الأبعاد الجيوسياسية في الصراع الروسي - الأمريكي حول إيران وس
...
-
الفيتو الروسي والقضية السورية
-
رد على مقال الطيب تيزيني (دبلوماسية في خدمة الجريمة)
-
الوحدة والتنوع في الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
-
-الإسلام السياسي- المعاصر في آسيا الوسطى
-
إشكالية ومفارقة الظاهرة الإسلامية في آسيا الوسطى
-
الظاهرة الإسلامية المعاصرة في آسيا الوسطى
-
هادي العلوي - شيوعية القيم
-
هادي العلوي أديب الفكر الحر
-
هادي العلوي ومنهج النقد المتمرد!
-
هادي العلوي - شخصية إشكالية
-
هادي العلوي –بقايا أبدية!
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (6-6)
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (5-6)
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (4-6)
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (3-6)
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (2-6)
-
الظاهرة الإسلامية في روسيا (1-6)
-
الهاشمي أم الهامشي ومعضلة النخبة السياسية في العراق المعاصر
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|