|
-النسبي- و-المُطْلَق- في -النسبية-
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 17:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"النسبي" و"المُطْلَق" هما "ضِدَّان"؛ ولا بدَّ لنا، من ثمَّ، من أنْ نفهمهما كما نَفْهَم كلَّ ضِدَّين، أيْ بوحدتهما التي لا انفصام فيها، وبصراعهما الدائم؛ فإنَّ قانون "وحدة وصراع الضِدَّين" يشمل، أيضاً، ولا بدَّ له من أنْ يشمل، "النسبي" و"المُطْلَق".
أقول هذا؛ لأنَّ ثمَّة من فَهِم نظرية "النسبية" لآينشتاين على أنَّها نفيٌ لهذا القانون الجدلي، الذي إنْ ضَرَبْنا عنه صفحاً، أو نبذناه في تفكيرنا، فلن نَصِل إلاَّ إلى ما هو أقرب إلى "السَّطْح" منه إلى "العُمْق" في معارفنا.
والتطرُّف في الفَهْم الميتافيزيقي لـ "النسبية" يفضي، حتماً، إلى "الكانطية" في "المعرفة"، أيْ إلى القول باستحالة فَهْم وإدراك "ماهية"، أو "جوهر" الشيء؛ فـ "المعرفة" عند كانط لا يُمْكِنها أبداً أنْ تشمل ما يسمِّيه "الشيء بحدِّ ذاته"؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ للشيء (أيْ لكل شيء) ماهيةً (أو جوهراً) تظلُّ محجوبة إلى الأبد عن أبصارنا وبصائرنا.
ولقد بدا مفهوم "الثُّقْب الأسود"، بشوائبه الميتافيزيقية، دليلاً قوياً ومُفْحِماً على صواب هذه النظرية لكانط في المعرفة.
إنَّ أبصار وبصائر البشر لن تُدْرِكَ (أبداً) كل شيء؛ فليس من شيء، ولو كان جسيم الإلكترون، يمكن استنفاد معرفته؛ ولن يأتي يومٌ يسمح لنا بِزَعْمٍ من قبيل أنَّنا قد عَرَفْنا الإلكترون معرفة تامة مُطْلَقَة، لا تزيد، ولا تنقص، ولن يعتريها تغيير.
على أنَّ هذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ ثمَّة أشياء يستحيل على العقل البشري إدراكها؛ فكل شيء، ومهما صَغُر أو عَظُم، يظلُّ قابلاً للمعرفة، التي هي كسُلَّم تَصْعَده، في استمرار؛ لكن من غير أنْ تصل أبداً إلى درجته العليا؛ لأنْ لا درجة عليا له.
وثمَّة بَوْن شاسع بين "النسبية العلمية (الموضوعية)"، والتي إليها تنتمي، من حيث المبدأ والأساس، نظرية "النسبية (الخاصة والعامة)" لآينشتاين، وبين "النسبية الذاتية"، التي نتوصَّل فيها إلى "الحقائق" من طريق "الإحساس"، أو "الشعور"، الشخصي؛ فـ "دوران الشمس حول الأرض" هو، مثلاً، "الحقيقة"؛ لأنَّني "أرى" الشمس تدور حول الأرض (ولا "أرى" الأرض تدور حول الشمس)!
هذا كوبٌ ممتلئ بالماء، وذاك كوب فارِغ (من الماء). أيُّهما يَقَع على يمين الآخر؟
أنا أجيب قائلاً إنَّ الكوب الممتلئ هو الذي يَقَع على يمين الكوب الفارِغ؛ أمَّا أنتَ فتجيب قائلاً إنَّ الكوب الفارغ هو الذي يَقَع على يمين الكوب الممتلئ.
أيُّهما الجواب الذي يَعْدِل "الحقيقة"؟
كلاهما يَعْدِلها؛ لأنَّ مفاهيم من قبيل "يمين" و"يسار" هي مفاهيم "نسبية"؛ ولأنَّ "الحقيقة"، في الجوابين، لا يمكن إلاَّ أنْ تكون "نسبية".
أمَّا السؤال الذي لن نختلف في إجابته، والذي نَقِف، في إجابته، على "المُطْلَق" من الحقيقة، فهو "أيُّهما الممتلئ بالماء (أو الفارِغ منه)؟".
