أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد حميدان - نص مطول من الهذيان















المزيد.....

نص مطول من الهذيان


زياد حميدان

الحوار المتمدن-العدد: 3612 - 2012 / 1 / 19 - 03:54
المحور: الادب والفن
    



كلما اقتربت... أنأى من جديد .. هي هجرة قسرية أخرى.. أو كضياع اللغة في دروب المنفى، كلما دنوت أكثر...اجنح مرة أخرى نحو البعيد، في تيه الكلمات ورحيل الكلام، إلى حيث تكون الروح حبيسة السجنين، عقم الخواء وتشظي الأرض حين تكون بلا جسد أو أحلام، هناك حيث ينزح عني كل شي كما تكلح الألوان عن الأقحوان..

اغرق في حلكة الحبر ولا أوراق، هاويا مع بقايا الكلمات حين تنهار السطور كسقوط المعلقات عن الجدران المقدسة أو اضمحلال الحقيقة حين تتحجر الظلال في عيني بحار تخطفه الأمواج إلى شطئان غريبة بعيدا عن المرافئ كأوديسيوس..

أحس بجمود الزمن في ثنايا المكان ولا مكان ... لكأن ذلك شبح يجتاحني يحمل في جوف سمائه مخاوف الدنيا، شعور يبحر في دمي فتنهار جدران شراييني حين يمخر عبابها.. يهجم كليل في عقر النهار ليفاجئ عباد الشمس فلا يدري أيبقى شاهرا رأسه نحو الظلام أم ينكسه بيأس المفاجأة غير المتوقعة..

انه شئ يخيم علي عند الكتابة يتضاعف كأسراب جراد في الصحراء حين يكون النص الأول مفقودا، وأجدني أمام عوز المرة الأولى الضائعة أكتب مرة ثانية، فيبقى النقص نفاذا حولي في الأجواء، وحاضرا حضور غياب الزمن في حضرة المكان، لتغدو الكتابة أشقى واكثر الما من تقديم نفسي ذبيحة أو قربان لالهة لا أؤمن به..

أجد في النهاية بين يدي مجموعة أوراق يعلوها هدير أخرس على جدران الصمت، أو ضوضاء غير مفهومة كذلك الهدير المدوي منذ انفجار الكون، أو عواء بهيمية الأصوات البشرية ما قبل الكلام واللغة وولادة المعنى... بعيدا.. بعيدا عن الأبجدية وقبل ولادة النصوص والقراءة... فأحس بحصار يسحق القلب والروح والجسد.

أواصل ....وكم يكون صعبا أن تحس أن جسدك ما عاد يتسع لك... بل أن تكتشف أن عالمك كله لا يتسع لبعض منك، ففي مسألة الجسد يمكن أن تتحرر الروح أما في مسالة العالم فمن سيحرر الجسد والروح... أتكون القراءة.. قد تجدي نفعا ولكنها استنساخ لعوالم الآخرين، لذلك لا مناص من الكتابة لعلي اخلق عالمي أو انتقل إليه عبرها كأنها ثقب اسود في أطراف روحي أو آلة الزمن السحرية لانتقل لاكوان أخرى.

كانت الكتابة وما تزال الحل الأكثر توفرا... فقط إن كنت استطيع مجاراتها وامتلاك زمامها رغم طول دروبها... التي لا يعرف أين تفضي نهاياتها، فليس كل الدروب سواء، فحتى الكتابة... أودت سبلها بالكثيرين وسدت في وجه آخرين....

كانت البداية مع القراءة حيث كنت اعرف أنني أصيب نفسي بلعنة ما... ومع ذلك واصلتها محكما على نفسي حلقات تعويذة سحرية مشئومة، أو لعنة غابرة فمع كل صفحة كنت اطويها كنت أمعن في حسم مسألة اقتراف الكتابة.. تلك الخطيئة التي طالما راودتني عن نفسي فأعطيتها ظهري... كنت اقبل عليها كممسوس صابا كل هلوساتي على خواء الأوراق، حتى إذا ما اكتملت الخطيئة والإثم باستدارة القمر أدرت ظهري ومزقت أحجبة السحر مرددا " رفعت الأقلام وما تجف الصحف بعد..

