أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بشير الحامدي - بعض القضايا المتصلة بالثورة الفصل الرابع من كتاب الحق في السلطة والثروة والديمقراطية الصادر بتونس سبتمبر 2011 للكاتب بشير الحامدي















المزيد.....



بعض القضايا المتصلة بالثورة الفصل الرابع من كتاب الحق في السلطة والثروة والديمقراطية الصادر بتونس سبتمبر 2011 للكاتب بشير الحامدي


بشير الحامدي

الحوار المتمدن-العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 16:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفصل الرابع
بعض القضایا المتصلة بالثورة

1 ـ الفاعلون الحقیقیون في الثورة

لابد أن نذكّر في بداية هذا الجزء ونحن نبحث في مسألة الفاعلين الحقيقيين في ثورة الحرية والكرامة، أن الثورة قد حدثت في ظل أزمة شاملة يعيشها المجتمع التونسي نتيجة ارتباطه العضوي باقتصاد السوق، وهي أزمة شملت جميع مناحي الحياة بالنسبة للطبقات والفئات التي يطحنها النظام الرأسمالي الذي يعاني هو نفسه من أزمة هيكلية عامة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والإيديولوجية.
لقد قامت ثورة الحرية والكرامة في ظل نظام أصبح وجوده وهيمنته مشروطين بإنتاج المزيد من التفقير والقمع والاستبداد وفي ظل تناقضات أصبحت كل المؤشرات، وارتباطا بالشروط التي تعيش في ظلها غالبية الشعب، توحي ألاّ حل لها إلا من خلال ثورة شعبية واسعة تشنها هذه الأغلبية الشعبية، التي يطحنها النظام الرأسمالي، من أجل تغيير واقع العوز والاستغلال والتفقير والتهميش الذي حوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق.
إنّ ارتباط الاقتصاد التونسي بالخيارات الليبرالية في ظل نظام سياسي مستبد وقمعي معادي لأبسط الحريات، وتسيطر فيه، على أهم شرايين الاقتصاد، فئة برجوازية طفيلية برأس متنفذة مكونة من مافيا المال والفساد، وبجهاز إداري بيروقراطي لم ينتج، وعلى مدار أكثر من عقدين، إلا المزيد من الاستغلال والتفقير والتهميش.
كما أن تنفيذ خطط البنك الدولي المتعلقة بالخصخصة وتحرير الأسعار و التداين، وانسحاب الدولة من التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية وفتح الحدود للرأسمال الأجنبي للاستثمار لم يؤد إلى مضاعفة استغلال الطبقة العاملة و إفقارها فقط بل أدى أيضا إلى توسيع الكتلة الطبقية المتضررة من هذه السياسات لتشمل شرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة .
ولئن حافظ جزء من الطبقة العاملة على موقعه في عملية الإنتاج فإن جزءا كبيرا من العمال فقد شغله بفعل عمليات التسريح والعجز الهيكلي والهشاشة التي عليها الاقتصاد، ليتعزّز جيش البطالين سنويا بأفواج جديدة من أصحاب الشهادات. هكذا وعلى مدار عشريتين، أصبحت الطبقة العاملة التونسية مشكلة من جزء ناشط منتج (عمال القطاع الخاص الصناعي والتجاري والخدماتي والفلاحي)، حيث يعمل أغلبهم في إطار عقود المناولة وفي وضع من البؤس والتفقير المتواصلين نتيجة هشاشة التشغيل. وجزء آخر معطل عن العمل يشمل العمال الذين وقع تسريحهم ومن أصحاب الشهادات الجامعية أو من ذوي التكوين المهني المحدود أو كذلك ممن لا تكوين لهم على الإطلاق.
إن طبيعة الاقتصاد التونسي التابع، والمرتبط بنظام الليبرالية الجديدة وباقتصاد السوق ساهمت إلى حد كبير في الدفع بفئات كثيرة من البرجوازية الصغيرة إلى الحضيض والعيش في وضع اقتصادي واجتماعي شبيه بوضع الطبقة العاملة، مما قلص من الفروق الطبقية بينهما.
أما الكتلة الطبقية الأكثر تضررا من نمط الاقتصاد المتبع في تونس في العشريتين الماضيتين، فإنها لم تقتصر على العمال وفئات من البرجوازية الصغيرة بل شملت أيضا فئات من البرجوازية المتوسطة المدينية والريفية، والتي تراجعت مرابيحها وأفلس جزء منها نتيجة المزاحمة الشرسة واللامتكافئة التي كانت تضعها وجها لوجه أمام الشركات المعولمة العابرة للقارات.
يذهب البعض إلى اعتبار جيش المعطلين عن العمل خارج التصنيف الطبقي ويفصل بين أوضاعهم وأوضاع العمال عموما مما ينفي عنهم أي دور في إنجاز المهام الثورية. في حين أن هذه الفئة تعتبر قوة عمل احتياطية تشترك مع العمال في أوضاع الاستغلال والتفقير والتهميش وانسداد الأفق. لذلك لا بد من التأكيد على أن الثورة قد حدثت في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية تؤهل هذا القسم من الطبقة العاملة (المعطلون)، كما قطاع عريض من المهمشين الذين يشغلون بعض المهن الصغيرة غير المهيكلة، والتي عادة ما تكون على هامش السوق، إضافة إلى الشباب الطلابي والتلمذي، للعب دور محوري في قيادتها ومواصلتها. وقد بينت الأحداث أن هذه الفئة كانت دائما في طليعة النضالات.
لقد شكل هذا القطاع الواسع من الطبقة العاملة إطارا لتجربة التنظم الذاتي المحلي حين ظهرت منذ الأيام الأولى للثورة نواتات للدفاع الذاتي نشطت في حماية الأحياء والتصدي للقمع البوليسي.