هذه "معرفة"؛ وهي، على ما أوْضَحْنا، أو اتَّضَح لنا، "نسبية" و"مُطْلَقَة" في آن؛ فهذا الجانب منها "نسبي"، وذاك "مُطْلَق"؛ وإنَّ كل معارفنا لا تَشُذ، ولا يُمْكنها أنْ تَشُذ، عن ذلك.
ولكن، ما المعنى الفلسفي لـ "نسبية" الحقائق؟
معناها "التناقض"، أيْ "وحدة وصراع الضِدَّين"؛ فأنتَ بقولك إنَّ هذا الجسم "سريع" نِسْبَةً إلى ذاك الجسم إنَّما تقول ضِمْناً إنَّ "المنسوب إليه" هو جسم "بطيء".
"النسبية (العلمية، الموضوعية، الجدلية)" هي التي من طريقها نعرف الشيء؛ فلا شيء يُعْرَف إلاَّ "نِسْبَةً" إلى غيره؛ فلو أردت، مثلاً، معرفة (أو قياس) سرعة جسمٍ ما فلن تعرفها إلاَّ نِسْبَةً إلى جسمٍ آخر؛ فسرعة الجسم A هي (نِسْبَةً إلى الجسم B) 100 كم/ث؛ وهي (نِسْبَةً إلى الجسم C) 200 كم/ث.
هل هذا الجسم "حار" أم "بارد"؟
إنَّه "حار" و"بارد" في الوقت نفسه؛ فهو "حار"، نِسْبَةً إلى الجسم B، وهو، في الوقت نفسه، "بارد"، نِسْبَةً إلى الجسم C. والجسم نفسه هو "حار"، نِسْبَةً إلى "الحالة (الحرارية) التي كان عليها من قَبْل".
و"النسبية" في "الصِّفة" إنَّما تعني "التناقض"؛ فكلتا الصِّفتين (الصِّفة في "المنسوب"، والصِّفة في "المنسوب إليه") تَضاد الأخرى؛ فالجسم A "حار" نِسْبَةً إلى الجسم B، الذي هو "بارد" نِسْبَةً إلى الجسم A.
المراقبون يختلفون في قياس "سرعة" هذا الإلكترون الذي يسير في الفضاء مثلاً؛ لكنَّهم يتَّفِقون جميعاً على أنَّ هذا الجسيم هو إلكترون. وفي هذا، على ما نرى، يَجْتَمِع "النسبي" و"المُطْلَق" من "الحقيقة (والمعرفة)".
لكن، ثمَّة من يَفْهَم "المُطْلَق" من "الحقيقة" فَهْماً ميتافيزيقياً أيضاً؛ فهذا الذي يتَّفِق المراقبون جميعاً على أنَّه "إلكترون" هو (من وجهة النظر الجدلية) شيء آخر في الوقت نفسه؛ فلا وجود لـ "الخالص" من الأشياء.
إنَّكَ تَعْرِف ما هي "الخواص الجوهرية" للإلكترون، أيْ الخواص التي تميِّزه من سائر الجسيمات؛ بيد أنَّ الإلكترون هو، في الوقت نفسه، شيء آخر، هو "جسيم" مثلاً؛ والجسيمات جميعاً تَشْتَرِك في خواص وسمات، من طريقها نميِّزها من أشياء أخرى، كالذرَّات.
ولو سألْتُكَ "هل هذا الإنسان حَيٌّ أم ميِّت؟"، فإنَّكَ تجيب إجابة قاطعة قائلاً "إنَّه حَيٌّ (أو إنَّه ميِّت)".
لكنَّك لو أمعنت النظر في أمْر هذا الإنسان الحي، أيْ لو نَظَرْتَ إليه، أو فيه، بعينٍ جدلية، لرأيته "حيَّاً ومَيْتاً في آن"؛ فهو يشتمل دائماً على كل ما يمتُّ بصلةٍ إلى الموت؛ وليس ممكناً أنْ نَفْهَم "الحياة" فيه إلاَّ على أنَّها "صراعٌ دائم ومستمر ضدَّ الموت"؛ فإنَّ "الخالص" من "الحياة" أو "الموت" لا وجود له أبداً.
وحتى لا تظل "النسبية" تُفْهَم فَهْماً ميتافيزيقياً لا بدَّ لنا من فَهْم الشيء (أيْ كل شيء) على أنَّه "ثمرة الصراع ضدَّ نقيضه (المتِّحِد معه، مكاناً وزماناً، اتِّحاداً لا انفصام فيه)".