كانت إشارات التحذير تشع أمامي ما بين السطور منذرة إياي كي لا أواصل القراءة أو الكتابة.... وكأني متطفل على قبر فرعون ترصده لعنة مميتة، غير أن ذلك لم يطفئ مرجل تناقضي في الأعماق... حيث الصراع يخبو ويعلو بين مواصلة القراءة لنيل الكتابة.. فأكون الساحر والمسحور.. وبين أن أغلق بوابة الأعاصير بسد أي كتاب مفتوح بين يدي أو أرمي أي قلم من بين أصابعي ليرجع عودا خشبيا تكمن في جوفه قوى رهيبة مرعبة.

ولأنني.. لست نبيا ... لست يوسف آخر، لم أدر ظهري حتى النهاية.. نعم تقمصته ردحا من الزمن لكني استجبت للذة الغواية مقتحما درب الآثام بالقراءة.. حتى إذا ما وصلت إلى جلجلته ارتكبت الكتابة دون أن أبطل السحر هذه المرة بتمزيق حجابه.. بل لاحتفظ به شاهدا علي، معترفا أن ما أقوم به سيكون له صوت مدوي في أعماقي كدوي سقوط الأرض من كبد السماء، فما عاد يكفي أن أصمت لأبرهن شفائي من الهذيان ولم يعد يعنيني إن كان هذا الفعل صعودا نحو المطلق أو سقوطا انتحاريا ساذجا بملئ إرادتي، فمسألة الزمكان نسبية، ولذا فإن الاتجاه بلا معنى، لكني أعرف فقط بأنني بدأت أحبو على أرصفة الكتابة .. لذلك اعرف اليوم كيف يكون العاشق حين يحب بحد الكتابة، تلك الحالة الصعبة التي تصبح الكتابة فيها حملا ثقيلا.. ينوء بها وتنوء به فمن الذي يجبرهما على ذلك، أو لماذا افترض أنها مجبرة عليه على الأقل، هي حالة شبيهة لذلك المشهد العبثي.. لراهب بوذي يقف على رجل واحدة عشر سنوات نذرا للإله في عيني رجل دين آخر غير بوذي.

لعل الكتابة بوضوح تصبح في نفس اللحظة عين الغموض، أو كالجنون حين يكون في نفس اللحظة رأس الحكمة، هذا هو القدر الساخر في هذه الدنيا حين يرى الشعب ملابس الإمبراطور الجميلة ويهتفون بجمالها وأناقة الإمبراطور، وهو في الحقيقة عار، فأين هي الحقيقة في هذه الحالة... بالنسبة للجميع... أين الفرق بين الحقيقة والوهم والهذيان..

لذلك يصبح من الملح أن يكون الهذيان بصوت مكتوب مشروع كتابة، كي يشّخص أمام الجميع مواجها.. محاورا أو متلمسا مع كاتبه مشاعره ووعيه، كل منا يهذي ولكن من ذا الذي يسمح لهذيانه أن يولد دون قبل أن يجهضه أو يئده... أن يسمح لثوب القماش أن يكتمل... إبن.. للفنتازيا والواقع، الكشف والحجب، الحب والكراهية، للفقر والغنى أو الحزن والفرح، فما الذي يجعل ثوبا ما مجرد أسمال وآخر فاخرا بالنسبة لجماعة ما في لحظة زمانية ومكانية معينة فقط، وما الذي يجعل الكتابة خالدة في كل العصور هي الأخرى.. لتلبس وتخلع على الدوام، فليست الملابس قيمة لأنها تلبس وتحجب، بل لأنها تخلع وتكشف الخبايا، لوأنها تحجب وتكشف في آن معا....