فالتحركات التي سبقت 17 جانفي 2011 كانت تؤشر إلى أهمية فئة المعطلين عن العمل و الدور الذي لعبته كفاعل اجتماعي جديد في مقاومة الخيارات الاقتصادية والسياسية والثقافية المكرسة.
ففي انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 ،نجح أصحاب الشهادات العليا والمعطلين عن العمل في تحويل احتجاج على المحسوبية والمحاباة في انتداب للعمل قامت به شركة فوسفاط قفصة إلى انتفاضة محلية استمرت ستة أشهر في عملية مقاومة هي الأولى من نوعها في تونس منذ 1987.
وفي شهر أوت 2010 نجح قطاع عريض من السكان من صغار ممارسي التجارة الموازية في بلدة بنقردان، التي تقع على الحدود الليبية، في جعل البلدة كلها تنتفض لتتحول الانتفاضة إلى مواجهات دامية مع البوليس ضد قرار السلطات الليبية غلق معبر رأس جدير في وجه السلع المتجهة إلى تونس، و بإيعاز من متنفّذين من عناصر مافيا الاقتصاد في تونس.
ولئن كان لهذا القسم من الطبقة العاملة الدور الرئيسي في الثورة وفي قيادة عملية المقاومة ضد نظام بن علي والاستمرار فيها، فإنه وبحكم موقعه الهامشي من عملية الإنتاج كان موضوعيا عاجزا على تطوير ومركزة أشكال التّنظّم الذاتي الجنينية التي أنشأها ومن ثمة تصليب عودها وتحويلها إلى أجهزة بيده للإدارة المحلية مستقلة ومقاومة. كذلك لم تقدر الحركة الجماهيرية أثناء الحراك الثوري على إفراز تنظيم عمالي جماهيري من داخلها يكون قادرا على كسب ثقة الجماهير الكادحة وتنظيمها و تأطيرها وقيادتها، وقد ظهر ذلك جليا أثناء الثورة حين تواصلت دون قيادة سياسية سواء قبل الإطاحة بالديكتاتور بن على أو بعده.
إن ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت عفوية كانت ثورة قطب طبقي سحقه الاستغلال والقمع طيلة أكثر من عشريتين، ووحدته موضوعيا مصالحه الطبقية في وجه مستغليه وقامعيه. فالكتلة الطبقية التي ثارت من أجل تحقيق مطالبها الاجتماعية والسياسية هي كتلة دفعت بها الاختيارات الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازية التابعة والمرتبطة باقتصاد السوق، والمتحكمة بكل دوليب الدولة وأجهزتها، إلى أن تعيش حالة إفقار مطلق وصل في قطاعات منها إلى حد أصبح لا يطاق، وهو ما مكنها إبان الثورة من أن تخوض صراعها بكل إصرار.
فهذا القطب الطبقي الممثل بالعمال والمعطلين وشرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة المدينية المفقرة سيشكل الكتلة الجماهيرية أو الشعب الثائر ضد الدكتاتورية .
إنّ ثقل البؤس الذي تعيشه هذه الكتلة الجماهيرية، وحدّة القمع الذي كانت تعانيه وانسداد الأفق أمامها لتجاوز واقعها المتردي، هو الذي دفع بها إلى كل ذلك النشاط الثوري الذي انخرطت فيه والذي تصاعد بوتيرة سريعة وأدى إلى إسقاط بن علي.
لئن بدا تصميم الجماهير كبيرا على الإطاحة بنظام بن علي منذ أن توسعت الاحتجاجات وعمت مختلف أنحاء البلاد فإن هذا الإصرار في مواجهة النظام سرعان ما تراجع وانحدر ما إن سقط رأس النظام، حيث لم تتمكن الجماهير من أن تعي مباشرة أنّ مهامها الثورية لم تكن تستهدف رأس النظام بقدرما كانت تستهدف النظام القائم برمته وأن مصالحها الجوهرية لا يمكن تحقيقها إلا إذا واصلت نشاطها الثوري وربطت مطالبها السياسية بمطالبها الاقتصادية، وهو ما يعني استهداف كامل النظام السياسي والاقتصادي القائم. لم تع الجماهير مسؤوليتها في إنجاز مهمات ثورتها ولم تخلق ومن داخل حراكها أداتها التنظيمية المستقلة وبرنامجها السياسي المتمثل لمصالحها باعتبارهما ضرورة لابد منها لمواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها كاملة.
لقد غاب عن الجماهير أن العامل الذي لابد منه للاستمرار في الثورة، وقطع الطريق على بقايا النظام والقوى البرجوازية والليبرالية والإصلاحية والبيروقراطية النقابية لترميم نظام الدكتاتورية، هو أن تسلّح الجماهير الثائرة نفسها في الأحياء والمصانع وفي كل أماكن تواجدها بسلاح التنظم الذاتي و الإدارة الذاتية لكل مناحي الحياة ، من أجل خلق حالة من ازدواجية السلطة.
