حميد غني جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 3634 - 2012 / 2 / 10 - 18:35
المحور:
كتابات ساخرة
لم يكن انقلاب الثامن من شباط الفاشي الدموي عام – 1963 – مفاجئة للقوى السياسية وجماهير الشعب خصوصا الحزب الشيوعي العراقي الذي أصدر بيانا في بداية كانون الثاني من العام – 1963 – أي قبل الانقلاب بشهر واحد – فضح فيه المؤامرة التي تخطط لها شركات النفط الاستعمارية وحليفتها القوى الرجعية – محلية وعربية – لإجهاض الثورة الديمقراطية التحررية ،وكشف البيان خيوط المؤامرة والخطوط العسكرية المشاركة فيها وأسماء عدد من الضباط من قادة الفرق العسكرية ، ودعى حكومة قاسم إلى الوقوف بحزم لردع المؤامرة الاستعمارية الرجعية للحفاظ على الثورة وإنجازاتها الكبرى وعلى الاستقلال الوطني للجمهورية الفتية ، وكان موقف الحزب هذا ينطلق من مسؤوليته الوطنية والتأريخية في الحفاظ على الثورة والجمهورية ، لكن حكومة قاسم تجاهلت خطورة الوضع ولم تتخذ أية إجراءات حازمة لردع المتآمرين وعلى – ما يبدو – فإن قاسم قد أصابه الغرور بفعل فشل العديد من المؤامرات التي سبقت – هذا الانقلاب – ظنا منه بأنه قادر على سحقها عند لحظة تنفيذها ، لأن الشعب يلتف يحبه ويلتف حوله ، وما درى قاسم – رحمه الله – بأن التفاف الشعب حوله كان بفضل دور القوى التقدمية المخلصة للثورة التي لعبت الدور الأساس في توعية الجماهير وتعبئتها حول قيادة الثورة والجمهورية – وليس حول شخصيته بالذات – وكانت هذه التعبئة والتحشيد عاملا أساس في إفشال كل المؤامرات السابقة ، وتجاهل الزعيم قاسم التحذيرات المخلصة من الضباط الشرفاء شركائه في الثورة ومن القوى التقدمية الحريصة على الجمهورية والاستقلال الوطني وكان هذا التراخي من جانب قاسم قد شجع المتآمرين على تصعيد حمى التآمر ضد الثورة بخلق حالات الفوضى والإرباك في الشارع العراقي وفي مفاصل الدولة الأخرى وبين صفوف الطلبة في الكليات والمعاهد بهدف التغطية على ما يخططون له فكان الإضراب الطلابي الذي تزعمه ما يسمى – الإتحاد الوطني لطلبة العراق – التنظيم التابع لحزب العفالقة هو التمهيد للمؤامرة ولم يأبه الزعيم قاسم بكل هذه المخاطر المحدقة بالثورة الجارية أمام عينيه وعمت الفوضى البلاد فالمتآمرون يتحركون علنا وبكل حرية ، وأجهزة السلطة الأمنية تطارد الشيوعيين والديمقراطيين والتقدميين وتزج بهم في السجون والمعتقلات إلى جانب حربها الشوفينية ضد الشعب الكردي ، وعصابات تصول وتجول في الكاظمية بالإعتداءات والإغتيالات ضد الوطنيين والتقدميين ، هكذا كان موقف حكومة قاسم أزاء المخاطر المحدقة بالثورة ، وتجمعت كل قوى الشر من بعثيين وقوميين مزيفين وإقطاعيين ورجال دين مزيفين والرجعية بكل فصائلها – محلية وعربية – وبدعم وإسناد مادي وعسكري وإعلامي من دولة إقليمية هي مصر عبد الناصر – وتحت الشعار المخزي – يا أعداء الشيوعية اتحدوا – ولم يكن هذا الشعار سرا فقد رفعوه علنا في كل الساحات والشوارع والكليات والمعاهد – ولابد أن أبناء جيلنا يتذكرون ذالك جيدا – وكل هذه النشاطات المسعورة كانت برعاية ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية واستطاعت أمريكا جذب – عبد الناصر – إلى تنفيذ مخططاتها ، ففي ورقة أعدتها وزارة الخارجية الأمريكية في – 15 – نيسان – 1959 – تحت عنوان ( الوضع في العراق والسياسة التي يتعين على الولايات المتحدة أن تسلكها لتحول دون سيطرة الشيوعية على البلاد – ومن بعض ما جاء في الورقة – أن العلاقات الودية ما بين الولايات المتحدة – والجمهورية العربية المتحدة هي الحملة الفعالة التي ينهض بها – ناصر – ضد الشيوعيين المحليين والإتحاد السوفيتي – كل هذه ما كانت لتبدوا قبل عام – وهي تعود بمنافع سياسية عظيمة – من وجهة نظرنا - ، وتقول الورقة في موضع آخر – وبعنوان – تشجيع ناصر في حملته ضد الشيوعية في العراق – في الوقت الذي لم نربط فيه مباشرة ما بين حملة ناصر الراهنة ضد الشيوعية والخطوات التي اتخذناها لمساعدة مصر – فمما لاشك فيه أن ناصر يعرف أن الخطوات التي اتخذناها إنما هي علامة على استحساننا للحملة الجارية وإنها تشجيع على جهوده المعادية للشيوعية وسنواصل هذه السياسة وندعمها بخطوات يمكن أن نتخذها من حين لآخر بطريقتنا الخاصة للمشاركة في الحصيلة .
