|
التقرير الإسترتيجي الإسرائيلي السنوي 2011 الحلقة الأولى
عليان الهندي
الحوار المتمدن-العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 11:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الشرق الأوسط الجديد ما الذي تغير ؟
مارك هيلر مثل معظم الظواهر المصيرية في التاريخ، يبدو أن من السهل تحليل موجه المظاهرات ضد الأنظمة العربية الديكتاتورية التي سميت بالربيع العربي. وبنظرة إلى الخلف، ومن اللحظة التي خرجت المظاهرات الأولى ضد نظام الحكم في تونس بمدينة سيدي أبو زيد بنهاية تشرين أول عام 2010، بدء محللي الشرق الأوسط يفسرون لماذا لم يشكل حرق بائع العربة المتجول سببا لاندلاعها، بل كانت الشرارة التي أشعلت ثورة ضد الديكتاتور الفاسد والمتصلب زين العابدين بن علي الذي انقطع أكثر وأكثر عن واقع المجتمع التونسي الذي ازداد شبابا، وتنكر ولم يوفر العمل أو أي صورة من المشاركة لهذا المجتمع في النمو الاقتصادي، أو حتى احترامه بالطريقة التي يستحقها. وأضاف الخبراء في وصفهم كيف أن النظام فقد طبيعته الخاصة به في أعقاب تسلل وسائل الإعلام غير الخاضعة للرقابة مثل الجزيرة والشبكات الاجتماعية على الانترنت، وكيف خدمت هذه الوسائل جيل الشباب من سن 15-29. وشارك الشباب في غضبهم، الأجيال والجهات الأخرى التي بدت واثقة من قدرتها على التعاون بحيوية مع الآخرين وتنسيق المواقف معهم. كذلك وصف الخبراء كيف أن وسائل الإعلام عملت على نشر وتوزيع المظاهرات للعالم الخارجي، وكيف شجعت شركاء النظام والموالين له بالتخلي عنه. وفي نهاية، تحدث الخبراء ،كيف أن دمج العوامل الداخلية والخارجية ،دفع إلى تشكيل جماعات سياسية جديدة ،خاصة الجيش، إلى التخلي عن الحاكم المستبد وإجباره على الخروج من القصر الرئاسي إلى المنفى الإجباري إلى السعودية. وقالوا أن ما جرى أشعر الشعب بالكرامة والحرية التي حرموا منها فترة طويلة. في حالة تونس تبدو الرواية المذكورة مقنعة جدا لأنها تساوت مع الأحداث التي وقعت في هذا البلد. لكن ما جرى في تونس يحمل عناصر مشابهة منتشرة في الشرق الأوسط، وما حدث في تونس أشار لمستقبل بقية الدول العربية. وفي اللحظة التي حطم فيها التونسيين "حاجز الخوف" –الذي لم ينسب لعدم وجود نشاط سياسي في المنطقة- تحولت دولتهم لمحرك لتطورات مشابهة في دول أخرى. بكلمات أخرى، اعترف المراقبون بأن سقوط بن على كان مفاجئا لهم، وأقروا أنهم لن يفاجئوا إذا سقطت أنظمة أخرى في المنطقة. وتعزز الموقف المذكور عندما سقط مبارك ،الذي أدعى كثيرون أن مصر لا تشبه تونس. لكن مصر مرت بمرحلة مشابهة بعد شهر من سقوط بن علي. وبعد فترة قصيرة انتشرت المظاهرات من المغرب حتى البحرين وعمان في الشرق. ورغم أن مستوى المظاهرات اختلف من مكان لأخر إلا أن حجم الظاهرة يفسر الاعتقاد بان ما جرى لم يكن سوى انقلاب ممنهج، احتاج لشرارة، التي جاءت من تونس. ويسود الاعتقاد أن عام 2011 هو النسخة الشرق أوسطية لثورات سنوات 1789 و 1848 و 1968 و 1979 و 1989 التي اندلعت في مناطق مختلفة من دول العالم، وإن الحكام المستبدين سيطردون بسرعة من كل دولة نظرا للتعطش للديمقراطية، التي اجتاحت في القرون والعقود الماضية جنوب وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وشرق أسيا، وأجزاء كبيرة من إفريقيا. لكنها انتظرت في الشرق الأوسط حتى هذا اليوم. وبالمختصر وصل النمو