إنّ أسباب عجز الحركة الشعبية عن إفراز تنظيمها الجماهيري أثناء الحراك الثوري وتجاوز عفويتها وتحقيق مهام الثورة، أسباب عدة. فالحركة العمالية وتحديدا قسمها العامل في القطاع الخاص ظل مترددا ولم ينخرط في الحراك إلا جزئيا، وفي مرحلة متأخرة نظرا لغياب الوعي لدى هذا القسم بمصالحه الطبقية وبضرورة النضال من أجل تحقيقها، وبالتالي بأهمية التنظم السياسي المستقل عن الأطر الإصلاحية والبرجوازية. فانتساب هذا القطاع للإتحاد العام التونسي للشغل كان يعدّ ضعيفا جدا مقارنة بانتساب قطاعات الوظيفة العمومية الذي يطغى عليه العنصر البرجوازي الصغير. كما أن فئة الشباب من المعطلين والتي كانت أكثر القطاعات كفاحية في الثورة لم تكن مؤهلة للدفع في اتجاه بناء أداة تنظيمية وسياسية جماهيرية لقيادة الثورة، وظلت تنشط بشكل غير منظم وممركز. كذلك ظلت القوى السياسية اليسارية والتي تعتبر نفسها معنية بالثورة وبالتجذر في الأوساط العمالية وقيادة الجماهير الشعبية بعيدة وعاجزة عن الالتحام بالحركة الجماهيرية والارتباط بقوى الثورة، وانساقت وراء ما هو سياسي وأغفلت الجانب الاجتماعي الاقتصادي للثورة ومهمة تنظيم الجماهير، وهو ما جعلها تبقى في عزلة تحول دونها والقيادة السياسية والميدانية للجماهير. كما لا يجب أن نغفل الدور الذي لعبته المركزية البيروقراطية المهيمنة على الإتحاد العام التونسي للشغل في تكبيل كل إمكانية لاستقلالية الحركة العمالية سواء في عهد الديكتاتور أو بعد الإطاحة به.
لقد حدثت الثورة في ظل شروط موضوعية ناضجة ومؤهلة لحصول عملية تغيير جذري، إلا أن الشرط الموضوعي وحده ليس كافيا لضمان انتصار الجماهير وتحقيق كل مهمات الثورة. لقد كان لغياب العامل الذاتي وعيا وتنظيما الدور الحاسم في اكتفاء الجماهير بالإطاحة ببن علي وليس بنظامه ككل، وفي صعوبة أن تأخذ الثورة طابعا صريحا ومعاديا للإمبريالية وأن تتخلى الجماهير عن مطالبها الاجتماعية. كما ساعد بقايا النظام على الالتفاف على الثورة والمناورة لحرفها عن مسارها وتوقيف المسار الثوري دون أن تتمكن الجماهير من إنجاز مطالبها السياسية والاقتصادية التي ثارت من أجل تحقيقها.

2 ـ طبيعة ثورة الحرية والكرامة

منذ 14 جانفي تحولت مسائل مثل طبيعة الثورة والقوى الطبقية التي قامت بها وطبيعة السلطة التي يجب أن ترسيها والمهام المطروحة التي يجب أن تحققها، من مقولات نظرية يتطارحها قلة من النخبة اليسارية إلى مسائل تهم القوى الطبقية التي قامت بالثورة، والإجابات عليها ستحدّد مستقبل الثورة ومستقبل الصراع ضدّ الطبقة البرجوازية وبقايا نظام بن علي، فإما السير بالثورة إلى النهاية أو التعثر والتراجع وإتاحة الفرصة لهذه الطبقة ولممثليها لإعادة ترميم نظامها السياسي.
فعندما أطاحت الجماهير يوم 14 جانفي بالدكتاتور بن علي، كان مفترضا أن تتقدم الثورة على أرضية طبقية واضحة وتبدأ في تحقيق مهماتها التي تكثفها المطالب الجوهرية لأي تغيير جذري (الحق في السلطة ـ الحق في الثروة ـ الحق في الديمقراطية). لقد جسّد رحيل الديكتاتور بداية انهيار سلطة البرجوازية . فيوم 14 جانفي 2011 سقطت شرعية الدولة البرجوازية وشرعية نظامها السياسي والاقتصادي، وتقلص نفوذ جهازها القمعي إلى أقصى درجة ودبت فيه الفوضى. وفي اليوم الموالي لرحيل الدكتاتور بن علي لم يلتحق رجال الشرطة بمراكز عملهم، وخلت منهم الشوارع ولم تبق غير قوات الجيش تحرس الوزارات والإدارات وتتمركز في بعض الساحات والمفترقات. يومها كان الشعب وبكل أطيافه في كل بلدة وبشكل عفوي يمارس سلطة أخرى ومن نوع جديد، إنها سلطة ثورية قاعدية عبر اللجان التي انتشرت في كل مكان لحماية الأحياء وتسيير شون الحياة اليومية. لقد سقطت شرعية النظام وبدأت تظهر للوجود شرعية الثورة والثوار،حين تمظهرت في تلك اللجان الشعبية القاعدية، لتتجاوز عفويتها وتؤسس لشكل جديد من السلطة البديلة .
فقد كان يكفي أن تدعم القوى التي تنسب نفسها للثورة وتحديدا القوى اليسارية هذا الشكل القاعدي الثوري للسلطة الشعبية وتنخرط فيه وتتبناه حتى يتحول إلى سلطة حقيقية لا تقهر، باعتباره الشكل الأكثر ديمقراطية والأكثر تمثيلا للشعب. فمطالب الحق في الديمقراطية و الثروة والسلطة والتي رفعتها الجماهير ومثلت أرضية مطالب الثورة كانت تتطلب سلطة من نوع المجالس الشعبية لتحقيقها. لم يكن بمقدور هذه المجالس، وهي على شكلها العفوي وفي غياب تملكها لرؤية سياسية برنامجية ،أن تتحول إلى سلطة بديلة.
لقد كان موكولا لليسار الثوري أن يعمل من داخل الجماهير ومعها على تجاوز العفوية وتملّك البرنامج، لكن، و للأسف، لم يكن اليسار الثوري يعي أهمية ما يجري أمامه. ولأن الصراع لا يتوقف ولا ينتظر من ليس جاهزا أو من لم يع مهماته في وقتها، ولأن مسألة حاسمة في الصراع كمسألة السلطة لم تكن لتتطلب التأجيل، فقد كان في الجانب الآخر قوة سياسية أخرى، أكثر جرأة في الإعلان عن نفسها رغم لاشرعيتها ورغم سجلها القمعي والإجرامي في حق الشعب، على أنها البديل عن نظام الديكتاتور: إنها بقايا الدكتاتورية.