ولعل الكتابة ضاقت بي كما ضقت بها ذرعا، كعاشقين هائمين لا قدرة لهما على الحياة أكثر، فلا هما يستطيعان الحياة بعيدا عن بعضهما أو أن يبقيا ليرويا قصة سرقة عشق شرقي في أحضان القبيلة... حيث تحاصرهم كل الأشياء، تظهر وتتوارى كما يتوارى المكان بين قفزات الزمن، حيث يخبو الحب... ولكن ليتوهج اكثر، لا يحترق وكذلك لا ينطفئ، حتى حين تندلع خرافة موته.. يتبين أنه نار مجوسية لفقت حولها أساطير الانطفاء، وهكذا كانت الكتابة بالنسبة لي كعاشق منذ الخليقة لامرأة لا تعلم.. وهبها كل شيء دون مقابل... نظم وانشد لها كل الشعر والنثر في لياليه دون أن تدري، لذلك واصلت.. كتبتها قائلا:

حبيبتي... لا تتركيني...
خذيني حكاية عشق على شفتيك...
استقبليني قافلة من العشاق... تحج إلى حرمات جبينك...
ازرعيني شامة على صهوة الخدين...
اغرسيني واحتي نخيل على ظهر وجنتيك...
علقيني نجم سهيل في سواد شعرك...
أو اتركيني... أهيم في ثنايا وجهك...

حبيبتي... إني معلقات شعر ونثر تقبل حسن كفيك...
علقيني على ستار نهديك... انتحليني...
ذريني ظلال أطلال تقفي عليها لترثيني...
أطلقيني أسراب سنونو... تهاجر حول خصرك...
انثريني حول جيدك... قلائد من عطور...

عمديني في بحر عينيك... واتركيني على شواطئها عقودا من لؤلؤ مسحور...
امزجيني في تراب دمك.. كما تمزج ببعضها الخمور المعتقة...
اخلطيني في شرايينك كما تخلط القهوة العربية بالهيل...
اجمعيني من قطرات الندى.. ومن سراب السراب.. رشفة ماء...
أبحري بي إعصارا من المراكب الصحراوية... وفي خطوط يديك أغرقيني...


افترشيني كثبانا من رمال زمردية... تطئيها بقدميك...
اجعلي مني خلخالا يعانق كاحليك...
حين تتمايلين... يسبح مصليا رنيني...
اجعلي مني درب الغدير لتروحي في وتجيئيني...

حبيبتي.. لا تتركيني.. ارويني قصص عشق شرقية...
عند المساء...
اوقديني نيران السمر الليلية...
أشعليني بخورا في ليالي الحب المقدسة...
سيدتي.. قلبك بين ضلوعه.. رب القبائل في كعبته...
إن رضيت.. سادنه أنا ... إن تنصبيني...
خذيني حجر دوار.. طوفي بي وطوفيني...
إني الملك الضليل إن نبذتني.. فأرشديني...
وسيف لا يصالح في ثار كليب.. كسر غمده...
كوني الغمد وصالحيني...
حبيبتي.. لا تتركيني إني إن مسني نسيانك...
فجنون قيس ليلى بعض من جنوني...

أيكون وحيا، هلوسة، شعرا أو سجع كهان، لكنها أحست به..هو حدس المراة الاولى.. فأعطت زمامها وولائها، فكان ذلك عليّ وبالا ونعمة النقمة، فحين يعشق الرجل كما يقال يكون الحب بعض من حياته، أما المرأة فيصبح الحب كل حياتها، لذلك كانت العاشقة حد المطلق وفناء الجوارح... اجتاحته لترميه في عوالم الفوضى والاضطراب، وإدمان الأبجدية المنقوشة على الأوراق.

أصابتني بحالة وسواس قهري مؤرق.. يقض مضجعي، فلم أحس أو أفكر إلا بالكتابة... بخط شئ ما .. ليس أعرفه أو أفهمه.. فليس من ترياق له إلا بحجامة ما بداخله من الحبر بالكتابة، وهنا قد تلعب حالة العشق اللامحدودة دورها في ولادة نص بديع.. لربما تكون النصوص المبدعة نتاج حالة حب حقيقية.. أما ما يفصد عن الافتعال المبتذل فليس أكثر من نص لقيط تخلقه ممارسة جنسية بحتة، نكاح بهيمي لا يرضي إلا من ينشدون اللذة المحسوسة والسريعة.