التاريخي لهذه المنطقة، التي ستتحول لشرق أوسط جديد. ولا يوجد نقاش، بأن ما انتشر في منطقة الشرق الأوسط ضد الأنظمة الديكتاتورية هو شيء جديد ومختلف. والجديد لا يكمن بالمظاهرات الواسعة وبتجنيد الشارع العربي لعمل جماعي. فالتاريخ سلسلة طويلة من حركات الاحتجاج الشعبية والمظاهرات واسعة النطاق، نظم بعضها بتشجيع الأنظمة نفسها، بعضها كان موجها ضد أعداء خارجيين، والبعض الأخر مظاهرات عمال أو مظاهرات مدنية تحمل أهدافا اقتصادية حددت مسبقا. وفي حالات أخرى جرت مظاهرات مذهبية أو إثنية أو وطنية واجهت بعضها البعض أو تنافست على مراكز القوى بواسطة المظاهرات، أو كانت ذات هدف واحد وهو التأثير على سياسة الحكومة التي فضلت فئة معينة على أخرى. وجرت مظاهرات أخرى حملت طابعا أيديولوجيا ووطنيا أو كانت ذو طابع ديني، وأحيانا إرهاب. لكن ومنذ عام 1952 ،باستثناء إيران، لم تحدث أية مظاهرات شعبية عنيفة لطرد الحكام المستبدين والمستقرين (طرد الملك فاروق عام 1952 لم يتم من خلال ثورة شعبية، بل بواسطة انقلاب عسكري قام به الضباط الأحرار الذين رافقوه لليخت وأجبروه على العيش بالمنفى في روما). وعليه، كانت موجة المظاهرات التي انتشرت بالمنطقة في نهاية عام 2010 مؤشرا جوهريا للتغيير، وأصبح من غير الممكن تجاهل الرأي العام أو إسكاته بواسطة أدوات القمع. والأشخاص الحكماء أو الذين يهتمون بالمنطقة أو يعيشون فيها، لا يفترض بهم الاعتقاد أن الجمود يعني الاستقرار.
من المعرض للخطر ؟ يبدو أن المخفي أكبر من المعلن في الواقع الحالي. فكثير من القواعد التي ذكرت عن تونس ومصر تبين أنها غير صحيحة. فالقاعدة الأولى التي تبين أنها غير صحيحة هي أن التهديدات الجدية تتعرض لها فقط "الأنظمة المعتدلة" أو دول "الوضع القائم" نظرا لأن هذه الأنظمة أثارت غضب جماهيرها نتيجة سياستها المؤيدة لأمريكا وإسرائيل. ولا ندري لماذا دعم هذا المنطق، فقد سبق الربيع العربي عام 2009 حركة احتجاج واسعة جدا وقوية بهدف إسقاط النظام الإيراني الذي لا يكن أي ود لأمريكا وإسرائيل. وبعد سقوط بن علي ومبارك ساد الاعتقاد أن الأنظمة الموصوفة بالاعتدال كانت ديكتاتورية لينة، مقابل الأنظمة الوحشية الموصوفة بالممانعة. والذين آمنوا بهذا التحليل أخطأوا ولم ينتبهوا كثيرا إلى الأسباب التي دفعت الجماهير للمطالبة بإسقاط الأنظمة في تونس والقاهرة، ولم تكن الولايات المتحدة أو إسرائيل عنوانا أساسيا للمظاهرات التي أسقطت النظامين. ومع ذلك، وبعد فترة قصيرة هناك من صدق بشار الاسد عندما صرح بأن سوريا ليست مثل تونس ومصر، لأنها دولة مقاومة. لكن هذا التحليل سقط عندما اندلعت المظاهرات في سوريا وامتدت لليمن –التي يرأسها علي عبد الله صالح شريك للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب- والبحرين -المقر الرئيسي للأسطول الأمريكي الخامس. وامتدت بشكل أضعف للأردن وعمان. ومع ذلك ،حدث خلل في المنطق المذكور عندما اندلعت مظاهرات جديدة ضد النظام الإيراني، وعندما وقع تمرد واسع النطاق ضد القذافي -اعتبر شخصية غير مستقرة- المحرض على الغرب سابقا والمرتمي في أحضانهم لاحقا. لكن المنطق المذكور تحطم كليا عندما أدرك بشار الاسد -العامود الفقري للمقاومة والاب الروحي لحزب الله وحماس والشريك الاستراتيجي لإيران في العالم العربي- بأنه محتقر من شعبه بدرجة لا تقل عن مبارك وبن علي، ولنفس الأسباب.