وهكذا كان الدور الأمريكي – البريطاني – في الانقلاب بهدف استعادة مواقعهما ومصالحهما الستراتيجية في المنطقة التي فقدتها بثورة – 14 – تموز – 1958 – الوطنية التحررية ، فكان التخطيط والمال والسلاح على الأسياد والتنفيذ على هذه الزمر الشريرة ، وما تصريح علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث – حينذاك- بعد الانقلاب – إذ صرح : أننا جئنا إلى السلطة بقطار أمريكي .
ولقد استغل المتآمرون يوم الجمعة – كونه عطلة – وإن غالبية الضباط وقادة الوحدات غير متواجدين في وحداتهم لتنفيذ مؤامرتهم القذرة ، إضافة إلى أساليب الحيلة والمراوغة ، ففي يوم الخميس – 7 – 8 – شباط – اليوم الذي سبق تنفيذ المؤامرة - كان الحزب الشيوعي قد وضع كامل الجهاز الحزبي في أقصى درجات الإنذار تحسبا لأي طاريء خصوصا فرق الطواريء وفي مدينتنا – الكاظمية كانت فرقة الطواريء من ستة رفاق مكلفون بواجب مراقبة ومتابعة أي تحرك للقوى الرجعية طيلة الليل وحتى السابعة صباحا انسحب الجميع من الشوارع ليأخذ قسطا من الراحة بعد ليلة من السهر والقلق ، وعلى ما يبدو فإن المتآمرين قد شعروا بتجمعات وتحشدات الشيوعيين في المناطق والأماكن العامة لمراقبة تحركاتهم ولذا عمدوا إلى المراوغة بنشر إشاعة – بتأجيل التنفيذ – وعلى هذا انسحب الشيوعيون في السابعة من صباح الجمعة وكان أشد ما يخشاه المتآمرين هو الشيوعي جلال الأوقاتي قائد القوة الجوية العراقية فعمدوا إلى اغتياله في داره – بداية – وبالتالي تمت إذاعة بيان الانقلابيين الساعة التاسعة صباحا ، وفور إعلان الانقلاب الدموي أصدر الحزب الشيوعي العراقي بيانا إلى جماهير الشعب يدعوه بالخروج إلى الشوارع لمقاومة الانقلاب الاستعماري الرجعي واستجابت الجماهير لنداء الحزب وخرجت عن بكرة أباها إلى الشوارع – شيبا وشبانا ونساء – ومما جاء في البيان : أيها المواطنون يا جماهير شعبنا المجاهد العظيم أيها العمال والفلاحون والمثقفون وسائر القوى الوطنية الديمقراطية – قامت زمرة تافهة من الضباط الرجعيين المتآمرين بمحاولة بائسة للسيطرة على الحكم تمهيدا لإرجاع بلادنا إلى قبضة الاستعمار والرجعية وقال البيان أيضا إلى الشوارع يا جماهير شعبنا الأبي المجاهد لكنس بلادنا من الخونة المارقين ... إلى السلاح للدفاع عن استقلالنا الوطني وعن مكاسب شعبنا ... إلى تشكيل لجان الدفاع في كل معسكر وفي كل محلة ومؤسسة وفي كل قرية ... إلى الأمام إلى تطهير الجيوب الرجعية وسحق أية محاولة استعمارية في أية ثكنة وأية بقعة من بقاع البلاد ... وطالب الحكومة بالسلاح .