لم تكن المسألة سهلة ، فليست القضية مجرد كتابة يتلوها خوف من فشل أو توهم إبداع، بقدر ما كانت ترتبط بسفح الذات على الورق قربانا يتناول منه الملحدون قبل المؤمنين، ما كان يعنيني قوة وجزالة اللغة أو ضعفها وركاكتها، بل ما سوف ينتصب خلفها من مشاعر ووعي، ذلك أننا نفكر باللغة التي نتكلم، وكان هنا مكمن جزعي من أن ينسحب خطر المغامرة على ما وراء اللغة المكتوبة ... كيف سأواجه الأمر، وأنا المعتاد على الاعتداد بنفسه بكتمان شديد، يصل حد النرجسية، كيف اقبل أن أتعرى تماما على الورق لأواجه نفسي عاريا ودون أقنعة.. فكيف بي عاريا امام الآخرين.. إن صبروا أو استطاعوا لقراءتي سبيلا، كيف أضع ذاتي على موائد الآخرين هاتكا سترها حتى امام تجاهلها او الملل منها او حتى عدم فهمها أو الاحساس بها..

لا يفصل بين ما سبق والنقد إلا شعرة وهي في كثير من الأحيان مفقودة، كيف اكتب بعد كل هذا وأنا اعرف أنني بكل حرف اكتبه انزح شيئا عني ليواجهني... يحدق بي.. فلا ادري أأشهره فخورا أم أواريه، حيث تصبح المسألة تماما كانسلال الروح عن الجسد.

لذلك كان الوأد طوال الوقت شريعتي.. ولأنني الآن ما زلت غير قادر على تمزيق ما بين يدي، قررت أن لا أواري أوراقي التراب دون خجل أو خوف من عوز الحاجة إلى المديح وحتى الهجاء، فليست الكتابة بعد الآن، مجرد إرضاء لنفس فانية بتخليد شيء منها أو مهنة للاحتراف، ولا حتى وهم تلفيق إبداع ما، ذلك أن الإبداع أضحى سوقا معقدة للنقد يحكمها ما يحكمها من قوانين، بحيث لا يميز الإبداع الخلاق أو الابتذال المشرعن بسلطة الاحتراف.

لا يهمني الآن سوى أنني قمت بالكتابة فقط.. مدركا أن جعل الجميع يلهثون نحو خط النهاية هو قمة النجاح، واقصد بالجميع الكاتب والنص والقارئ، غير معني في النهاية بالأحكام التي ستتكاثر عند ساعة الصفر التي يحتويها النص، وكيف سيكون الثالوث السابق بعد تحوله لمربع بزيادة زاوية النقد، مع أهمية هذه اللحظة التي تضاهي لحظة خلق النص الأولى والانطباع الأول، فهي من سيحدد مصيره، أتدفع قارئه للهرولة فيه دون أن يعض شفتيه ندما لأنه واجه شئ كهذا ، ناهيك عن كاتب النص صاحب المصيبة الأكبر على كافة الأوجه.

فلم كل هذا ... قد أكون حلمت طويلا بالرحيل.. لكني بقيت مكاني وسافر الجميع، كم كان صعبا أن أقف متسمرا أرقب هجرتها عني كأسراب الغمام نحو البعيد حتى يختفي الفرق بينها وبين رفوف الحمام، يغادر كل شئ والعيون لا تملك إلا الوداع محدقة في السماء التي هرولت هي الأخرى تاركة إياي في الخواء ملتحفا العراء اقلبه علي أجد خلف طياته نجمة من ليل الطفولة أو قمرا يجتهد في القفز بين أطواره، واهوي دون بل شهاب ملهوف لاحضان الأرض، تلك التي كانت تراب دمي نبذتني هي الأخرى ودارت ظهرها نحو الغروب..

أكل ذلك لأنني لم أرد أن أرضى بالوقوف مكاني.. أيكون ذلك رحيلي في حين تصنمت كل الأشياء، حتى ما عدت أدرك مشاعري تجاهها فلا افهمها ولا هي تفهم لساني، ليغدو الكلام محرجا ومقلقا وساخرا لكأني أحب بلغة واكتب بلغة أخرى رسالة حب .. طلبت منها الانتظار علىّ أصيب منها وصالا في النهاية.... قلت لها حينها...

