أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عزالدين حسن - الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (4)















المزيد.....


الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (4)


مجدي عزالدين حسن

الحوار المتمدن-العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 10:33
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ثالثاً: عن الديمقراطية وثقافة الديمقراطية:
الديمقراطية في الأصل كلمة يونانية ترجمتها الحرفية حكم الشعب أو سلطة الشعب. وليس هناك اتفاق حول تعريف جامع مانع لها، وإن كان ثمة تعريف شائع يُعرف الديمقراطية بأنها حكم الشعب بالشعب للشعب، وعلى ذلك فالشعب هو مصدر السلطة وصاحب السيادة في نظام الحكم الديمقراطي. وقد عرفت الديمقراطية صوراً وأشكالاً عديدة، فمثلاً تنقسم الديمقراطية حسب كيفية ممارسة الشعب للسلطة إلى ديمقراطية مباشرة وديمقراطية غير مباشرة (نيابية) وديمقراطية شبه مباشرة: الأولى يمارس فيها الشعب السلطة بنفسه وبشكل مباشر دون وساطة ودون تمثيل، في مقابل الثانية التي ينتخب فيها الشعب من ينوب عنه ويمثله في ممارسة السلطة، وأخيراً الديمقراطية الغير مباشرة التي تجمع بين الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية، ومن أهم وسائلها الاستفتاء الشعبي والاقتراح الشعبي والاعتراض الشعبي وحق الناخبين في عزل النائب قبل انتهاء مدته.
من ناحية أخرى، يرتبط مفهوم ثقافة الديمقراطية برابطة قوية بجملة مفاهيم/أدوات: الحزب، مؤسسات المجتمع المدني، مؤسسات التنشئة الاجتماعية، الأسرة، المدرسة، النادي، المسجد، الدين، التربية، التعليم، التثقيف المدني، أجهزة الإعلام، الترشيح، الانتخاب، الاقتراع، الشارع، الرأي العام، المجتمع المدني، المعارضة، المسيرة، التظاهرة، الانتفاضة، الاحتجاج، العصيان المدني، الإضراب، الصراع السلمي والتنافس حول السلطة، التداول السلمي للسلطة، قوى الضغط، حقوق الإنسان، حقوق الأقليات الدينية والأثنية، المواطنة، الحريات، حرية التفكير والتعبير والمعتقد، الحوار والتواصل، قبول الآخر، الاعتراف، التسامح، النضال اللاعنفي، السلم الاجتماعي والسياسي، التحديث والعصرنة..الخ.
وثمة تمييز ما بين الديمقراطية من جهة أولى ـ كشكل تنظيمي وكصيغة للحكم وكمجموعة من القواعد والعمليات الإجرائية ـ وثقافة الديمقراطية من جهة ثانية. وثمة علاقة طردية تربط ما بين الاثنين إلى الدرجة التي يُمكن أن نقول معها أن أية تجربة ديمقراطية يتوقف مدى ما تحرزه من نجاح وتقدم أو إخفاق وفشل على مدى وعي الفاعلين الاجتماعيين بالديمقراطية فكراً وسلوكاً، فمثلاً قرار التصويت: أيكون للحزب أم للشخص أم للبرنامج الانتخابي، يتوقف ذلك على درجة الوعي الديمقراطي عند الناخب، فالذي يصوت على أساس البرنامج الانتخابي ثقافته الديمقراطية أعمق من الذي يدلي بصوته للحزب أو للشخص. وديمومة الديمقراطية نفسها كصيغة للحكم واستمرارها يتوقف على الوعي الجمعي ـ بضرورتها وأهميتهاـ الذي يشكل خط الدفاع الأول المقاوم لأي تحرك مضاد يستهدف تقويض التجربة الديمقراطية والعودة بالمجتمع إلى مربع الاستبداد.•
هناك علاقة عكسية تربط ما بين ثقافة الديمقراطية من جهة والاستبداد بكافة أشكاله من جهة ثانية، فكلما تغلغلت الديمقراطية وعياً وسلوكاً وتجذرت في الوعي الجمعي وترسخت في النسيج النفسي الفردي والاجتماعي كلما تقلصت مساحة الاستبداد. وكلما زاد الوعي الديمقراطي في بنية مجتمعية ما كلما قلّت فيها مساحة التشدد والتطرف بأنواعه المختلفة.
وعلى ذلك فبالإمكان معرفة إلى أي مدى يمكن وصف الثقافة السياسية في مجتمع ما أو في بلد ما بأنها ثقافة ديمقراطية، وذلك بالنظر إلى ما هو سائد فعلاً من قيم سياسية ومن اعتقادات ومواقف وتصورات فيما يتعلق بالحياة السياسية، وبظاهرة السلطة وبالنظام السياسي وبالصيغة التنظيمية للعلاقة التي تجمع بين الحاكم والمحكومين وبالكيفية التي (يفسر) بها المحكومين الدور المنوط بالحاكم القيام به..الخ. فهذه كلها معايير يمكن على ضوئها وصف نمط الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما ومعرفة ما إذا كانت هذه الثقافة مشبعة بالروح الديمقراطي أم أنها تحتضن جرثومة الاستبداد والتسلط؟ وترتبط ثقافة الديمقراطية في تشكلها بذاكرة المجتمع وبتاريخه وتقاليده ومعتقداته وقيمه ومفاهيمه والكيفية التي يُفكر بها. كما تُسهم مؤسسات التنشئة الاجتماعيةـ الأسرة، القبيلة، المدرسة، المسجد، النادي، وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة..الخ ـ إن سلباً أو إيجاباً في الثقافة السياسية، لتنتج لنا في النهاية ثقافة سياسية ذات مضمون ديمقراطي أو ثقافة تسلطية استبدادية، وبالتالي تُسهم إما في دفع التطور الديمقراطي إلى الأمام أو إلى الخلف.