ورغم أن الحزب لايمتلك قطعة سلاح واحدة – بما في ذالك فرق الطواريء – لكنه دعى إلى احتلال مراكز الشرطة وتوزيع السلاح على الجماهير وهرعت إلى الشارع كل جماهير الشعب في كل المدن العراقية وخصوصا العاصمة بغداد الحبيبة وانطلقت الجماهير الغاضبة تندد بالمؤامرة وتطالب بالسلاح فاحتشدت أمام بوابة وزارة الدفاع في الباب المعظم ، وكان هذا الحشد الضخم بالآلاف قد بعث الرعب في نفوس المتآمرين فعمدوا إلى حيلة أخرى برفع صور الزعيم قاسم على الدبابات ويهتف من فيها بحياة الزعيم مع جموع الشعب الغاضب – للتمويه – وما أن استقرت في مواقعها حتى وجهت نيرانها إلى صدور أبناء الشعب العزل وحصدت أرواح المئات منهم وكان الكذب والخداع هو سمة دائمة ولازمة لسياسات البعث المجرم وكذا الحال في الصالحية قرب مبنى الإذاعة وفي الشواكة والشاكرية وحي الأكراد وباب الشيخ والكاظمية ومناطق أخرى من بغداد والمدن الأخرى وانتشرت قطعان الحرس القومي في الشوارع والأزقة لتشن حملة اعتتقالات على أوسع نطاق ضد الوطنيين والتقدميين من الشيوعيين والديمقراطيين وأنصار الزعيم قاسم حتى غصت السجون والمعتقلات بعشرات الآلاف ومقرات الحرس اللاقومي وقتلت الآلاف من خيرة رجالات العراق الشرفاء من العسكريين في مقدمتهم الزعيم الشهيد قاسم ورفاقه من الضباط الأحرار جلال الأوقاتي وفاضل عباس المهداوي وكنعان حداد وطه الشيخ أحمد ووصفي طاهر وماجد محمد أمين وغيرهم الكثيرون و من قادة الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل – محمد حسين أبو العيس – حسن عوينة – جمال الحيدري – محمد صالح العبلي – جورج تلو وغيرهم المئات من قادة وكواد وأضاء الحزب وأنصاره ومؤازريه وكانت أبشع مجزرة عرفها التأريخ ناهيك عن هتك الأعراض واغتصاب مئات الفتيات والنساء بلا وازع من شرف أو دين أو أخلاق وحوش كاسرة لا تعرف للإنسانية من قيمة حقد أسود على الشعب وقواه الديمقراطية ثم صدور بيان رقم – 13 – السيء الصيت بإبادة الشيوعيين والمشتبه بهم ، وصدقت نبوءة الشهيد الخالد سلام عادل الذي خاطب جلاديه وهو تحت التعذيب قائلا : إن حكمكم سوف لم يدوم أكثر من حمل امرأة أيها الصبيان وفعلا وبظرف تسعة أشهر فقط سقط حكمهم الدموي مشيعا بلعنات الشعب والتأريخ وعلى أيدي شريكهم بمجزرة شباط عبد السلام عارف بفعل الصراعات على المغانم بين عصابة اللصوص القتلة ... فيا لخزي دعاة العروبة والإسلام – زورا وبهتانا – فهم في واقع الحال خدم الغرب وعبيد للأجنبي .
وخير تعبير عن عمق مأساة الشعب العراقي الذبيح على أيدي الوحوش القتلة هذه القصيدة الرائعة للشاعر – نصير النهر – يرثي بها شهداء الشعب وكتبها وهو بين أربعة جدران – معنا – في سجن بغداد ، وحفظتها عن ظهر قلب منذ ذالك التأريخ
أيتها الشمس خشوعا قفي وطأطئي *** هامك للأرض فشعب العراق
فداء عينيك طواه الدم من كل قلب يراق *** في البيت في السجن وفي الشارع
في حشرجات النغم الرائع حيث دوي*** الرصاص بحرقة يبكي بحرقة يحكي
لوعة شعب العراق عبر بطولاته *** من أجل أن تطلعي من عمق مأساته
أيتها الشمس خشوعا قفي *** حيي ضحايا الكفاح حيي بصمت الجراح
شعب العراق الوفي
#حميد_غني_جعفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