لقد أطيح بالدكتاتور ولكن بقايا الدكتاتورية عادت وظهرت على الركح من جديد،مستفيدة من غياب رؤية واضحة حول المسائل المتعلقة بطبيعة الثورة وطبيعة السلطة التي سترسيها والمهام الثورية المطروحة للإنجاز في صفوف تيارات اليسار الماركسي التونسي. الأمر الذي أدى به إلى تبني مواقف إصلاحية برجوازية صغيرة ساهمت بشكل أو بآخر في توقيف المسار الثوري بعد 14 جانفي ومكنت البرجوازية من مواصلة سيطرتها الطبقية وإعادة ترميم نظامها.
فالكثير من مجموعات اليسار الماركسي الستاليني والماوي تربت على نظرية الثورة على مراحل، ولم تكن ترى في الثورة في بلد كتونس سوى ثورة وطنية ديمقراطية لا يمكن أن يلعب فيها العمال إلا دورا داعما ومساعدا للبرجوازية الوطنية الموكول لها إنجاز المهمات الديمقراطية. لقد بنوا كل إستراتيجيتهم على برنامج الحد الأدنى الديمقراطي أو برنامج الجمهورية الديمقراطية. لقد كانت هذه المجموعات ترى أن الدور الرئيسي في الثورة سيكون للبرجوازية الوطنية وبنوا كل تصوراتهم البرنامجية حول أولوية المهمات الديمقراطية التي يمكن تحقيقها على أرضية برجوازية. فأطروحاتهم لازالت تعتبر قسما من الطبقة البرجوازية التونسية وطنيا وتوكل إليه مهمات ارساء الدولة الديمقراطية بدعم من العمال وشرائح البرجوازية الصغيرة.
سيطرت في تونس، وفي إطار إستراتيجيا الاستعمار الجديد وفي أغلب البلدان التي خضعت في فترة من تاريخها للاستعمار المباشر، على دواليب الدولة والاقتصاد، طبقة برجوازية مرتبطة عضويا برأس المال العالمي وتابعة له، بنت نفوذها الاقتصادي والسياسي ودعمته على قاعدة هذه التبعية.وقد فرضت الإمبريالية العالمية على هذه الطبقة، وهو نفس الشأن بالنسبة لكل البلدان المتخلفة تقريبا، أن تقبل بإستراتيجيتها الجديدة القائمة على الهيمنة التي تعني الإبقاء على تخلف المجتمع على كل المستويات، وهو الوضع الذي قبلت به البرجوازية التونسية ضعيفة الرأسمال ومحدودة السوق. و هذه التبعية تكرست أكثر فأكثر أثناء عولمة رأس المال في العشريتين الأخيرتين.
لقد عجزت البرجوازية التونسية التابعة المرتبطة مصالحها عضويا بالمصالح الإمبريالية عن تحقيق مهمات التحرر الوطني و بناء الدولة الديمقراطية، ولم تتمكن من إرساء إلا دولة ديكتاتورية أنتجت المزيد من الأزمات الاجتماعية والقمع المعمم والتبعية والاستبداد والفساد. ولم تكن دولة البرجوازية التابعة سواء في عهد بورقيبة أو في عهد خلفه سوى دولة دكتاتورية قائمة على القمع ومصادرة الحريات الديمقراطية. فهي دولة مؤسساتها صورية، لا شعبية وغير ديمقراطية، شرّعت لنظام الحزب الواحد وتضخمت فيها مؤسسة الرئاسة وتعاظم فيها دور الرئيس إلى حد إنتفت فيه أية سلطة خارج سلطاته. وحتى بعض الحريات الجزئية التي وقع التنصيص عليها في دستور 1959 فإنها ظلت مجرد حبر على ورق، لأنه وقع إبطالها بقوانين لاحقة مانعة لكل إمكانية لتحقيقها على أرض الواقع.
ولعل ارتباط البرجوازية المحلية برأس المال العالمي وانخراطها في المشروع الإمبريالي الاستعماري جعلها تتحول إلى وكيل للإمبريالية وعَكَسَ العجز التاريخي الذي أصبحت عليه هذه البرجوازية في علاقة بالمسألة الوطنية والديمقراطية و جردها من أي طابع وطني أو ديمقراطي تقدمي.
وبالرغم من أهمية مسألة الحريات والديمقراطية والتحرر من الهيمنة الإمبريالية وما تطرحه من إشكالات سواء فيما يتعلق بالقوى الطبقية التي ستنجزها أو بموقعها في البرنامج الثوري فإنها بقيت بحاجة إلى نقاش عميق في صفوف تيارات اليسار الماركسي التونسي الجديد والتي بدَت وكأنها متفقة في الجوهر منذ ظهورها في ستينات القرن الماضي بإتجاهيها الستاليني والماوي على أن أمر إنجاز هذه المهمات يتطلب مرحلة قائمة بذاتها منفصلة عن مرحلة الثورة الاشتراكية برغم الدور الذي ستلعبه فيها الطبقة العاملة وفئات البرجوازية الصغيرة وبالتالي فالثورة المطروحة في تونس هي ثورة ذات طابع وطني ديمقراطي سيتم إنجازها في إطار تحالف واسع سيظم العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية وسينجز هذا التحالف مهمة الاستقلال عن الإمبريالية وسيرسي الحريات الديمقراطية. وباعتبار التخلف الذي عليه بنى المجتمع الاقتصادية فإنه موكول لطبقة البرجوازية الوطنية أن تبني اقتصادا وطنيا تتطور على قاعدته علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج في مرحلة أولى قبل المرور إلى المرحلة الثانية التي سيقع فيها بناء الاشتراكية.