حبيبتي انتظريني.. إني قادم حتما
انتظريني عند خيط الأفق
حيث لا يعرف أينتمي ذلك المكان للأرض أم للسماء
لا تضجري قادم أنا بهدوء صاخب
فاتحا مجتاحا.. كما تجتاح أسراب فراش حقولا من الياسمين
قفي على الأبواب عند المساء
فاتحة ذراعيك.. كما تفتح المدن المقهورة ذراعيها لجيوش الفاتحين
لا تملي الانتظار ...
إني آت حتما
لا يمكن لعربي أن يفقد الأندلس مرتين
فكيف أفقدك..يا من تضيئي بنورها حنايا روحي
كما أضاءت الدنيا قرطبة
أيتها القديمة والبداية منذ طليطلة
يا أجمل حدائق الرياحين في اشبيلية
ويا بهية ومهيبة كقصور غرناطة
كيف أتركك ولا آتي
وأنتي فلسفتي وحكمتي المشرقية
رشديتي أنت وعقلي الفعال
يا إشراق أجرام السماء وعقولها
يا ظاهريتي ومقاصد شريعتي
إني آت حتما فلا تملي الانتظار....

وحيث أن للرحيل رهبته وفرحته، كذلك يكون للعودة رهبتها وفرحتها لكن يبقى الممتد بينهما هو المهيمن علىّ والأكثر إلحاحا بكل ما يحويه وما يجلبه من حظ أو سوء طالع، من نصر وهزيمة، نجاح أو خيبة، سعادة أو حزن وتعاسة.... فهذا الرهان بالنسبة لي أفضل من التسمر كشجرة لم تترك مكانها حتى ولو بنقل نطفتها على جناح الريح أو نحلة ما إلى مكان آخر...

وها أنا ارحل منها واليها عبرها.. علني ألقاك خلف ستائر السماء وجلد الأرض في خبايا الأوراق وحنايا الحبر، اترنح كمن أصيب بلعنة الترحال والبحث عن شئ لا يعرفه.. علني أصل عند ظلال رمشها... لتكون هناك كبوتي الأولى والأخيرة أنا الذي لم أترجل يوما، وتكون هنالك هفوتي الأولى والأخيرة أنا الذي لم يعترف بخطأ وعيه وحدسه قط، ليكون هناك موتي ذبيح هواها أنا الذي لم يؤمن بالفناء يوما، علها تقبل بي لأولد أو ابعث أو تنسخ روحي لعاشق آخر إن أحبتني.. نعم أنت..ألم تعرفيني..

أنا من بحثت عنك كثيرا...
وفتشت عنك كثيرا....
فتشت... في شفاه العاشقين...
لحظة يسرقون القبلات على جنبات الأزقة المعتمة ليلا...
فتشت عنك... في لقاءات عيونهم على شبابيك البيوت المتقابلة عند الصباح...
طاردت فيهم شيئا من عبيرك... في الحارات وأماكن لقياهم...
حفرت في مواعيدهم الغرامية...
سرت خلف الصبايا... حدقت في حجل الخطوات...
فتشت في ثنايا فساتينهن.. وبين جنبات عباءاتهن...
تسللت لأحلامهن الخافتة ليلا...
اختلست النظر لقصور الحريم... وهن يتبادلن نميمة العاشقات...
انتهكت ألف ألف خمار دون عنوة.. بحثا عنك... فما وجدت إلا بعضا منك...
تتبعت شذى أسواق العطور والبخور...
اشتممت شيئا منك في عبق الزهور .. وطريق نحلة برية...
سافرت خلفها سنوات... تنقلت معها...
بين حقول الأقحوان والياسمين.. بين الورود والرياحين
من جورية إلى زنبقة
حططت في كل واحات النخيل وبساتين البرتقال
في كل زهور اللوز... فلم أجدك... لكنني اشتممت شيئا من عطرك...
أنا من بحثت عنك كثيرا... أما آن لك أن تجديني...