نهاية لعبة ؟ القاعدة الثانية والتي دحضت بسرعة، تحدثت أن التاريخ لا يميل لصالح الحكام المستبدين، ومن اللحظة التي انكسر فيها حاجز الخوف وخرجت الجماهير تعبر عن غضبها، حسم أمر الحكام المستبدين. ويبدو أن هذه القاعدة هي استنتاج سريع جدا إذا قورن بما حدث بمصر وتونس. لكن لا يوجد شك، من وجهة نظر تاريخية، بأنه لا يوجد نظام حكم أبدي. فالنظام الذي يبدو أنه مستقر، ربما ينهار حتى في ظل عدم وجود مقاومة علنية وبحجم كبير من الداخل. أو العكس، ربما يتغلب على المعارضة، وبعد ذلك يتطور لاتجاهات لا يمكن تمييزها. الحالة الأولى وقعت في الاتحاد السوفييتي السابق، والحالة الثانية وقعت في الصين الشيوعية بعد عام 1989. وضمن هذا المفهوم يعيش كل الحكام في الوقت الضائع. ومع ذلك، ومن وجهة نظر تاريخية لا تساعد بالضرورة المحللين السياسيين والصحافيين العاملين في إطار زمني مختلف. وحسب الإطار الزمني الذي يعمل فيه هؤلاء، فإنه وفي اللحظة التي أزيح بن علي ومبارك حسم أمر علي عبدالله صالح والأسد وغيرهم. وعلى سبيل المثال، يبدو أن مملكة البحرين تغلبت في عام 2011 تغلبت على التحدي الذي واجهته، مثلها مثل إيران في عام 2009. ورغم ذلك سقط القذافي بمساعدة قوات الناتو وصالح لم يعد من العلاج من أجل تجديد المعركة في اليمن. لكن، نموذج بن علي في تونس ومبارك في مصر أوحى لجماهير أخرى لممارسة ضغط أكبر على حكامهم. وفي المقابل، شكلت تجربة مبارك وبن علي دافعا للحكام للحكام لمقاومة محاولات إسقاطهم. وعلى أية حال، في هذا المجال لا يمكن الحديث عن نتائج نهائية.
المحرضين على المظاهرات من الخارج ؟ ولا بد من الحديث في مسألة أخرى وهي: ما هو دور الجهات الخارجية في التأثير على نتائج الصراعات الداخلية. وعندما بدأت المظاهرات في تونس تحقق نتائج، تبين أن وزيرة خارجية فرنسا تمتعت بعلاقات وثيقة مع عائلة بن علي، حتى أن فرنسا اقترحت تقديم مساعدات لقوات الأمن التونسية من أجل التصدي بفاعلية أكبر للمظاهرات التي اندلعت في الدولة. وكشف هذه المعلومات أثار نقاشات حادة في الغرب بخصوص المستوى المطلوب من الأطراف الخارجية كي تقدم دعما لهذا الطرف أو ذاك في صراعهم الداخلي. وعندما انتشرت مظاهرات المعارضة في البحرين ومصر -وهي دول تقيم علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة- ازداد النقاش في الولايات المتحدة حول ما إذا كان انفجار الوعي الجماعي في الشرق الأوسط يعود الفضل فيه إلى سياسة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، أم أن الفضل في ذلك يعود لسياسة براك أوباما الذي اتبع سياسة التدخل. وشعر المؤيدون لبوش بالسرور السلبي من سياسة أوباما خلال "الربيع الإيراني" عام 2009. وفي إحدى المظاهرات ضد النظام الإيراني رفعت شعارات كتب عليها -أوباما أنت معنا أو ضدنا. ويدرك طرفي المعادلة في الولايات المتحدة أن الموقف الأمريكي مهم من أجل تعزيز أو إضعاف المعارضة، وكذلك رد نظام الحكم عليها. وعبر المتظاهرين في البحرين عن امتعاضهم لزملائهم الإيرانيين متسائلين "أين الأمريكان أين الأمريكان ولماذا يسمحون بذلك". ومن دون التطرق للافتراض بأهمية الرد الأمريكي، فمن المؤكد أنه وعندما قرر الرئيس الأمريكي براك أوباما ،بعد تردد متواصل، تأييد المصريين الذين طالبو بإسقاط نظام مبارك. غير أن العلاقة الوثيقة بين الجيش المصري