مثل هذا الطرح قاد هذه المجموعات اليسارية إلى تبنى مفهوم الثورة الاشتراكية على مراحل وتبني مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التي تسبق الثورة الاشتراكية، والتي هي بالمحصلة ثورة لا تستهدف قلب النظام الرأسمالي وتغيير المجتمع وإنهاء سيطرة الطبقة البرجوازية بقدرما هي عملية سيقع فيها تغيير السلطة بسلطة تمثل هذا التحالف الوطني الديمقراطي دون المساس بأسس النظام الرأسمالي.
هذا الطرح لم يتبناه الستالينون والماويون التونسيون على أساس تحليل ملموس للواقع بل هو في الحقيقة كان لديهم صدى للأطروحات الاشتراكية الروسية في بداية القرن العشرين وقبل أكتوبر 1917 والتي كانت لا ترى للبروليتاريا أيّ دور في البلدان التي لم تنجز فيها البرجوازية ثوراتها الديمقراطية إلا مساعدة هذه الطبقة على إنجاز المهام الديمقراطية لتسهيل مهمة النضال في سبيل الاشتراكية.
هذه الخلفية النظرية كانت وراء حصر مجموعات اليسار التونسي الستالينية والماوية لنضالاتها طيلة الفترة البورقيبية وكذلك أثناء حكم الديكتاتور بن على في النضال من أجل الإصلاحات الديمقراطية والحريات السياسية، وهو أفق جعلها،وطيلة تاريخها تناضل من أجل الجمهورية الديمقراطية والدولة التعددية، وتعجز عن إدراك أن إنجاز المهمات الديمقراطية أصبح يتطلب سلطة تبنى على أنقاض هذه الجمهورية الديمقراطية البرجوازية نفسها سلطة من طراز جديد يقع إرساؤها في إطار ثورة تنجز فيها القوى الثورية، بقيادة الطبقة العاملة، هذه المهمات عرضا في إطار برنامجها الثوري المعادي للنظام الرأسمالي.
إن أطروحة الثورة الوطنية الديمقراطية تقوم على تناقضات عديدة و فهم وقراءة خاطئة لتاريخ تطور النظام الرأسمالي العالمي والحدود التي انتهى إليها، والأزمة التي أصبح يتخبط فيها كما الوضع الكارثي الذي وضع فيه هذا النظام الإنسانية جمعاء على كل المستويات. لقد ولى ذلك الزمن الذي كانت فيه الرأسمالية قوة طبقية دافعة تقدمية وديمقراطية، فقد ارتدّت منذ بداية القرن العشرين الوظائف التقدمية لهذا النظام أمام اتجاهاته البربرية، والتي تجلت صورها الأكثر دمارا في وقتنا الحاضر: حروب تفقير معمم وبطالة مرتفعة وتهميش إقصاء اجتماعي وتدمير للبيئة ...
ولئن وقع التأكيد على هكذا مضامين منذ بداية القرن العشرين عن طريق مفكرين ثوريين مثل روزا لكسمبررغ وترو تسكي ولينين فإن مقولة "إما الاشتراكية أو البربرية" تجد إثباتاتها التي لا تقبل الدحض اليوم في عصر الليبرالية المتوحشة أكثر من أي وقت مضى. إننا نعيش عصر قمّة الانحدار التاريخي لنمط الإنتاج الرأسمالي عصر زوال الرأسمالية.
لقد فشلت كل أنظمة هذا النمط من الإنتاج ولم تعد تؤدي إلا إلى الأزمة وإقصاء الأغلبية واستغلالها أكثر واستبعادها عن المشاركة في تنظيم وإدارة شؤون حياتها ومحيطها على كل الأصعدة .فمقولة الديمقراطية البرجوازية قد سقطت باعتبارها ليست إلا ديكتاتورية مقنعة للأقلية المتحكّمة والمالكة لوسائل الإنتاج.
وهذا يدحض أية أطروحة مازالت إلى اليوم ترى أنه بإمكان الطبقة البرجوازية قيادة عملية التقدم الاجتماعي سواء في بلدان المركز أو في بلدان الدائرة المحيطة به، لأن اندماج البرجوازية على المستوى العالمي و ارتباط مصالحها في ظل النظام الاقتصادي المعولم يجعل رأس المال فاقدا لأي بعد وطني. لقد اندمجت برجوازيات البلدان التابعة اندماجا كليا بآليات السوق وسقطت كل الحواجز أمام عولمة رأس المال.
إن حاجة الشعوب اليوم في البلدان التي لم تنجز فيها البرجوازية ثوراتها الديمقراطية إلى ديمقراطية حقيقية في الانتخاب الحر للحكومات و حرية الصحافة والتعبير والتنظم و الاجتماع و فصل الدين عن الدولة والمساواة بين الجنسين تعدّ مسألة مؤكدة. وكل هذه المهمات لم يعد بمقدور الشعوب تحقيقها في إطار النظام الرأسمالي وبقيادة البرجوازية، لأن هذه البرجوازية أصبحت هي نفسها المعرقل لإنجازها، وقد ثبت ذلك تاريخيا حتى في أعرق البلدان التي نطلق عليها بلدان الديمقراطية البرجوازية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا و بريطانيا و ألمانيا واليابان و سويرا فكل أجهزة الديمقراطية البرجوازية ومؤسساتها من برلمانات وقضاء وإعلام وأنظمة إدارية محتكرة بصفة كلية في يد الأقلية البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وموجَّهَة للتحكم في الأغلبية حتى أننا أصبحنا نتحدث عن مجتمع الأقلية المالكة والحاكمة والموجِّهة والمسيطرة على الأغلبية المستغَلَّة والمفقَّرة والمبعَدة. لذلك فمهمة إنجاز الحقوق الديمقراطية سواء في البلدان الإمبريالية المتقدمة أو في البلدان التي تسيطر فيها ديكتاتوريات برجوازية تابعة للإمبريالية تتطلب قوة طبقية أخرى غير البرجوازية. وهي القوة المؤهلة موضوعيا بحكم وضعها الطبقي لإنجاز هذه المهام إلى النهاية. إنها مهام الطبقة العاملة وحلفائها من فئات البرجوازية الصغيرة المفقرة وغير المالكة التي سيكون بمقدورها القيام بذلك. لقد أصبح من البيّن في عصرنا الذي بلغت فيه عولمة رأس المال ذروة وحشيتها أنْ لا طريق لبلوغ الحقوق الديمقراطية إلا عبر الإطاحة بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية كنمط إنتاج.فليس هناك من حل وسط ،فإما ثورة تقلب الأمور جميعا بمعنى أن تطيح بالدولة البرجوازية وتتوّصل فيها الأغلبية بقيادة الطبقة العاملة إلى السيطرة على وسائل الإنتاج، وإما ثورات فاشلة لا تغير من الوضع القائم كثيرا، لأن إمكانية ترميم النظام السياسي البرجوازي وكل أجهزته تظل قائمة كما الاستغلال واللامساواة والتهميش والإبعاد طالما ظلت الثروة ووسائل الإنتاج في أيدي قلة من الرأسماليين.
