|
الغموض الفنى فى مذاق الدهشة
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3644 - 2012 / 2 / 20 - 10:35
المحور:
الادب والفن
يتميزالإبداع الأصيل بدرجة ملحوظة من الكثافة الفنية ، التى هى ممرالوصول إلى غاية أى مبدع ، أى الغموض الفنى الجميل ، الذى يوحى ولايُفصح ، فيكون الأثرأكثرعمقًا حيث تكثيف الدلالة والوعى بمخاطرالمباشرة. وهذا مالاحظته فى المجموعة القصصية (مذاق الدهشة) للكاتبة هدى توفيق الصادرة عن دارشرقيات عام 2010. فى قصة (سكان المدن الثلجية) تجسيد فنى لجمود العواطف بين البشرفى هذه المدينة. لذلك فإنّ أم الراوية تأخذ أطفالها فى سفينة وتديرالشراع نحوالشمس ، فى إيحاء فنى بأمل أنْ تُذيب حرارة الشمس جمود العواطف. أما الأب فهويُشعل فى الجليد جمرًا. هنا يشتبك الجدل الفنى مع اللحظة. إذْ أنّ الناروالجليد ضدان ، أى استحالة إذابة البرد العاطفى بالتمنى ، يؤكد ذلك أنه عندما رستْ السفينة تفرّق الأشقاء بل لم يوّدعوا بعضهم. كما أنّ جمود العواطف تراه الراوية فى شقيقها الكبيرالذى ((يسكن بعيدًا فى نقطة هامشية من ذاته)) وتكون النهاية فى العثورعلى إنسان كان ينتظرها. فطلبتْ منه أنْ يأخذها بعيدًا عن الجليد وأنْ يبنى لها بيتًا على شاطىء البحرفى فصل الربيع الذى هوالنقيض لبرودة الشتاء. ويتميزالغموض الفنى الجميل بكثافة اللغة الشاعرية والصورالفنية ، من ذلك وصف الراوية للفضاء الذى تعيش فيه فتقول ((صارالليل طويلا ، يحملنا بلا أجنحة حاملين فى بطوننا أجنة الجوع ، فنمنا جميعًا تحت ظل التعب ، لكنى لم أنعس كعادتى ، فجلتُ (الأدق رحتُ) أحدث النجوم وأخبرتها أنّ الجليد يبتلعنا واحدًا وراء الآخر، وأنّ الانفجارأصبح وشيكًا)) . 00000 فى قصة (كل الأحزان مختلطة) يلعب العنوان دورًا فنيًا فى التمهيد للانتقال من الذاتى إلى الهم العام. فالقصة تبدأ باختفاء الشخص المقرّب من الراوية. ولانعرف هويته (هل هوأخ أو حبيب إلخ ؟) وهذا (التجهيل) المتعمد بشخصه يرتبط بالتجهيل بأسباب اختفائه (قيل أغوته جنية وقيل ابتلعته مدن الليل) ويرتبط التجهيل أيضًا بما قيل من أنه قص شاربه وقص لسانه. بعد هذا الجزء الذاتى تنتقل التداعيات إلى الهم العام ، حيث الطفل الفلسطينى ليس طفلا ، بكل ما يحمله هذا التعبيرمن دلالات. وحيث ترى الراوية فى الشوارع ((جثث الأحياء)) لذلك أخذتنا الكاتبة بسلاسة إلى حالة الوجود المأساوى حيث ((دائرة الهموم اللانهائية)) ثم تختتم هذا الهم العام برصد ظاهرة الأصوليين الذين يبثون الرعب بإلقاء القنابل فتشاهد الجثث الممزقة والطفل الغارق فى دمائه. وتسمع شعاراتهم : إنّ وطننا هوإسلامنا. ويكون الجدل الفنى برصد السلبية فى مواجهة المد الأصولى ، وهوما صاغته الراوية وفق إيمانها الخاص حيث قالت ((الله يُعاقبنا على صمتنا)) وإزاء الهم الذاتى والهم العام ، فإنّ الكاتبة تجعل بطلتها تُعيد صياغة الموروث الشعبى المصرى وفق حالتها الشعورية ، ففى طفولتنا كنا نقول ((يا شمس ياشموسه.. خدى سنة الجاموسه وهاتى سنة العروسه)) بينما الراوية فى القصة تقول ((صغارًا كنا . نبكى حين تسقط أسنان الطفولة فنجمعها ثم ننتظرمجيىء الشمس لنلقيها عند أقدامها وننادى : يا شمس يا شموسه.. خدى سنة الوجع وهاتى سنة من الجوع تأكل حجر)) وهذا الجدل مع الموروث ، تختتمه الكاتبة بهذه الصورة الفنية ((وبينما أعيننا فى إتجاه الشمس ، كانت الخرائط تحترق فى الإتجاه الآخر)) ولأننا لسنا إزاء قص تقليدى ، فإنّ الراوية عندما تصحومن نومها تقول ((أفاجأ بالسكون أمامى ، فأعد كوب الشاى وأسكب فيه لعبة الحلم ، طفلة تخبوفى قصص التاريخ)) والجدران التى تمربها يعلوها غبارقديم فتبدوشاحبة ، ورغم أنّ السلالم من الرخام ، فهى ترى أنّ ((كل سلم يتلوّن بلون ذكرياتى الحزينة)) . 00000 فى قصة (مقطع من الصمت) خدعة فنية فى العنوان ، فالصمت (على المستوى اللغوى والمادى / الواقعى) قد يعنى السكون أوالرتابة. بينما بداية القصة تنبض بذلك الجدل الأزلى بين الحياة والموت ، بل إنّ هذا الجدل ينتهى نهاية غيرطبيعية ، ينكسرفيها المألوف ، فالراوية سارتْ وراء نعش لاتعرف صاحبه. وتعمّدتْ أنْ تنزل إلى القبرمع الميت لترى وجهه. وتكون المفاجأة غيرالمتوقعة إغلاق القبرعلى الحى مع الميت. ورغم أنّ هذا المشهد تم من خلال الحلم ، فإنّ المشاهد الواقعية التالية تأتى لتلتحم معه ، إذْ أنّ المُدرّسة التى لم تتعلم فى حياتها شيئًا غيرحروف اللغة العربية ، لم تستطع أنْ تُجيب على سؤال التلميذ : لماذا خلقنا الله ؟ كأننا إزاء متتالية عن الجدل بين الحياة والموت. ثم يتأكد هذا الجدل فى المشهد الثالث حيث مدينة الراوية ((بلا ربيع)) كناية عن التصحروالجدب. كما أنّ خدعة العنوان تلتحم بالراوية التى يصفها رواد المقهى ب (أبوالهول) فى إسقاط فنى على (أبوالهول) التمثال الذى شهد الكثيرمن الأحداث والأشخاص عبرآلاف السنين ، ذهب الأشخاص والأحداث فى بطن التاريخ وبقى هوصامدًا فى مواجهة عوامل الطبيعة ببسمته الساخرة. وكما بدأتْ القصة بالحلم انتهت بإعادة صياغته من جديد : فإذا كانتْ الراوية تسأل دائمًا : لماذا لم أصرخ عندما أغلقوا القبر، نجدها فى السطورالأخيرة ترى الميت يطل من كفنه وهويضحك ، ولكنها فى هذه المرة تحطمه وتحطم المرآة. 00000 فى قصة (زيارة ليلية) تجسيد فنى للجدل بين الصمت والصخب الذى يشمل بيع أى شىء . وإذْ أنّ الراوية تنتشى بالصمت ، فلابد أنْ يكون الصخب العبثى هونقيض صمتها المحمل ببعد إنسانى ، حيث تتعاطف مع المرأة العجوزالتى تعيش وحيدة وليس لها غير ترنيمة أثيرة هى ((آه ياليل)) وتكتمل مأساتها إذْ تخشى أنْ تموت ولايشعربها أحد ، ولاتجد من يدفنها . وعندما تمتد يد الراوية لمساعدتها ، إذا بكف غليظة تنقض عليها. ومع ملاحظة أنّ كل ذلك تم على سريرالعجوزالمشرفة على الموت. وتكون دلالة العلاقة بين الواقعى والفانتازى ، حيث ترى الراوية أنّ مصيرها سيكون مثل مصيرتلك المرأة ، ولكن بشكل آخرحيث يد (القهر) الساحقة لها فى نهاية القصة. وكان لجملة ((عن نملة ضلت الطريق)) فى البداية ، دلالتها المكملة لهذا الانسحاق من ناحية ، وتماهيًا مع حياة النمل من ناحية أخرى ، فإذا كان النمل لايكف عن العمل ، ويدّخرطعام الشتاء فى باقى فصول العام ، فإنّ الراوية وهى تكشف عن ذاتها تقول إنها تشعربالضيق لو ظلت بلا عمل. وتكره البطالة مثل عشيرتها. وتعيش بمفردها ومسئولة عن غذائها طوال الصيف والشتاء ، بل إنّ تماهيها مع النمل يمتد للتماهى مع الطبيعة ، فتتمنى لو كانت شجرة ويستظل الجميع بفروعها . إنها قصة مغرقة فى الغموض الفنى ، المحمل بحل مفاتيح شفراته من خلال الإيحاء وليس الإفصاح. 