والولايات المتحدة كانت المرجع لقرار القيادة العليا في الجيش المصري إجبار مبارك على الاستقالة. لكن الانتقادات التي وجهت للإدارة الأمريكية في ترددها في تبني المواقف التي طرحت من شخصيات أمريكية معروفة بتعاطفها الطبيعي مع التحركات الشعبية التي تحمل طابع الديمقراطية، وتصف نفسها بأنها ديمقراطية، هي التي دفعت الرئيس براك أوباما للاستجابة للطلب الفرنسي التي أرادت التكفير عن خطأها في تونس بالتدخل العسكري لصالح المتمردين على القذافي. الأمر الذي يعني أن الولايات المتحدة وغيرها فضلوا الشيطان الليبي الذي يعرفوه على الشيطان الذي لا يعرفوه. ومن الواضح أن الأوضاع التي سادت في تونس وليبيا ومصر غير متشابهة وتسودها تعقيدات. لكن الغرب لا يعرف دائما أين تكمن مصالحه. والوضع المذكور، يؤكد لماذا في حالة سوريا فضلت الدول الغربية ،على الأقل في المراحل الأولى من المظاهرات، الشيطان الذي يعرفونه على الشيطان الذي لا يعرفونه. وحتى في حالات تعاطف الدول العظمى مع المعارضة، فإنها لا تستطيع ترجمة هذا التعاطف نظرا لعدم وجود رافعة داخلية تساعدهم مثل الجيش. أو لعدم استعدادها لاستخدام قوتها العسكرية تؤد لخلق توازن داخلي. وفي نهاية الأمر، تستطيع الأنظمة المستبدة التي تشعر بالخطر إقناع نفسها أن الغرب لا يملك القدرة أو الإصرار المطلوب للعمل، حتى لو كانت مقتنعة بأنه سيفرض عليها عزلة سياسية وعقوبات اقتصادية وقضائية أو ستشن عليها الحرب لإقصائها سياسيا وربما جسديا. ولو خيرت هذه الأنظمة بين الخسارة اليوم أو فيما بعد، فإنهم سيختارون الخسارة المتأخرة. وعلاوة على ذلك، الغرب ليس وحده في المنطقة، فهناك دول أخرى تعمل لمصالحها، وهي مصالح لا تلتقي بالضرورة مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى سبيل المثال تدخلت السعودية والإمارات العربية عسكريا في البحرين من أجل قمع انتفاضة الشيعة ضد آل خليفة. وحسب المعلومات المتوفرة تدخلت الدولتان من دون تنسيق أو اتفاق مسبق مع الولايات المتحدة (وهي دول غضبت من الولايات المتحدة لسرعتها في التخلي عن نظام مبارك). وفي المقابل سمعت اتهامات متكررة بأن إيران تساعد حركة المعارضة الشيعية في أغلبها. وتحدثت تقارير غير موثقة بأن إيران تدعم عسكريا وتقنيا ولوجستيا سوريا في محاولتها قمع المتظاهرين. واهتم النظام والمعارضة بشكل خاص بتدخل الجهات الخارجية لصالح معارضي النظام، فعلي عبد الله صالح اتهم (وتراجع عن اتهامه) بان المعارضة في اليمن يسيطر عليها من غرفة حرب سرية في تل أبيب. أما نظام الاسد فقط سار خطوة أبعد وادعى أنه لا توجد معارضة، بل هناك إرهابيين متطرفين متدينين ومجرمين، يعملون كعملاء للدول العظمى. ويمكن الإستخاف بهذه الاتهامات واعتبارها دعاية لخدمة ناشريها، لكن هناك شواهد موثقة بأنه كان هناك تدخل خارجي في الثورات الكثيرة بالمنطقة. وفي حالات مثل البحرين وليبيا كان للتدخل الخارجي الدور الحاسم في تطور الأحداث. وعلى أية حال، اهتم سكان الشرق الأوسط وخارجها بمسألة "الممنوع" و"المسموح" في كل ما يتعلق بالتدخل الخارجي. وباستثناء تدخل السعودية في البحرين، لا يوجد أساس للقاعدة المتعارف عليها وهي أن للسياسات الأجنبية خاصة الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة هي العنصر الحاسم في تحديد نتائج الصراعات حول مستقبل الشرق الأوسط.
