عبدالعال البهادلي
الحوار المتمدن-العدد: 3634 - 2012 / 2 / 10 - 20:49
المحور:
الادب والفن
استيقظ على غير عادته, مثقل الانفاس , تعلو وجهَهُ حالة من التعب,وتغطي جبينَهُ كرياتُ عرقٍ كثيفة, تنحدر نزولاً,تشكل مساراتٍ عمودية, توقفها شعيرات لحيته الكثه فيما يتـقاطـــر بعضها الاخر على شرشفه الابيض المهترئ, فترطب جزءه العلوي الملاصق لجسده, فيبدوكما لو كان قد غمر في بركة ماء......ازاح الغطاء عن جسده وهو ينوء بنفسه لكثرة ماألــم به مــن مرضٍ اقعدهُ منذ زمنٍ بعيد.امسك بعصاه محاولاً الوقوف ,أحس ألماًلايبرح أسفل ظهره,وحمى تسري في تضاعيف جسده,تنهك قواه, تجبره على الرجوع الى جلسته الاولى,ينادي بصـــوت عمــيق, تستيــقظ زوجته,تنشغل في اعداد الفطور,ينتقل صوته الى اجواء المطبخ منكسراً يتبدد على صفحات جدرانه المتاكله وضوءه الخافت, يعيد الكرة ثانيةً, كانت كسابقتها, يستسلم لقدره ويغط في نوم عميق.
غرفة نومه خالية الا من سريره المتهالك وخزانة ٌقديمةٌ من خشب الساج, يغطي سطحها العلوي ذرات تراب داكنة, تحوي ملابسه وحذاءه البالي.أرض الغرفة مربعة الشكل مرصوفـة بقطع الكاشي الموزائيك, فيما تعلو الجدار المقابل ساعة كبيرة, تشير عقاربها الى جهة الشرق, يلتمع اطارها الخارجي بفعل شعاع الشمس وهو يمر من خلال الشرفة. يغطي الارض بســاط صوفي,يحرك أطرافه هواء ينبعث بفتور من مروحة معلقة في اعلى السقف,يخيل للناظر انها من صنع هندي,هي الوحيدة التي بقيت بين أدواته التي لم يبعها في سني العوز.
انتهت الزوجة من اعداد الفطور,وضعته في وعاء صغير,نصف رغيف من الخبز, وقدحان ينتصبان,يسند أحدهما الاخر , احدهما مملوءٌ بالحليب يعلوه بخار يتصاعد الى الاعلى يشكل اشكالاً شتى, فيما يمتلئ الاخر بماءٍ فاتر .....تتوجه الزوجة ازاء السلم,تسير بخطى وئيدة, متثاقلة بعض الشي, ترتقي درجات السلم,تعد ببطء......واحدة, اثنان, ثلاثة تصل الى الدرجة العاشرة بمساعدة الجدار المجاور للسلم.. تقف, تعّبُ الى صدرها هواء شفيف,تواصل سيرها يفضحها جسدها الواهن وهي تقف أمام غرفته باسترخاء.
كان باب غرفته نصف مفتوح , تدفعه بهدوء, تدخل غرفته,تقف امام جسده, تضع الطعام على منضدة صغيرة ثم تجلس الى جنبه, تمسك كتفه, تحاول ايقاضه, يحس حرارة يدها تسري الى جسمه, يفتح عينيه, ينظرها بعينين ساهمتين تعرف من خلالهما رغبته في النهوض , تضع يدها خلف ظهره, تسنده فيجلس معتدلاً :
__يبدو أنك لم تذق طعم النوم؟
__وكيف عرفتي ذلك؟
__قلبي يحدثني!
__حاولت النوم في الهزيع الاخير من الليل.
كلماته تطفح على لسانه رغم ضعفه, وفراش ٌيؤسرهُ في ليل طويل ,ووسادة تغرقهُ باحلام مزعجة لاتنتهي.تختلس نظرة من وجهه المتعب, فتقدم له فطوره, يتناوله بهدوء ثم يمسح على فمه بمنديله فيحس ان قوة انبعثت في جسده من جديد.تنصرف الزوجة مسرعة , توصد من وراءها باب الغرفة,تنزل درجات السلم بروح مطمئنة,ثم تتيه في عمل لا متناهي.
من داخل غرفته, ينهض بثقة .يتقدم بضع خطوات نحو شرفة تقع في زاوية الغرفة, تتــقدم قليلا بهيكلها الكونكريتي على الجدار المواجه لضوء الشمس...الشرفة تطل على النهر المحاذي لبيته, يلقي بنظرة ازاء اشجار اليوكالبتوس الممتدة على طول النهر,يدقق في اغصانها المتهدلة, ويرسم في ذهنه شكل اوراقها الخضر المدببة, هي اشبه بأشكال الخناجر القديمة هكذا كان يقول في سره.