000000 عندما نقرأ عنوان قصة (رحيل أمنية) يتداعى إلى الذهن أننا أمام إنسانة اسمها (أمنية) وفى السطورالتالية نعرف أنّ (أمنية) هى المرادف للتمنى ، إذْ أنّ الراوية تصرخ فى وجه العالم ليخرج من رئتيها ، كى تستقبل الأمنية التى تنتظرها وسوف تحتفظ لها بهذا الاسم ثم تُسميها (فرحة) وقد تختارلها اسمًا جديدًا لم يعرفه أحد. ثم نعرف أنّ رفض العالم سببه أنّ ((الشارع الرهيب له جبروت)) لذلك فإنّ الراوية تشعربأمنيتها تحتضروأنّ الفضاء يحمل ألمها. ولكن هذه الأمنية التى رأيناها مرادفة لمعنى التمنى ، نراها قرب نهاية القصة وقد (تأنسنتْ) إذْ ينكرالطبيب أنها ماتت مشوّهة. وتتأكد (الأنسنة) على لسان الراوية التى ترى أمنيتها وسط الطريق ملقاة. ساكنة مشوّهة. وأنّ الدماء تنهمرفوق التراب. ثم تأتى السطورالأخيرة لتأكيد الجدل بين ماهو مجرد وماهوإنسانى ، فهى تنعى (أمنية) قائلة (من يُغلف روحى كى لاتتمزق لفراقها ؟ من يُدفنها داخلى كما كانت؟) أى أننا لسنا إزاء (الجدل) فقط بين المجرد والإنسانى ، وإنما (أيضًا) إزاء التوحد بينهما. والراوية التى تتمزق لفراق (أمنية) مثلها مثل طائرالسمان الذى سقط من السماء فى ليلة شتاء ، ولكنه لم يهتم بالسقوط ، ولابالتيه الذى كان يُحاصره. كان كل همه أنْ يتذكرهل كان وحيدًا عندما كان يُحلق فى الفضاء. وإذا كانت هذه الكلمات هى مُفتتح القصة ، وإذا كانت آخركلمات القصة عن دفن (أمنية) داخل ذات الراوية ، فمعنى ذلك أنّ الكاتبة ربطتْ بين بداية القصة ونهايتها ببراعة فائقة. كما أنها وظفتْ التقارب اللفظى فى اللغة توظيفًا فنيًا ، فالاجهاض بمعاه المادى الذى تتعرض له المرأة الحامل ، يُقابله اجهاض الأحلام ، فجعلت الراواية تخاطب نفسها قائلة ((أمنيتى لك أنْ تتحملى أحلامى . لك أنْ تعرفى كم أحبك . كم أرغب فيك وكم أود الاحتفاظ بك فى رحمى أمدًا طويلا ، قبل أنْ تولدى فى زمن مجهض)) . 00000 فى قصة (حدوتة) يلعب العنوان دورًا فى فك الغموض الفنى. وكذلك كلمة (تاتا تاتا) فالكلمتان (حدوتة وتاتا تاتا) توقظان قانون التداعى الحرإلى عالم الطفولة ، بكل مايحمله من موروث مصرى. وإذا كان عالم الطفولة هوالمرادف لمعنى البراءة (التجريدى والمادى) فإنّ المقاطع التالية من القصة ، تضع أمام (البراءة) الطرف الآخرفى الصراع ، أى قسوة الواقع. فالفتاة بطلة القصة لاتعرف كيف تقف السماء بغيرعمد ومع ذلك لاتقع. ولاتعرف كيف ينحت الماء مجراه وسط الصخور. وعندما يطلب منها الأميرأنْ تُغنى تسأل نفسها : هل أغنى تغريد العصافيرأم هديرالمياه ؟ بينما الأميريطلب منها أنْ تُغنى له من ألحان الغرام. ولكنها خجلتْ من هذا الطلب ، فصرخ فيها أنْ تنصرف. ولأنها احتفظت ببراءتها كان مصيرها الطرد من القصر. فعملتْ فى إحدى الحانات تمسح أرضها . ثم تكون الخاتمة الدرامية ، حيث النقود ترن بجانب قدميها وأعين وقحة تنظرإليها. وبهذه الكلمات تُنهى الكاتبة قصتها وتترك للقارىء حرية تخيّل مصيرالفتاة وحقه فى أنْ يكون فاعلا فى العملية الإبداعية عن براءة الوجدان وقسوة الواقع. 00000 فى قصة (أسبوع من شهريوليو) لاتهتم الكاتبة بالحدث (كما فى أغلب قصص المجموعة) إلاّ بقدرانعكاساته على المشاعر، لذلك يأتى الحدث مُبطنًا بالهواجس : هاجس وجودى (فلسفى) عن المستقبل ، حيث أنّ الحاضر((مرعب)) والشارع ((رهيب)) وحيث إحساس البطلة ((بجبروت الحزن)) وأنّ الموت ((ينظرها فى كل مكان)) ولكنها تقاوم فى محاولة منها للخروج من هذا الكابوس ، خاصة وأنها مُهدّدة بفقدان الأم ، ومُهدد باليأس من جسدها الذى مات ، فتدعو ربها أنْ يهبها جسدًا آخر. وعندما يسألها خطيبها : أين أنا منك ؟ تكون إجابتها تكثيفًا لحالة الصراع الوجدانى داخل عقلها وروحها ، حيث قالت ((أنت تقف على عتباتى ، بينما أزحف فى مدارات وهمى)) أى أنها تريده ، وفى نفس الوقت تخشى عليه وعلى نفسها من مدارات وهمها ، لذلك تُسارع بالاتصال به ( = الانتقال من الفانتازى المتخيل المرعب إلى الواقع) وتنقل له رسالة أمها كى يتم الزواج فى موسم الحصاد . وكما أنّ لغة البطلة تتجاوزالمألوف إلى ماهوشعورى ، كذلك كانت لغة خطيبها إذْ ردّ عليها قائلا ((للحصان جناحان ولقدمى الريح)) عند هذا الحد هدأتْ البطلة واطمأنّ قلبها . ولعلّ رغبة الأم أنْ يكون الزواج فى موسم الحصاد ، مفتاح حل شفرة الانتقال من الفانتازى المتخيل المرعب إلى قسوة الواقع ، فالزواج فى موسم الحصاد عرف مصرى ، تبناه الفلاحون المصريون عبرآلاف السنين ، وبهذا تكون رسالة القصة (بشكل فنى) أنّ العمل هوالمدخل للاستقرارالاجتماعى والسماح للبهجة أنْ تُقاوم عبث الحياة وقسوة الواقع . 00000 فى قصة (حكايات ما قبل الصلح) تنويعة أخرى عن الصراع أوالمواجهة بين البراءة وقسوة الواقع . الراوية تذهب إلى شخص لانعرف إنْ كان زوجًا سابقًا أو حبيبًا ، وإنْ كانت الكاتبة أوحتْ بنوع من المعرفة السابقة التى تسمح للراوية أنْ تحمل أمتعتها معها ، ثم نفاجأ بأنّ حقائبها لاتحمل سوى الأسئلة. كما أنها تشعربأنّ هذا الإنسان ((سيُطهرها فى بحرصفائه)) ولكنها تتلقى صدمة حُسن نيتها فيه ، إذْ صوّب عليها غضبه ، عندئذ عرفتْ أنه لم يفهم لغتها . أى أننا أزاء شخصية نقيضة لشخصية الراوية. فبراءة الفتاة يُقابلها هوس الشك فيها ، شك لايعتمد على وقائع محددة ، وإنما هو يقتحم ذات حبيبته ويطلب منها الافصاح عن مشاعرها الدفينة داخل ذاتها ، وهل خانته فى خيالها أم لا ؟ وتتبدى قسوته لدرجة أنْ يلسعها بسيجارته. ثم تنتقل الراواية من قسوة الحبيب إلى قسوة الواقع ، حيث البحث عن وظيفة ، لذلك كان منطقيًا أنْ تتمنى أنْ تعيش فى مدينة جديدة تتبادل معها العشق . ثم تنتقل بنا من الهموم الذاتية إلى الهم العام . فإذْ ترى مبنى الجامعة الأمريكية ، فإنّ هذه الجامعة مثل ((راقصة قطاع خاص)) فى إيحاء واضح على التبذل والدورالتخريبى الذى تقوم به هذه الجامعة الأمريكية فى مصر. ولكنها عندما شبّهت ميدان التحريربشارب جدها ، فلت منها المعنى ، فهل الشارب هنا رمزٌ للأصالة أم للهوان ؟ خاصة وأنّ الحديث عن ميدان التحريرجاء بعد الحديث عن الجامعة الأمريكية مباشرة ، الأمرالذى يعطى انطباعًا بأنهما داخل نفس السياق ، وخاصة أنّ الكاتبة لم تشر(ولوبالإيحاء) إلى الحد الفاصل والمفارق بين الأصالة والهوان فى رمزشارب الجد . كما أنّ ذكرالمكانين (ميدان التحريروالجامعة الأمريكية) يوحى بما هوأبعد ، حيث دلالة كلمة (الصلح) التى هى جزء من مكونات عنوان القصة ، كما أنها (أى كلمة الصلح) هى آخركلمة فى القصة ، وهى الكلمة التى قالها للراوية شابٌ (مُجهّل أيضًا) ورغم أنه (مجهل) قالت الراوية أنها كانت تنتظره دون موعد ، ورغم ذلك يقول لها ((سأراودك عن صلحى)) فى هذه القصة أرى أنّ الاغراق فى الغموض ، أفسد جماليات الأسلوب وجماليات اللغة الشاعرية ، فالغموض الفنى الجميل هوالغموض المحمل بحل رموزشفراته ، وهوالعنصرالغائب فى القصة التى حاولت فيها الكاتبة المزج بين معنى الصلح (على المستوى الإنسانى الفردى) ومعناه على المستوى الوطنى ، إذا أخذنا من الإشارة إلى الجامعة الأمريكية استنتاجًا متعسفًا عن الصلح بين مصروإسرائيل . 00000 فى قصة (زهرة ذابلة تتفتح) مثال آخرعلى على الغموض عندما يكون مجرد زينة أو حلية. فى هذه القصة يتداخل الفانتازى مع الواقعى ، وهذا التداخل يكون جميلا ومطلوبًا إذا التزم الاسقاط الفنى بالإتساق ، وهذا الإتساق تقوم به لغة السرد الفنية ، فتضع مفاتيح ماهوفانتازى ، ومفاتيح ماهو واقعى ، وهذه المفاتيح لانجدها فى هذه القصة التى تبدأ بزفاف البطلة التى ترى نفسها مثل ملكة. وهذا التشبيه كان من الممكن أنْ يمرعلى أنه تشبيه مجازى ، وأننا إزاء شخصية من عامة الشعب وليست ملكة ، ولكن عندما تقول البطلة لحبيبها ((هل تذكرفرحة النصر.. صهللة الخيول المجروحة إلخ)) وتقول أيضًا ((توجهتُ نحومملكتى كأفضل ملكات التاريخ.. إلخ)) وأيضًا عندما نقرأ بعد ذلك مباشرة ((نفرتارى محملة بتسبيحات أخناتون.. أحد.. أحد. أنت الذى تشق النهرالعذب من أعلى الهضاب.. أنت الإله المقدس الذى خلقت لى نصفى الآخر)) وفى الفقرة التالية مباشرة نقرأ ((ولما سرنا فى طريق الهداية ، وسمعنا صوت المصطفى ، كنا أول المسلمين. أول الفاتحين. أول المجاهدين فى دين الله إلخ)) هنا يكون للغموض الفنى أثره السلبى ، خاصة وأننا نسمع دوى الرصاص فى بداية القصة. وبالطبع الرصاص لم يكن موجودًا فى زمن أخناتون ، ولم يعرفه العرب زمن الدعوة الإسلامية. وكل ذلك دون أية مفاتيح لفك شفرات العلاقة بين زمننا الحاضر(الذى أنتج رصاص البنادق) وبين الأزمنة السحيقة. كما يزداد الغموض تعقيدًا عندما تُشيرالكاتبة إلى عام 990دون أية إشارة لمغزاه. وبالطبع لابد للقارىء المهتم بإبداع هذه الكاتبة المبدعة أنْ يتساءل عن دلالة هذا التاريخ ، وهل له علاقة بزمن إخناتون ، خاصة أنه ورد فى ذات المقطع الذى ناجتْ فيه الراوية نفسها قائلة ((نفرتارى محملة بتسبيحات أخناتون)) وعندما تكون الإجابة بالنفى ، حيث أنّ تاريخ ميلاد ووفاة أخناتون (1369- 1353ق.