إنَّكَ، مثلاً، لا تستطيع فَهْم، وتعريف، "الحياة" إلاَّ على أنَّها الشيء المتأتِّي من صراعٍ (دائم) ضدَّ "الموت"، ومن "التغلُّب على قوى الموت"، و"الاحتفاظ بها"، في الوقت نفسه؛ ولا تستطيع أنْ فَهْم، وتعريف، "الحركة"، أيْ حركة جسمٍ ما في المكان، إلاَّ على أنَّها الشيء المتأتِّي من صراعٍ (دائم) ضدَّ "السكون"، ومن "التغلُّب على قوى السكون"، و"الاحتفاظ بها"، في الوقت نفسه؛ ولا تستطيع فَهْم، وتعريف، "الانحناء" في "الزمكان" إلاَّ على أنَّه الشيء المتأتِّي من صراعٍ (دائم) ضدَّ "الاستقامة" في "الزمكان"، ومن "التغلُّب على قوى الاستقامة"، و"الاحتفاظ بها"، في الوقت نفسه.
وفي "نِسْبية القياس" كثيراً ما يُفْهَم الأمر فهماً "ذاتياً"، منافياً للعِلْم والموضوعية؛ فهذا "المراقِب"، ولسببٍ يكمن في وعيه، أو عقله، أو شعوره، يرى هذه "السَّاعة (أو هذا "الحادث")" أبطأ (أو أسرع) من تلك.
كلاَّ؛ ليست هذه هي "النسبية العلمية الموضوعية"؛ فأنا، ونِسْبَةً إلى "إطاري المرجعي"، وإلى ما يشتمل عليه من "أدوات قياس (المتر والساعة) اعتراها تغيير"، أقول (مثلاً) إنَّ هذا الحادث قد استغرق (حدوثه) زمناً طويلاً أو قصيراً، وإنَّ هذا الجسم يسير سريعاً أو بطيئاً، وإنَّه طويل أو قصير.
لسببٍ موضوعي يكمن في "متري" و"ساعتي"، لا لسببٍ ذاتي يكمن في عقلي، أو وعيي، أو شعوري، أتوصَّل إلى هذا "القياس" أو ذاك.
في الكون (بمفهومه الأوسع) لا وجود لشيء هو "نسيج وحده"، بالمعنى المُطْلَق؛ لأنَّ "الفرد" من الأشياء لا وجود له، ولا يمكنه أنْ يُوْجَد، إلاَّ إذا كان "جزءاً من كُلٍّ"؛ فهل من شيء (في الكون) لا يُمْكننا أبداً أنْ نقارنه مع غيره؟!
هل من شيء ليس بينه وبين سائر الأشياء "أوجه تماثُل" و"أوجه اختلاف" في الوقت نفسه؟!
لماذا نحن لم نستطعْ حتى الآن "تعريف" كَوْننا؟
لأنَّنا لم نكتشف (أو لم نكتشف بعد) كَوْناً آخر (أو أكوان أخرى) حتى نُقارِن كوننا به، أيْ حتى نَقِف على "أوجه التماثُل" و"أوجه الاختلاف" بينهما.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-التمويل الأجنبي- مَصْدَر إفساد ل -الربيع العربي-!
-
خصوصية الصراع في سورية!
-
منعطف مصر التاريخي!
-
-المادية- في التفكير!
-
-الأكوان الأخرى- و-إشعاع هوكينج-!
-
في إشكالية -الأبعد- و-الأقدم- في الكون!
-
-الصراع الدولي- الكامن في -الربيع العربي-!
-
الإيجابية الكامنة في -الفيتو المزدوج-!
-
في -التَّزامُن- Simultaneity
-
في -الاقتصاد السياسي- ل -الربيع العربي-
-
أهي -ديمقراطية- أم -دينقراطية-؟!
-
ما معنى -انحناء الزمن-؟
-
ما يَسْتَحقُّ الاهتمام في -المبادرة العربية-!
-
دُوَلٌ لنفي الحقوق!
-
-25 يناير-.. ثورة بدأت ولم تنتهِ!
-
-المستقيم- في فضاءٍ مُنْحَنٍ
-
-سَدُّ الذرائع- إذ أصبح سياسة فلسطينية!
-
شيءٌ من -فلسفة التاريخ-
-
شَرُّ البليَّة ما يُضْحِك!
-
-الزمن- إذا -تمدَّد-!
المزيد.....
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|