لم يفهم اليسار الماركسي الستاليني والماوي في تونس كل هذا لذلك رأيناه بعد 14 جانفي يسارا مترددا وعاجزا عن الاستقلال عن الأرضية البرجوازية وغير قادر على بلورة برنامج الثورة ومهامها والالتحام بالقوى الثورية وممارسة الصراع ضد بقايا الديكتاتورية من موقع الطبقة العاملة وحلفائها. ولم يكن الستالينيون والماويون في تونس أحزابا ومجموعات قادرين على إدراك أن تحقيق المهمات الديمقراطية للثورة في تونس أصبح يتطلب سلطة عمالية وشعبية وأن الطابع الديمقراطي للثورة ليس إلا طابعا عرضيا أمام طابعها الأساسي المعادي للرأسمالية.
إن عجز اليسار الستاليني والماوي على تجاوز أطروحة الثورة على مراحل وفهم طبيعة الثورة وطبيعة السلطة التي يمكن أن تنجز المهام الديمقراطية للثورة كان حاسما في جعل قوى اليسار لا تطرح على نفسها مسألة السلطة ولا تبني برنامجها على هذه القاعدة وتكتفي بالنضال في إطار الأرضية التي فرضتها البرجوازية عبر بقايا الدكتاتورية، وبدعم من الإمبريالية، وتحصر كل نشاطاتها في الجانب السياسي وتغفل البعد الاجتماعي للثورة وتختزل كل مطالب الثورة في مسألة المجلس التأسيسي الذي سينجز على قاعدة قانونية صاغتها هيئة بن عاشور المسماة بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" التي نصبتها الحكومة المؤقتة اللاشرعية، وهي ديناميكية لا يمكن أن تفضي إلا إلى ظهور برلمان برجوازي، مثله مثل كل البرلمانات البرجوازية في العالم، عبره ستواصل البرجوازية المحلية المدعومة إمبرياليا سيطرتها الطبقية سياسيا واقتصاديا على الطبقات الفقيرة.
لقد بينت تجارب عديد الثورات في القرن العشرين الخطأ القاتل الذي إرتكبه اليسار الماركسي في حق الحركة العمالية أثناء هذه الثورات عندما قبل بأطروحة الثورة على مراحل واعتبر أن تلك الثورات هي ثورات ديمقراطية ويتطلب إنجاز مهماتها تحالفا بين الطبقة العاملة والأحزاب البرجوازية، والذي لم يكن يعني إلا خضوع الطبقة العاملة للبرجوازية. ولن نذكّر هنا بكل تجارب الثورات التي وقعت في القرن العشرين وأجهضت بسبب أخطاء الأحزاب الماركسية المتعلقة بمسألة طبيعة الثورة وقيادتها ونوع السلطة التي يجب أن ترسيها، وسنكتفي فقط بالإشارة إلى تجربتين نموذجيتين في هذا الباب:
تمثل الأولى خطإ الحزب الشيوعي العراقي، حين أسقطت الحركة الجماهيرية الملك فيصل سنة 1958، وقد كان وقتها الحزب قويا وقادرا على تجذير الثورة وقيادة الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين إلى استلام السلطة، لكنه ونظرا لطبيعة برنامجه الإستراتيجي المبني على إستراتيجية الثورة على مراحل وعلى برنامج الحد الأدنى القائم على اعتبار أن الثورة ثورة ديمقراطية وأنه يجب التحالف مع البرجوازية الوطنية لإنجاز المهام الديمقراطية، خير التحالف مع حزب البعث على أساس أنه حزب يمثل البرجوازية الوطنية. لقد كان لهذا الخطأ الإستراتيجي تلك النتيجة الكارثية التي نعرفها جميعا، حيث لم يؤد هذا التحالف، والذي لم يكن يعني غير سيطرة البرجوازية على الطبقة العاملة، إلا إلى انقلاب حزب البعث على الحزب الشيوعي واستئثاره بالسلطة، وبالتالي سيطرة الطبقة البرجوازية على الاقتصاد والدولة والمجتمع في إطار نظام صدام حسين التوتاليتاري . فاعتبار الثورة إنجازا ديمقراطيا تلعب فيها البرجوازية الوطنية دورا شبيها بالدور الذي لعبته البرجوازية الفرنسية إبان الثورة الفرنسية لم يكن إلا وهما، وهو الخطأ القاتل الذي إرتكبه الحزب الشيوعي العراقي. ففي ظل حكم صدام لم يكن بمقدور البرجوازية أن تبني غير اقتصاد تابع ودولة برجوازية تنعدم فيها أبسط الحريات الديمقراطية.