م) يزداد التعقيد . نفس الشىء عندما تقول الراوية لحبيبها : هل تذكرعام 1995؟ فإنّ السؤال البدهى هو: ما دلالة هذا التاريخ ؟ نبحث فى القصة فلا نجد أى مفتاح يُساعدنا على الوصول لأية دلالة. ويزداد الغموض أكثرعندما تقفزالكاتبة من زمن أخناتون إلى زمن الدعوة الإسلامية. فهل هناك رابطة (فنية) بين الزمنين ؟ وهل تكفى الإشارة إلى كلمة (أحد.. أحد) التى جاءت بعد اسم أخناتون لربطها ب (التوحيد) فى الإسلام ؟ رغم اختلاف معنى التوحيد فى كل من الديانتين الآتونية والإسلامية. كما أود أنْ أوضح أنّ (نفرتارى) الوارد اسمها فى القصة وهى محملة بتسبيحات أخناتون ، ليست زوجته. لأنّ نفرتارى (فى كل كتب علم المصريات) هى زوجة رمسيس الثانى ، أما زوجة أخناتون فهى (نفرتيتى) ورغم هذه الملحوظات ، فإنّ هذه القصة مثل غيرها من قصص المجموعة بها الكثيرمن التعبيرات الشاعرية والصورالفنية البديعة ، مثل قول البطلة ((أراقص ربة الحزن والحنان)) كما أنّ الراوية تحسم موقفها فى نهاية القصة ، فتقول فى مقطع جمع بين لغة الشعروأسئلة الوجود الفلسفية ((امرأة صرتُ وصارتْ لى لغة سرية.. فأمتطى ذلك الحصان البرى . لكنى أخشى بداية العشق . امرأة ومازلتُ أحمل فوق ظهرى ضفيرة وبراءة فى عينى ، وغضب طفلة ذات سنوات أربع .. أأربط ضفائرى المحلولة بالغيم ، أم أنساب فوق نغم الأساطير؟)) فإذا كانت الراوية امرأة ناضجة ، فهى (مع ذلك) تعيش الطفولة بكل ما تحمله من براءة وغضب . وتحلم بالحصان الذى يطيربها فوق نغم الأساطير، لذلك نكون إزاء شخصية تحاول تجاوزالواقع إلى الفانتازى المتخيل ، وربما نغفرلها تداخل الأزمنة وتقمص الشخصيات التاريخية. 00000 فى قصة (لعبة الحلم) صراع أومواجهة بين الجمال والقبح ، بين براءة الوجدان النقى الذى يتمنى حماية الغزالة من عين السبع وأنيابه. وبين بشاعة الواقع حيث اللصوص يُطاردون الأطفال ، وسكان المدينة تحوّلوا إلى شحاذين . فى هذه القصة يمتزج الواقعى بالفانتازى بشكل فنى ، حيث تتمنى الراوية أنْ يتوارى الأولاد والبنات خلف الشمس ، وأنْ تكون الشمس كرة برتقالية ، فتلونها بدمائها . وعندما تستيقظ مع نهاية الحلم تشعربأقدام تزيحها من فوق السرير، فيرتطم رأسها بالبلاط ، أى العودة من جديد إلى قسوة الواقع وخشونته وقبحه ، فى التحام فنى بين النهاية والبداية التى تنص فيها الراوية على القبح الذى يتشكل فى الوجوه وعلى الألسنة. 00000 عندما نتذكرالماضى كأنما نُعيد اكتشافه. أونُعيد صياغته. ولأنّ الدهشة وجه من وجوه البراءة ، فإنّ إعادة اكتشاف الماضى لايتحقق إلاّ من خلال القدرة على إقامة حوارجدلى داخل الذات الإنسانية ، حواريتأسس على نقد الذات لمعرفة أين تكمن القوة وأين يختبىء الخلل ، وهذا ما فعلته الكاتبة فى قصة (للتذكرمذاق الدهشة) فأقامت جدلا بين الحاضروالماضى ، فبطلتها تتذكرنداء الكروان وشدوالبلابل الحزين . هذا عن التذكر، ولكنها