تتشابك الاغصان ,يمتزج المنظر بزرقة الماء المتدافع نحو الضفة جراء حركة الزوارق الصــغيرة وهي تمخر عبابه يــتقدم خطوة اخرى يبدأ له المـنظر على غير شاكـلـته, ترتطم الاشجاربعضها بالبعض الاخر , تتشابك الاغصان من جديـد, تنفلت تستشعر حريتها فــي الحركة, هي الان بهيئتها الاولى, يشدة المنظر , يسرح بخياله نحو الافق البعيد ,يفيق على اصوات السيارات , تجوب الشوارع,تخرق حاجز الصمت لتنبئ عن بداية يوم جديد......
يعود الى سريره, وخيبة امل لاتفارق تفكيره , يمد جسده على السرير ,يدير بوجهه نحو الجدار الملاصق لسريره. في اعلى الجدار لوحة يؤطرها برواز من الخشب بألوان مضطربة,تصور طفلاً يعدو بخطوات صامتة, لاتثير غباراً لخفة وزنه, يندفع, يلهث بقوة , لايعرف وجهته, يصل الى مفترق طريق. اللوحة تتحرك..... يتمايل الطفل ثم يرجع مكانه.وعن كثب حيث تتسع اللوحة, تقف امرأه ,تلتفع السواد ,تنشر يديها نحوه,هي اشبه بزوجة العجوز,تحاول الامساك بالطفل,تنظر اليه, تتفحص تعابير وجهه بعينين مغرورقتين بالدموع.
تخرج كلمات الطفل ببطء
لا..لا...لم تكن هي التي اقصدها.
ارادت ان تقول شيئاً عندما سمعت كلماته تنطلق بشبق طفولي.تندلق ريح عاصف,تبدد مشهد اللوحة, يختفي الطفل بينما تقف المرأة تسمر قدميها لانتظاره.
ترى اين ذهب هذا الطفل الوديع؟ تسأل نفسها.
لاجدوى من الانتظار!
تهدأ العاصفة,يعم الصمت,لاشي هناك.. كانت المرأة عاقر ,والطفل لم يولد بعد.
تسقط اللوحة,تتكسر اجزاءها,فيما تدق الساعة على الجدار المقابل,تشير الى الثامنة صباحاً.
ينهض من سريره مرة اخرى,يتوجه ازاء الشرفة يحول نظره الى مشهد أخر, يرقبهُ من نافذةٍ صغيرةٍ في أعلى الشرفـة, الماء يــتحرك,يندفــع نحو ضفة النـهر يجرف كـــتل التراب,تنزلــق قليلاً,تعانقها مويجات منكسرة تذوب بأسترخاء ثم تغور في باطن الماء.
تجلب انتباههُ زوارق قادمة من جهة الشرق ,تحمل عمالاً وحمالين وشحاذين ,استيقضوا منذ ساعات الفجر, يقضمون المسافات في طريقهم للجانب الاخر, يقضون نهاراتهم في الكسب ثم يعودون فرحين الى بيوتهم.
توقف احد الزوارق عند ضفة النهر .متخم بولادة فجر جديد, نزلوا وحداناً وزرافات, يسيرون بخطى ثقيلة,أتعبها زمن غابر,يتوقف احدهم عند كتلة كبيرة اشبه بالرخام يعلوها تمثال من البرونز, احالت الرطوبة شيئاً منه,يتغير لونه,يتخذ لوناًاخر بفعل صدأ متراكم.
التمثال لرجل يُسمع عنه ,يدهُ اليمنى ترتفع قليلاً, توازي اضلاعهُ,بينما تنحدر الاخرى قليلاً,توازي ساقه الايسر,وعند أسفل الكتلة وفي جانبها المواجه للشارع الرئيسي تقع عينيه على ابيات من الشعر,مكتوبة بخط أسود ترصع قطعة سيراميك بيضاء,تلتصق بشغف على تلك الكتلة,تبوح بسر دفين,يضيع في الوان هندستها البارعة.
كان الناظر رجلاً نيّفَ على السبعين من عمرهِ, تقرأ في ملامحه اتعاب سنين,لاتكاد تفرق بين سحنتهِ ولون ملابسه المتخمه بالغبار, يتنفس الرجل قليلاً,ينظر الى وجه التمثال ثانيةً, يتفرس في وجنتيهِ واذنيهِ,يطرق قليلاً,ثم يتمتم بكلمات تتداخل مع وقع خطوات قادمة, تنزل من زوارق اخرى في طريقها الى المدينة,تحمل هموم وجوه متعبة,تضيع في اروقة المدينة القديمة حيث صيحات الباعة وتوسلات الشحاذين.....
بقي العجوز يستجمع مشاهداته, يرصفها في ذاكراته,يغلق النافذه الصغيرة بهدوء ,يرخي الستار,يخطو بخطوات متقـهقرة تجاه سريره ,يجلس على طرفه, ينظر في اعلى السقف ,يتفحص خيوط العنكبوت ,يطلق سيلاً من كلمات ,يشوبها انحسار دافئ,ترتــسم على شفتيه,تنحبس قليلاً, تؤوب راجعة,تختمر في ماضي ذكرياته...ينادي زوجته,كلماته لاتصل اليها...يتقهقر, يدسُ جسده تحت شرشفه,يتنفس بعمق , ويغطي رأسه متوارياً عن الانظار.
#عبدالعال_البهادلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