أما التجربة الثانية، فهي نموذج أيضا من الأخطاء الإستراتيجية لليسار الماركسي، تمثّلت تجربة الثورة الإيرانية سنة 1979، عندما وقع إسقاط شاه إيران. و كان للإضراب العام وللمجالس العمالية التي عمت البلاد دور حاسم في ذلك. وعوض أن يدفع اليسار الماركسي إبان هذه الثورة العمال وحلفائهم من الفلاحين الفقراء إلى إفتكاك السلطة اكتفى بتأييد الخميني كممثل للبرجوازية الوطنية انطلاقا من فهم خاطئ لهذا اليسار الماركسي لطبيعة الثورة وطبيعة السلطة والمهام التي ستنجزها. فكانت النتيجة كارثية أيضا باعتبار المسار الذي تطورت فيه الثورة الإيرانية وطبيعة السلطة التي أنشأها الخميني والمستمرة إلى اليوم ،ولكن على رقاب العمال والفلاحين الفقراء الذين خضعوا ومازالوا إلى استغلال لا مثيل له في ظل انعدام كلي لأبسط الحريات الديمقراطية. إنه الخطأ القاتل نفسه يتكرر في الثورة التونسية . فأحزاب ومجموعات اليسار الماركسي عجزت على أن تلعب دورا فاعلا في الثورة .
لذلك كانت قبل 14 جـانفي مترددة ومراوحة وحتى بعد أن تطور الوضع إلى سياق ثوري، بقيت على انعزاليتها وسلبيتها، لتُواصل هذا الحال حتى بعد الإطاحة بالدكتاتور.
إن غالبية الأحزاب و مجموعات اليسار الماركسي الستالينية والماوية كانت تغفل الدور القيادي للطبقة العاملة وحلفائها من البرجوازية الصغيرة في الثورة ولم تر من أفق للثورة أبعد من مهمة إرساء الجمهورية الديمقراطية .
وبعد 14 جانفي لم تكن هذه الأحزاب والمجموعات جذرية في طرح مسألة النضال ضد النظام ككل كما أنها قد ركزت على المستوى السياسي للصراع وعلى الموقف مما تطرحه الحكومة المؤقتة من مبادرات مع بعض الضغط عليها من أجل الحصول على بعض التنازلات.وحتى إسقاط حكومة الغنوشي الأولى والثانية فإنه كان نتيجة لفعل قوى الثورة التي رأت أن المهام الثورية لم تنجز بعد، وأن الإطاحة بالدكتاتور بن علي لابد أن تستكمل إلى النهاية باستبعاد كل بقايا الدكتاتورية. لقد فرضت الحركة الشعبية ذلك باعتصام القصبة الأول والثاني، لكن، ونظرا لغياب قيادة سياسية لهذه الحركة، فإن بقايا الدكتاتورية، وبدعم من الإمبريالية سرعان ما ناورت وعادت من جديد لمواصلة التحكم في المسار وتنصيب نفسها كسلطة مؤقتة للمرحلة التي ستسبق انتخاب المجلس التأسيسي.
لقد حصرت أحزاب ومجموعات اليسار الستاليني والماوي نضالاتها على شكل السلطة وليس على جوهرها الطبقي. ولم تكن إستراتيجيتها، بعد أن نصبت بقايا الديكتاتورية نفسها، مبنية على مواصلة الثورة والسير بها إلى النهاية حتى استكمال مهامها بقدرما كانت حول الإصلاح السياسي والإقتصاي و حول شكل الدولة وليس حول طبيعتها، وحول الحصول على إصلاحات اقتصادية وليس حول طبيعة النظام الاقتصادي ذاته.
إنّ أوهامهم حول طبيعة المرحلة وتناقضاتها، والحضور الطاغي للعنصر البرجوازي الصغير في تنظيماتهم هي التي قادهم إلى التركيز على التغيير السياسي كبعد وحيد في نضالهم، تُوجِّهُهُمْ في ذلك رؤية تفصل بين السياسي و الاقتصادي وبين شكل النظام وجوهره الطبقي.
ومثل هذه الأوهام قادت إلى اختزال كل استحقاقات الثورة في برامج هؤلاء في انتخاب مجلس تأسيسي وصياغة دستور جديد للبلاد. وجرّاء ذلك تحوّلت هذه الأحزاب والمجموعات إلى قوى تحشيد لانتخابات المجلس التأسيسي لا بعد عمالي أو طبقي في نضالها.
لقد غاب عن هؤلاء أن الجماهير ثارت وأطاحت ببن علي لأنها كانت تعاني من واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي كارثي، وأن أي تغيير، لا يكون فعلا مجديا إلا إذا عالج مسألة الوضع الاقتصادي المباشر لهذه الجماهير كما الوضع السياسي. لأن الجماهير لا يهمّها اليوم بالدرجة الأولى تغيير شكل النظام السياسي بقدر ما يهمّها تغيير واقعها الاقتصادي عبر حلول جذرية.
والتأكيد على ذلك ليس لغياب في وعي الجماهير لشكل النظام السياسي الذي يجب أن يكون بديلا لنظام الدكتاتور بن علي، بل لأن المدخل الحقيقي لتجذير نضال الجماهير، هو المدخل الطبقي المتعلق بطبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي، أصل كل الأزمات وأساس كل استغلال وتفقير تعاني منه الأغلبية الساحقة من الشعب. فأحزاب اليسار الستاليني والماوي تجاهلت جوهر الصراع مع الطبقة البرجوازية ورأس المال وركزت على النضال من اجل تغيير شكل سلطة رأس المال، لذلك كانت أولوياتها سياسوية وانتخابوية، وأقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو تمثيلية قزمية لهذه الأحزاب في برلمان ستسيطر عليه البرجوازية التابعة وستتخذه مؤسسة تشريعية لمواصلة استغلال العمال وأغلبية الشعب.
