|
كيف عاد كجراي من المنفي !
جابر حسين
الحوار المتمدن-العدد: 3607 - 2012 / 1 / 14 - 14:59
المحور:
الادب والفن
إضـــــــــــــــــــــــــاءة : " قل للحياة ، كما يليق بشاعر متمرس ؛ سيري ببطء كالأناث الواثقات بسحرهن وكيدهن ... لكل واحدة نداء ما خفي هيت لك / ما أجملك ! سيري ببطء ياحياة ، لكي أراك بكامل النقصان حولي . كم نسيتك في خضمك باحثا عني وعنك . وكلما أدركت سرا منك قلت بقسوة : ما أجهلك ! قل للغياب ، نقصتني ، وأنا حضرت ... لأكملك !".
- محمود درويش -
حوالي منتصف شهر سبتمبر 1989 م ، ذهب كجراي إلي منفاه ألإختياري في أسمرا، المدينة التي أحبها وأحبته ! لقد أدرك بحسه العميق ، وحدسه الصادق الشفيف ، أن الأنقلاب الذي حدث في نهاية يونيو 1989 م قد أعدته وخططت له ونفذته الجبهة القومية الأسلامية ! ولانه قد تعود أن يتعايش بصدق ونقاء مع أحداثيات الحياة جميعها ، فقد أدرك ... بوعي الشاعر العميق في دواخله ، أستحالة أن " يعيش " مرة أخري تحت معطف الديكتاتورية الغليظ ، وهو الذي تجاوز الستين من عمره ! هكذا ، إذن ، قرر " شخصيا " أن يذهب إلي حيث الحرية متاحة كمناخ عام لقوي التقدم والأشتراكية ... وتحت ظلالها سوف يمارس الحياة كما يشاء ويمارس عمله المهني كأختصاصي في التعليم واللغة العربية ! هكذا ذهب إلي المنفي وبقي فيه ! ولأن غيابه الجسدي عنا أصابنا بالجروح النازفات ، وبالشعور الممض " بالفقد " العظيم الذي لم نستطيع تحمل وطأته الباهظة ، ولأن الساحة الثقافية في كسلا وفي الوطن ، أصبحت وقتذاك ، باهتة الملامح وشحيحة العطاء ، تحتاج فعليا لقامة ثقافية ضخمة بحجم " كجراي " ، تستطيع عبره أن تقف ... وأن تنهض ! بسبب من ذلك كله ، كانت هذه " الرسالة " التي كتبتها وأرسلتها إليه عبر " البريد " النضالي المأمون للمناضلين الأريتريين ، تلح عليه في العودة ! وبثقة وضمير مطمئن ، أستطيع أ ن أقول : أن الشاعر الكبير قد أستجاب للنداء وعاد بالفعل في يوليو 1999 م ، إلي وطنه السودان و ... مدينته " كسلا " في شرق السودان ! الرســــــــــــــالة : العزيز الغالي كجراي ... ، ياقامتنا الثقافية العالية ، ونخلتنا الباذخة الطلوع ، شموخا وكبرياءا في ساحة الشعر والأبداع ... نشتاقك جدا ، أن تكون بيننا ، كما النيزك في سماواتنا التي لاتحد ، قمرا كبيرا ومضيئا في ليلنا الطويل المدلهم ، الحامض كما الملح والليمون ... المر الخشن كمذاق الرمل علي العطش ، أنه يدهمنا بين الفينة والأخري، كالموت المفاجئ ، يطالعنا بغتة ويمضي عنا - كألتماع الشهاب - سريعا ، ويأخذ بعضنا و ... كثيرا من ملامحنا ، هي الدنيا ... هي الدنيا ياعزيزي ! دعني أصدقك القول : المؤكد الآن ، هو ، أن الواقع الراهن مزرئ قمئ و ... شاذ ! وتعلم جيدا ياعزيزنا _ للأسف العميق - بأننا نعيش إنهيارا كاملا ، أقتصاديا وأجتماعيا وثقافيا ... وقبل ذلك كله ، دمارا وعبثا سياسيا كبيرا ! ونعلم - يقينا - أكثر من ذلك ، أن هذا الواقع المفجع يؤثر تأثيرا عميقا جدا في العملية الأبداعية أولا ، وفي الذات المبدعة ثانيا ! ثم - أيضا وأيضا - وبقدر رهافة حس الأديب وعمق أدراكه لهذا الواقع ، يتكون وعي الأديب ويتضخم أحساسه بالفاجعة التي يعيشها أنسان بلادنا ! فهنالك - وكما تعلم ياعزيزنا العظيم - أن هنالك أرتباط لا يكاد ينفصل البتة بين الأبداع والتاريخ نفسه ... وأن هذه الرابطة " الجوهرية " هي التي تساهم بإيجابية كاملة في تشكيل وجدان الأنسان المبدع ! لهذه الأسباب جميعها ، كنت - شخصيا - مدركا بوعي كامل لجملة الأسباب التي دعتك للرحيل بعيدا عن الوقت / قريبا من الوطن في ذات الوقت ، إلي حيث الحرية التي تعشقها وتتوق إليها عمرك كله وأبداعك الشعري كله ... وكنت أراها ، وقتذاك ، موضوعية جدا ، تكاد تنسجم وتفكير وقناعات شاعر كبير مثلك ! ولكنها ، هي هجرة ، وهي - أيضا - منفي ! وهل يوجد في الدنيا قاطبة منفي جميل ؟ أحيانا كثيرة ظلت تخايلني تلك الصورة المرعبة التي كانت تعيشها بيروت المناضلة وهي تحت الحصار، حتي أودت بالشاعر الكبير خليل حاوي إلي الأنتحار ، ثم دفعت بالكثيرين إلي المنافي والشتات ! يقول درويش : "بيروت فجرا الشاعر أفتضحت قصيدته تماما ! وثلاثة خانوه : تموز وإقاع وأمرأة فناما ! لا يستطيع الصوت أن يعلو علي الغارات في هذا المدي لكنه يصغي لموجته الخصوصية ... مو ت وحرية !" وهذا الضبط - ياعزيزي - ما يصيبني بالفزع ! ظل هذا هو هاجسي الذي لايكاد يبرح مخيلتي عندما أعيش اللحظات الجميلة مع كلماتك وقصائدك الرائعات وأجتماعياتك ، وأخوانياتك المترعة بالحب والود والتقدير الجليل للأنسان ... ويبدأ شوقنا إليك يتنامي ويزدهر ويتكاثر . وكنت قد عودتنا كثيرا عليك وجعلتنا - جميعا -نعيش ونتنفس تحت معطفك ... شوق غزير ولوعة لا توصف بإتجاهك ، أن تكون بشخصك بيننا ! في ليلة أختلسناها ، تحت ليل القهر والعسف ، تذكرناك وتمثلناك بيننا . فقلت للأصدقاء من حولي : ليكن " كجراي " بيننا ، هذا هو الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه في الوطن ، فوق ترابه ووسط شعبه ! في ذات الليلة قرأت عليهم كلمات عفيفي مطر : الناس نيام ، فاذا ماتوا أنتبهوا ! كانت أقفية مدبوغةبالصمغ ... وكان الرأس حذاء للأقدام ، لو أفلت صوت الموتي من بوابتنا الليلية لعرفنا كيف نموت معتدلي القامة !". ثم ، ومن بعد ذلك كله ، ظللت ولعدة سنوات مضت ، أفكر في الكتابة عنك ، عن سيرة حياتك وشعرك ... وقد وجدت لدي ديوانك الآخير " الليل عبر غابة النيون " وأصداء في الذاكرة من " الصمت والرماد " ... أضافة إلي العديد من القصائد منشورة هنا أو هناك ، والعديد أيضا من مخطوطات قصائدك التي لم تنشر من قبل ، وتوفر لدي ، أيضا ، الوقت ، فأعددت دراسة طويلة عن أشعارك ومسيرتك الشعرية ، ولجأت ، مرات ومرات ، للأسرة بكسلا لتجميع بعضا من التفاصيل التي أعتقدت أنها ستكون ذات جدوي لمثل هذه الدراسة ! الدراسة الآن جاهزة تحت يدي ، وقد تحدثت مع مجذوب عيدروس الذي يحرر ثلاثة صفحات كاملة أسبوعيا بصحيفة " الشارع السياسي " ... ووعدني بأن ينشرها علي حلقات ! تلك ، ياعزيزنا ، أمنية يبدوا أنها قد تحققت ! أما أمنيتي الكبيرة الآخري ، فهي أنجاز مشروع للكتابة عن مبدعي " أولوس " ، خاصة أن لدي الآن دراسة عن الشاعر كمال عبد الحليم ومخطوطة دراسة عن ديشاب ... وربما ، لو أمتد بنا العمر ، وتوفر الوقت ، فستطال الكتابة لتشمل الآخرين الذين تعلمهم ! اليوم بعد عودتي من منزلكم ، بمعية حسن عثمان فضل ، فكرت أن أطلق في الناس النداء : ضرورة أن يعود كجراي للوطن ... النبع إلي المصب والنهر إلي البحر ! أنني أكتب إليك هذه الرسالة ليلا ... وسوف أغادر بعد غد إلي رفاعة ، حاضرة البطانة وتاجها ، حيث مقر عملي بها الآن ، ربما أكتب النداء وأنشره بالصحف ، أقول ، ربما ... ! ولكن ما لست أدريه هو : هل ستصلك هذه الرسالة ، أم تضيع في الدنيا فلا تصلك ثم لا تخلف أثرا يشير إليها ! فهل يصل الصوت أم يصل الموت ؟ ولكني سوف أرسلها علي أية حال عن طريق " البريد الآمن " للمناضلين ... ورجائي أن تكتب إلي وبذات الوسيلة أن كانت قد وصلتك ... فلعل رسالة منك تأتينا فتجعلنا سعداء ، وتكون هي بذاتها ، زادا لنا حتي تكون بيننا في الوطن ، حيث مكانك السامق شاغرا و ... لايزال ينتظرك ! ودعني ، أصدقك القول ، أن الوطن ينتظرك ، ينتظرك بشوق كثير ، مفتوح الذراعين لأحتضان شاعره الكبير ! وثمة أمر آخير مهم ،: أنه بحكم المؤكد - ياعزيزي - أن أجهزة السلطة بأكملها لن تستطيع أن تمس منك شعرة ... فقد أصبحت رمزا كبيرا في الوطن ، وصوتا شعريا معروفا علي مستوي العالم العربي ومحيطنا الأفريقي ! والنظام الآن محاصرا بالرأي العالمي والمحلي ... فلا يستطيع أن يطالك ، علي الأقل في هذه المرحلة ، وهذه هي قناعتي ! ثم ، أنني ، وبجهد شخصي ، وإلتزام أستطيع أن أؤكده ، تحصلت علي الوعد المكتوب من المسئول الأول بالولاية ، وأرفقه إليك مع هذه الرسالة ! * أفعل ذلك وعد ياصديقي ، وأنا الذي يعرف عنك صلابتك ووعيك ، وهما كافيان ، ليدفعانك كي تعود ! هذه - إذن - قناعتي ... وهذه أيضا رؤياي ! فدعنا نناديك ملء حناجرنا وقلوبنا : تعال ... تعال ! وكن دائما بكامل صحتك وعافيتك و ... بالخصب في الأبداع ! وحتي الملتقي القريب ، ساظل مخلصك جابر حسين ! كسلا / حي العمال10 / مايو / 1999 م * الرسالة كتبها بخط يده ووقعها علي ورق مكتبه ، والي كسلا وزير الداخلية الحالي المهندس أبراهيم محمود وهو من مواطني مدينة كسلا ولي معه صلات شخصية يحترمها ، ويعرف قدر الشاعر ، وقد دعاه في الرسالة للعودة بضمان أن لا تقترب منه عناصر الأمن ... وللحقيقة ، فقد كنت أنا من أملي عليه الرسالة فكتبها بخط يده ! --------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- * " كجراي " هو الشاعر السوداني الكبير الراحل محمد عثمان صالح و " كجراي " كنيته التي أختارها بنفسه فأصبح معروفا بها في الثقافة والحياة ! وهو شاعر كبير كان مطلوبا لدي سلطات الأمن وهو في منفاه الاختياري بأسمرا ! وأصدرت ، من بعد ، كتابي : " كجراي " عاشق الحرية والقول الفصيح " دراسة في عن حياته وشعره ! * " أولوس " هي الرابطة الأدبية المعروفة التي كان كجراي أحد أبرز مؤسسيها بمدينة كسلا عاصمة شرق السودان ! " كمال عبد الحليم " شاعر نوبي كبير يكتب شعره بالعربية ومن مؤسسي " رابطة أولوس الأدبية " . " ديشاب ، هو الشاعر والباحث ميرغني ديشاب " من مؤسسي رابطة أولوس أيضا ! " حسن عثمان فضل " صديق الشاعر ومن القيادات البارزة في نقابة عمال السكة الحديد بكسلا ! *** يوجد موقع بالفيس بوك " لرابطة أولوس الأدبية " بذات الأسم ، وندعو محبو الشعر والأدب الإنضمام للموقع والمساهمة فيه !
#جابر_حسين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أستاذ كرسي أسلمة المعرفة !
-
الأغاني تنتمي للفرح الجميل ، حقول مطر و نوافذ ياسمين !
-
ليست أحزانا شيوعية !
-
بريق العيون ، هل يكون حبا ؟
-
رسالة صغيرة جدا لمحمد الصادق الحاج * !
-
أسميها السوسنة !
-
أمرأة الشروق ... !
-
عدت الآن إليك ... !
-
حوارية الشجر والعشب و ... أنا !
-
عن الشعر و ... الحبيبة !
-
الأناشيد السماويات ، من مخطوطة كتاب : - كلمة في تبجيل الفنان
...
-
عتاب لمكارم ابراهيم !
-
الأرينات ... الأرينات يا أشراقة و ... عن منفاك !
-
و ... هل مات جيفارا ؟ ثلاث لوحات ووردة ...
-
لوركا ، رياحنة الألفية الثالثة أيضا !
-
لغة في الرحيق ... !
-
كن في الحشود الرفيق ، إلي صديقي الشاعر والمناضل المغربي محمد
...
-
الرفيقة عطا أو ... المرأة التي أحببت !
-
حياة و ... موت زكريا !
-
عقد من التنوير ... !
المزيد.....
-
مسجد إيفري كوركورون الكبير.. أحد معالم التراث الثقافي الوطني
...
-
من دون زي مدرسي ولا كتب.. طلاب غزة يعودون لمدارسهم المدمرة
-
فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|