نهاية التاريخ ؟ محاولة ترسيم الشرق الأوسط في المستقبل ،بعد يوم من "الربيع العربي" تشبه محاولة استخدام جهاز توجيه من دون أقمار صناعية. وحتى لو وافقنا على الافتراض المشكك فيه، بأن مصير الحكام المستبدين حسم، ونهايتهم في الحكم باتت قريبة، لكن لا يوجد تأكيد ماذا ستكون عليه التطورات بعد يوم من سقوطهم. ومشاهد الجماهير في تونس ومصر الذين يطالبون بالحرية، أثارت الآمال بأن الشعوب التي تسقط الأنظمة الديكتاتورية تسير في مسار الديمقراطية الذي لا مفر منه. وشاركهم هذا الأمل، الليبراليون والمحافظين الجدد في الغرب الذين دافعوا عن المتظاهرين وعن الشعارات التي رفعوها. وتناسى الجميع أن ما حرك هذه الجماهير وأخرجها للشوارع ومواجهة قوات الأمن بشجاعة، لم يكن التعطش للحرية. واعترف كثير من دون قادة المظاهرات بأن الأسباب الآنية لاندلاع المظاهرات الضخمة، هي أسباب اقتصادية وضد الفساد، مثل مظاهرات الخبز في مصر عام 1977 التي لم تنجح بتحول المظاهرات لتسويات سياسية. وعلى أية حال، لا توجد المتظاهرين والثورات مؤشرات واضحة التوجه. وعليه، ورغم أن الثورات العربية (تشبه ثورات أخرى حدثت خارج المنطقة) اندلعت باسم الليبرالية والديمقراطية، إلا أن المظاهرات نفسها فكت قيود القوى غير الليبرالية وغير الديمقراطية. وعليه، اختطاف الثورة ليست بالأمر النادر، فثورة عام 1789 في فرنسا التي رفعت راية "الحرية والمساواة والاخوة" استخدمت كنموذج أساسي في كتاب كرييان برينتون "تشريح الثورة" الذي شبه الثورات بمراحل انتشار الحمى بالجسم. وأضاف أن فرنسا أصيبت بحمى الثورة مدة 150 عام، وانتقلت من فترة حكم إرهابي إلى الإمبريالية العدوانية وإلى سلسلة من الجمهوريات غير المستقرة التي قادها قوميون على مختلف أنواعهم وفوضويين يساريون رجعيون على مختلف أنواعهم وفوضويين وحكم الكليرك (رجال الدين ) والفاشيين. وتحدى أنظمة الحكم في فرنسا الشيوعيين. وفي نهاية الأمر، أقيم نظام حكم أقرب إلى الديمقراطية المستقرة. وحتى التاريخ الفرنسي الحزين سيكون أكثر تفاؤلا من حالة الثورات العربية. ويبدو أن الأهداف النهائية للتغييرات التاريخية تبدو محددة مسبقا. وأن الاستعداد لبداية نظيفة ستكون في بعض أحيان بعيدة كثيرا. وعليه، لا يوجد تأكيد بأن الربيع العربي وضع (أم لم يضع) العالم العربي في مسار الديمقراطية. كما لا يوجد إطار موثوق به يسمح بتحليل مسالة الديمقراطية في العالم العربي. ورغم السنوات الطويلة من وجود المشكلة والاستثمار الذي بذله المثقفين، فإن الثورات التي اقتلعت الحاكم المستبد، ولا تمانع بنقل السلطة لمجموعة إثنية أو دينية أو من عرقية لأخرى، يتوقع لها أن تركز كثيرا على حقوق الفرد، أساس الديمقراطية الليبرالية، وبدرجة أقل على الحقوق الجماعية، التي يسعى إليها الجميع في الديمقراطية الليبرالية. ومثل هذا النوع من التركيز يوجد في المجتمعات الخاضعة للسيطرة بشكل نسبي. وعلاوة على ذلك، هناك عناصر في المجتمع المدني التي تبدو ذات تناسق تجريبي بديهي مع تطور الديمقراطية (على اختلاف من حكم الشعب أو حكم الأغلبية المستبدة). ومن هؤلاء: أبناء الطبقة الوسطى الذين تطوروا من دون الاعتماد على الدولة، وامتناع الدولة عن تقاسم الثروات الاقتصادية بصورة غير عادلة وغير معقولة ومخجلة، والتسامح مع التعددية في الفكر والعمل، ومستويات منخفضة من التدين (أو على الأقل عدم وجود دين قوي). ويساعد مثل هذه التطورات وجود شخصيات ذات تأثير أو قوة مثل ميخائيل غورباتشوف ومصطفى كمال وليخ فاليسا وفاتسلاف هافل ودينغ سياو بنغ ونلسون مانديلا. وهي شخصيات كانت مستعدة للدفع نحو الحداثة وإلى