وكما وجدت شيئا منها وجدتني... تلك الكتابة الأنثى... أخذتني بعيدا ودون أن ادري إن كنت في حالة صحو أو حلم وجدت نفسي استرق السمع لضجيج أصوات مبهمة في حلكة الوعي بداخلي، وشيئا فشيئا كانت ملامح الكلمات تصبح مفهومة ومسموعة، وجدت نفسي استمع لنفسي ولآخرين، كانوا يبحثون عن مكان ليس إلا ليخوضوا في ترف جدل غريب... ومع تعدد ألسنتهم بدأت أصغي وافهم ...ففي البداية تكون عملية الترجمة صعبة لكنها في النهاية لغة واحدة بل عملية ترميز ليس أكثر في أصلها... كان الجدل يتصاعد وشعرت بالصوت يعلو قائلا" وان يكن لنتحدث ألان فهذا الوقت المناسب" وجه كلامه لي مكملا "انك الأكثر تناقضا وغموضا وأنت الأكثر وضوحا وصراحة وانسجاما" فرد صوت آخر عليه "أنت صوت موتور..فحين تريد أن تكتب فلمن من الأصوات في داخلك تستمع؟ ألا تدرك انه أحيانا تتعالى أصوات شعوب في داخل المرء"..

شعرت حينها أن شيئا تلقائيا يقرر ويعلي صوتا على الأصوات الأخرى.. يحرك الأصابع والقلم على الورق ليكتم بقية الأصوات الأخرى أو يترك النص الخفي يظهرها على عاتقه، فمهما كنا قمعيين فلن نسكت أي صوت في النهاية حيث النص باق يصهل بأصوات العديدين في داخلنا... فالمسالة تتراوح إذن ما بين القصد المبيت والنوايا والهندسة الاقليدية كذلك..فالافتعال والابتذال، مساحة الورق والقلم الصدق والموهبة والتلقائية..

قال صوت آخر "وأين يكون موقع الهلوسات الليلية ، كلها فقط تنبعث لترضي نرجسية مفرطة"، رد صوت آخر"بدون الكتابة التي نتحدث عنها كيف يمكن أن نبكي على الورق أو نفخر أن نفرح ونكره أن نضلل ونرشد أن ننتج إيمانا وإيديولوجيا أن نحرض ونسامح كيف يكون ذلك بلا أبجدية ولغة... كيف نصف زهرة برية بآلاف الكلمات، أنرسمها إننا نحتاج لوصف اللوحة أضعاف الكلمات لنتذكر الجوكندة على سبيل المثال وما قيل فيها...كيف يمكن لنا أن نحيا دون هذا الإرث الطويل المثقل لكواهلنا عن الحياة والموت عن الخلود والفناء عن الله والكون أو عن الطبيعة وما وراء الطبيعة..." رد صوت عليه" ولكن أليس بالمقابل نكون قد حرمنا من لحظة اكتشاف كل ذلك بأنفسنا والخوض فيه بطريقتنا كموضوع بكر..لقد خسرنا لذة اكتشاف التساؤل والفكرة ولذة الإجابة الأولى عليها فهل فكر أصحاب الألواح السومرية في ذلك أول الأمر...وهل فكر الكاتب الأول بكل ذلك... وما يزال يرجو أن يقبل التلاميذ على دروسه...

أدركت فجاة أن الموضوع قد تفاقم كثيرا.. لأبدو امصاب بالفصام وليس مجرد شخص يوغل في سرد هذيانه، لذلك حسمت الجدل بينهم، قلت من منكم أنا ومن سيقرؤه الآخرون، صرخت فيهم.. صمتا.. أنا لا أريد سوى أن اكتب فقط..


فلسطين- معتقل النقب-200



#زياد_حميدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظم المراقبة والعقاب الاحتلال الإسرائيلي أنموذجا
- هي الشآم .. من قبل..ومن بعد
- المصالحة والعدالة الانتقالية في الأرض الفلسطينية
- ما بين الثورات العربية والثورات المضادة إسلام سياسي “علماني”


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زياد حميدان - نص مطول من الهذيان