حينما تعود إلى الواقع تكتم صوت انشطارها ، ثم تكون الفقرة التالية مباشرة رؤيتها للجثث المعلقة على أبواب المدينة. بل إنّ الشوارع رغم ضجيجها هى شوارع صماء لاتسمع من يستنجد بها . كما أنّ الجدل بين الماضى والحاضريمتد ليشمل الجدل بين الماضى والماضى ، إذْ أنّ الراوية تتذكرأهل المغنى وتصفهم بأنهم عشاق التمرد ، وبعدها مباشرة تتذكرصديقتها التى قالت لها "مستسلمة دائمًا.. ودائمًا ترضخ للجميع.. ولاتعرف كيف تقول (لا) " وهكذا يتجادل التمرد مع الاستسلام . وتكون قمة المأساة فى هذا الجدل بين الماضى والحاضر، وبين التمرد والاستسلام ، عندما ينكرالزوج زوجته (بطلة القصة) متسائلا ((من أنت ؟)) فترد عليه ساخرة ((حورية من حورياتك)) وهو رد يحمل معنى (جارية من جارياتك)) يؤكد ذلك المقطع الأخيرمن القصة حيث طفلتها الصغيرة المحمومة ولا أحد يسمع أنينها . وكما أنّ الطفلة مريضة بالحمى ، فإنّ لعبتها الوحيدة ترقد يتيمة. وكانت هذه اللعبة هى الأولى والأخيرة. وتكون خلاصة هذا الجدل بين الحاضروالماضى ((أنّ من يزرع شيئًا فى الريح لايجنى شيئًا)) ( = بشكل فنى انتقاد البطلة لذاتها ، لأنها قبلت الزواج من شخص يتنكرلها ولايهتم بمرض ابنته) وبذلك تكون الحكمة الأخيرة ((كأنه ميراث عتيق من التوجع . كأنها كانت تحبومعى . تتعلم كيف يكون الاختيارلحظة السقوط مؤلمًا)) وهنا تتوحد البطلة مع طفلتها وبذلك أدركت ((مذاق الدهشة)) والبطلة وهى تتذكرماضيها جعلتها الكاتبة تعود إلى المروث الثقافى ، فتتذكرمأساة ليلى مع حبيبها قيس ، ولكن فى مفارقة غيرمألوفة ، فإذا كان قيس التراثى مخلصًا فى حبه ، وأنه كان ضحية هذا الحب ، فإنّ البطلة (وهى تُسقط شخصية ليلى التراثية عليها) ترى أنّ ليلى أهلكت نفسها عندما اختارت أنْ تكون الضحية. 000000 فى هذه المجموعة القصصية تطرح الكاتبة الكثيرمن الأسئلة الوجودية ، بشكل فنى وبدون أدنى مباشرة ، وبدون تعقيد يؤدى إلى الغموض المغلق على ذاته (باستثناء قصتين أشرتُ إليهما) وذلك بفضل وعيها بعنصرالكثافة ، الذى يقود المبدع إلى إحدى متع الإبداع : أى الغموض الفنى الجميل المحمل بمفاتيح حل شفراته. ******
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سمير عبدالباقى وحكاياته مع معتقلات عبدالناصر
-
أمونه تخاوى الجان وتوظيف التراث
-
عبد العزيز جمال الدين واللغة المصرية
-
لقاء البهجة والتوتر - قصة قصيرة
-
عادل مطلوب للشهادة - قصة للأطفال
-
ثنائية الكمان والبيانو: قصة قصيرة
-
الحرية أو الموت : شعار الأحرار
-
روح الفراشة - قصة قصيرة
-
محمد على بين التأريخ العلمى والأيديولوجيا السياسية
-
تلك المرأة - قصة قصيرة
-
رحم الحياة - قصة قصيرة
-
امرأة البرد والظلام - قصة قصيرة
-
حالة تلبس - قصة قصيرة
-
تلك اللوحة - قصة قصيرة
-
رحلة إلى الواحات- قصة قصيرة
-
كول عناب - قصة قصيرة
-
شخصيات فى حياتى : عمى الحاج متولى
-
شخصيات فى حياتى : عم سعيد
-
شخصيات فى حياتى : الأستاذ أديب
-
الإبداع بأسلوب الحكاء الشعبى
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|