إصلاحات، أو إحداث تغييرات من أسفل لأعلى. وبعض هذه العناصر مفقودة في كل الشوارع العربية تقريبا. كذلك فإن المجتمعات التي نجحت بطرد الحكام المستبدين تقدم توجهات تثير الشكوك بخصوص احتمال تطبيق الديمقراطية. وهي شكوك ليست مبنية على الخيال فقط. وعلى سبيل المثال، بعد طرد بن علي في تونس بدا أن احتمالات تحول الدولة للديمقراطية معقولة ووفق المعطيات الإقليمية، فهي دولة مدرجة بمستويات عليا من الحداثة والعلمانية، ونسبة الأمية فيها منخفضة جدا وانفتاحها على العالم الخارجي كبير جدا مقارنة مع الدول المجاورة لها. ويملك المجتمع التونسي جيش صغير ومهني، ولا يشك بأن له تطلعات سياسية وسلطوية، وحصل فيها نمو اقتصادي بالسنوات التي سبقت ثورة الياسمين، لكن الجمهور لم يشعر بها بسبب الفساد الذي مارسته الفئة الحاكمة المستبدة. ورغم النقاط الايجابية الكثيرة، فهناك الكثير من التونسيين الذين يشككون بنوايا راشد الغنوشي الذي صرح بان حركة النهضة الإسلامية ملتزمة بالنهج الديمقراطي، ويخشون بان يملئ الفراغ الذي تركه سقوط بن علي بالإسلاميين الذين سيقودون الدولة باتجاه يخلق الكثير من المشاكل. وبعد نجاح الثورة جرت مظاهرات جماهيرية ضخمة للتحذير من إمكانية تقليص حقوق ومكانة المرأة التي حصلت عليها خلال الحكم الفاسد في فترة حكم بن على والحبيب بورقيبة. وجاءت هذه المظاهرات تعبر عن القلق العميق للمواطنين التوانسة فيما يتعلق بالقدرة على الاستمرار نمو الدولة الديمقراطية وحداثة. واحتمالات تطور ونمو ديمقراطي مستقر في مصر أقل بكثير. وعلى عكس تونس، يعتبر الجيش المصري هو الحاكم منذ عام 1952 حتى هذا اليوم، لا يبدي أي توجه للتنازل عن هذه السلطة حتى عام 2012. ورغم إبداء الجيش رغبة حقيقية بالعودة لقواعده ويستجيب لحد ما للتوجهات العامة من خلال موافقته ،على سبيل المثال، باعتقال بعض كبار ضباط الشرطة الذين عملوا مع النظام السابق. وبشكل عام لا يعارض الجيش توسيع الحياة السياسية. ومع ذلك، يبدو أن المواقع تحتل من قبل الذين لم يتواجدوا في ميدان التحرير الذين كان لهم الدور الأساس بإسقاط نظام مبارك، وهي شخصيات تمثل قوى سياسية يشك بالتزامها بالقيم الديمقراطية. ومعنى الأمر، أن من طالب بالحرية ليسوا بالضرورة معنيين بمنحها لبقية الشعب. وإعادة الانتشار المجدد بالسياسة المصرية، يرافقه تدهورا بالوضع الاقتصادي بسبب المس بالسياحة والتحويلات الخارجية من المصرين (خاصة العاملين في ليبيا)، وهروب الاستثمارات الخارجية نظرا لانعدام عدم الإحساس بالأمن من قبل المستثمرين. ومنذ اندلاع المظاهرات ارتفع مستوى التضخم (ارتفعت أسعار المنتوجات الغذائية). وتراجع سوق الأسهم بـ 25% وهربت رؤوس الأموال للخارج (ثلث احتياطي مصر من العملة الأجنبية) التي تسببت بأضرار اقتصادية. وفي نفس الوقت تحارب الحكومة الانتقالية من أجل الاستجابة للمطالب الفئوية وغيرها بواسطة تقديم الوعود نظرا لتراجع الموارد. ونتيجة لذلك، فإن القوى التي تعد باستقرار في مصر بالقبضة الحديدية سوف تتعزز . ويبدو أن القوى العلمانية تتحطم، ومصر لم تخطو مطلقا بخطوات بعيدة المدى في مجال الحداثة والديمقراطية مثل تونس، وهي مجتمع محافظ، ومنشأ الإخوان المسلمين التي واصلت نشاطها رغم قمعها مع قوى جهادية. ومع تخفيف الضغوط عادت القوى الإسلامية للعمل بقوة كبيرة في الشارع السياسي، في حين تجد قوى سياسية أخرى صعوبة متزايدة للاستعداد لخوض نضال لتحديد مستقبل مصر. ومن جهة أخرى يحرض التيار السلفي في مصر على استخدام العنف ضد الأقباط المصريين والتي مارسها حتى في ظل النظام القديم، وفي جميع الأحوال لم يعاقبوا على أفعالهم.