إن اليسار الماركسي الستاليني والماوي، وكما رضي بالعمل على أرضية الجبهة اليمينية، أرضية السلطة الانتقالية البرجوازية اللاشرعية، سيقبل بعد انتخاب المجلس التأسيسي أن يكون الديكور الجديد لهذه المؤسسة التي سوف لن تخرج عن نفوذ وسيطرة الطبقة البرجوازية.
إن طبيعة الثورة في تونس تتحدد بطبيعة المهام التي طرحتها الجماهير أثناء المسار الثوري والتي هي الحق في السلطة والحق في الثروة والحق في الديمقراطية. وهي مهام، في الواقع، لا يمكن تحقيقها دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي وأجهزة دولته.
فالطابع الديمقراطي والاجتماعي للثورة في تونس وطبيعة القوى الفاعلة فيها وصاحبة المصلحة في التغيير الثوري المنشود هي قوى بالأساس معادية ومناهضة للطبقة البرجوازية، ولا يمكن لها أن تحقق مصالحها إلا إذا أطاحت بالدولة البرجوازية وبأجهزتها على أساس برنامج مناهض في جوهره للرأسمالية. لأن الطبقة العاملة وحلفاءها من الفئات الشعبية لا يمكن لهم مواصلة الثورة إلا على هذه القاعدة. ومهمات هذا القطب الطبقي هو سياسة اقتصادية تحقق بالفعل شعار الحق في الثروة، وديناميكية ثورية بالفعل تتيح الحق في الديمقراطية، و كل ذلك لا يمكن انجازه دون وصول العمال والفئات الشعبية إلى السلطة.
إن سلطة عمالية شعبية ديمقراطية يتمثّل فيها المنتجون وكل فئات الشعب المناهضة للرأسمالية لهي الكفيلة بتحقيق كل المهام التي ذكرنا في إطار برنامج انتقالي، تتحقق فيه المطالب الجماهيرية الديمقراطية عرضا أثناء إنجاز المهمات الأساسية لهذا القطب الطبقي والتي هي بالأساس مهام معادية للرأسمالية .وإنجاز برنامج الحريات الديمقراطية أصبح اليوم من مهمات الطبقة العاملة وحلفائها ولا يمكن إنجازه إلا على أساس مناهض لرأس المال والدولة البرجوازية.
إن القوى الثورية مدعوة إلى تجاوز أطروحة الثورة على مراحل و بلورة رؤية إستراتيجية تستنهض الجماهير لمواصلة المسار الثوري والوصول إلى السلطة. ولعل من مهام القوى الثورية اليوم الاستقلال سياسيا وتنظيميا وبرنامجيا عن الأرضية اليمينية ،التي لم تقدم سوى مشروع انتخاب مجلس تأسيسي، تؤشر كل المعطيات أنه سينجز حسب تصورات وأرضية تحت نفوذ بقايا سلطة بن علي واملاءات حلفائها الأمريكان والفرنسيين.
إن غياب طرح مسألة السلطة لدى أحزاب اليسار الستاليني والماوي و انخراط هذه الأحزاب في التنافس من أجل الجمهورية الديمقراطية هو الإقرار الملموس بأوهامهم حول طبيعة الثورة وطبيعة المهام التي عليها أن تنجزها وبخطأ إستراتيجية الثورة على مراحل.
إن المسار الثوري قد كشف أن الثورة ثورة دائمة وأن قواها هي الطبقة العاملة وحلفاؤها من الفئات الشعبية المناهضة لرأس المال وأن الدولة الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار هذه السلطة البديلة.
ــــــــــــــــــــــ
بشير الحامدي
سبتمبر 2011



#بشير_الحامدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكاننا الطبيعي أن نسير على درب الشهيد وأن نجلب الربيع لحديقة ...
- إلى السيد صدى النهضة الأغلبي
- من الفصل الثالث من كتاب الحق في السلطة والثروة والديمقراطية ...
- ما العمل لدفع عملية الصراع ضد قوى اليمين والإمبريالية في الم ...
- تونس من أجل تكتل نقابي ضد التحالف السلفي الليبرالي والبيروق ...
- تونس نعم لفتح ملف الفساد في الإتحاد وعلى النقابيين اليوم عد ...
- أي دور للمعارضة النقابية في الإتحاد العام التونسي للشغل في م ...
- في تونس ثورة مغدورة و برلمان بالعمامة واللحية والعصا
- من الفصل الرابع من كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقرا ...
- تونس حول الصراع على النفوذ بين مراكز القوى في جهاز البوليس ...
- الديمقراطية البرجوازية ديكتاتورية الأقلية
- رد مطول على تعليق قصير
- بشير الحامدي في حوار مفتوح مع القارئات و القراء حول: ثورة ال ...
- ثورة الحرية والكرامة ما زالت مستمرة ومهمة إسقاط النظام مازال ...
- حول المؤتمر الوطني لللجان و المجالس الجهوية و المحلية لحماية ...
- تونس ليكون المؤتمر الوطنى للجان والمجالس المحلية والجهوية ل ...
- الثورة في تونس:إصلاحات برجوازية أم تغيير جذري
- في ثورة الحرية والكرامة المجلس التأسيسي ليس مهمة من مشمولات ...
- الثورة في تونس مستمرة نعم ولكن كذلك قوى الثورة المضادة مازال ...
- تونس من أجل توسيع حالة الفراغ من حول حكومة الغنوشي من أجل إ ...


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بشير الحامدي - بعض القضايا المتصلة بالثورة الفصل الرابع من كتاب الحق في السلطة والثروة والديمقراطية الصادر بتونس سبتمبر 2011 للكاتب بشير الحامدي