السياسة وعالم النمو كل ما ذكر أعلاه لا يبشر بالانتقال الهادئ للديمقراطية الليبرالية التي دعمها أبرز متحدثي الثورة، على الأقل أمام وسائل الإعلام الأجنبية. ومع ذلك، لا يوجد هناك من ينفي الوصول للديمقراطية. وبصورة أشمل، لو قامت ديمقراطية ليبرالية ،فإن مسار سيرها، إذا تعلمنا شيئا من التاريخ ستكون طويلة وباهظة الثمن، وسيتخللها انحرافات وانقلابات كثيرة. ورغم التشابه في الصراعات الواقعة في الشرق الأوسط لإجبار الحكام المستبدين على تطبيق إصلاحات. إلا أن لكل منطقة ميزات خاصة لكل حالة وحالة، وهي متنوعة لدرجة أنه لا يوجد أساس حقيقي يمكن أن تستند إليه مختلف قراءات الربيع العربي. ومع ذلك، يمكن التعرف على آلية محلية معينة بما حدث، حيث أن ما جرى في دولة معينة سمع صداه في دول أخرى. والدليل على ذلك، تبني شعارات متشابهة من قبل المتظاهرين من الرباط حتى ميدان المنامة في البحرين. ويشير حجم انتشار المظاهرات بأن السياسة العربية الجامدة منذ عقود تلقت ضربة قوية من ثورات الياسمين في تونس واللوتس في مصر. لكن مسالة استعارة الأسماء من عالم النمو لوصف التغييرات السياسية لا تساهم بإضافة علم مهم. فللأزهار حياة متجددة، لكن للثورات لا. وعليه وأمام الشرق الأوسط الجديد والمختلف الذي بدأ يظهر أمامنا، لا توجد ضمانة بأنه سيكون أكثر حرية وازدهارا وتسامحا ومتساويا، أكثر مما كان عليه الشرق الأوسط القديم. وتنبأ مثل النتائج المذكورة يعتمد على الأمل أكثر منه على الدلائل. والأمل لا يستطيع الصمود لوقت طويل لأن الربيع لا يأت بعد الصيف.
#عليان_الهندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الأيديولوجيا الصهيونية
-
مواقف إسرائيلية من مهاجمة السفارة الإسرائيلية في القاهرة
-
مصر بين إيران وإسرائيل
-
قراءة لخطاب خالد مشعل في احتفالية المصالحة الفلسطينية
-
مسرة السلام في شرق أوسط مضطرب -الحلقة الثانية
-
مسيرة السلام في شرق أوسط مضطرب- الحلقة الأولى
-
المطالب الأمنية الإسرائيلية من الدولة الفلسطينية منزوعة السل
...
-
مؤتمر هيرتسليا الإسرائيلي ومصر
المزيد.....
-
وفاة الملحن المصري محمد رحيم عن عمر يناهز 45 عامًا
-
مراسلتنا في الأردن: تواجد أمني كثيف في محيط السفارة الإسرائي
...
-
ماذا وراء الغارات الإسرائيلية العنيفة بالضاحية الجنوبية؟
-
-تدمير دبابات واشتباكات وإيقاع قتلى وجرحى-.. حزب الله ينفذ 3
...
-
ميركل: سيتعين على أوكرانيا والغرب التحاور مع روسيا
-
السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|