1/ الديمقراطية وفقه التكفير:
في ثقافتنا السياسية تتردد كثيراً من المقولات التي ترى في الديمقراطية خطراً على الدين الإسلامي. وهناك تيارات معاصرة لها وزنها ترى أن الديمقراطية بمعناها الحديث: وهو حكم الشعب للشعب بالشعب، تتناقض مع جوهر الإسلام، ويرون من وجهة نظرهم بأن " الديمقراطية والمجالس النيابية هي من دين الكفار وأهوائهم، والرضا بها دخول في دينهم وإتباع لملتهم وخروج من ملة الإسلام" بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك بإصدارهم لحكم قاطع جازم تلخصه لنا أحد بيانات تنظيم قاعدة الجهاد•بالكلمات التالية: " إننا نقول جازمين غير مترددين ولا شاكين في أن الديمقراطية حكمها في دين الله تعالى هو الكفر البواح الذي لا يخفى إلا على كل أعمى البصر والبصيرة. وأن من اعتقدها أو دعى إليها أو أقرها ورضيها أو حسنّها فهو كافر مرتد عن دينه وإن تسمى بأسماء المسلمين" ويعنّون حزب التحرير الإسلامي إحدى منشوراته بالعنوان التالي (الديمقراطية نظام كفر يُحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها) ويعبر عن وجهة نظره في افتتاحية المنشور السابق بالقول: " الديمقراطية التي سوّقها الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد. وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضاً كلياً في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها. لذلك فإنه يُحرم على المسلمين أخذها، أو تطبيقها، أو الدعوة لها تحريماً جازماً"
وبشكل عام يمكن إجمال وجهة نظر التيارات الإسلامية المناهضة للديمقراطية وما يأخذونه عليها عبر النقاط التالية:
أ/ الديمقراطية تعني رد أي نزاع أو خلاف بين الحاكم والمحكوم إلى الشعب وليس إلى الله والرسول. وهذا مغاير مناقض لقوله تعالى: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) بينما الديمقراطية تقول: فحكمه إلى الشعب. وقال تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) النساء (59)، فجعل الله عز وجل من لوازم الإيمان رد النزاع ـ أي نزاع ـ إلى الله والرسول، أي الكتاب والسنة. وبذلك فهم يرفضون مبدأ (حكم الشعب) بدعوى أن الحكم لله.
ب/ الديمقراطية نظام مخالف للإسلام، حيث يجعل سلطة التشريع للشعب، أو من ينوب عنهم (كأعضاء البرلمان)، وعليه: فيكون الحكم فيه لغير الله تعالى، بل للشعب، ونوابه، والعبرة ليست بإجماعهم، بل بالأكثرية، ويصبح اتفاق الأغلبية قوانين ملزمة للأمة، ولو كانت مخالفة للفطرة والدين. وهذا مغاير ومناقض لأصول الدين والتوحيد وهذا عندهم مغاير لمبدأ: أن التشريع أو الحاكمية لله تعالى.
ج/ الديمقراطية ـ وفقاً لمنظورهم ـ قد تعطل النص الشرعي بالرأي الشخصي، فالأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله. ويرد مفكر إسلامي معاصر على هذه المخاوف بالقول: " وما تخوفه البعض هنا أن الديمقراطية تجعل الشعب مصدراً للسلطات، حتى التشريعية منها، لا ينبغي أن يُخاف هنا لأن المفترض أننا نتحدث عن شعب مسلم في أغلبيته، فقد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فلا يتصور منه أن يصدر تشريعاً يخالف قطعيات الإسلام، وأصوله المحكمات" ويواصل القرضاوي تفنيده لمخاوف بعض الإسلاميين من الديمقراطية بالقول: " الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام لكبح جماح الحكام، وهي: الشورى، والنصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورفض الطاعة عند الأمر بمعصية، ومقاومة الكفر البواح، وتغيير المنكر بالقوة عند الاستطاعة، فهنا تبرز قوة السلطة السياسية القادرة على سحب الثقة من أية حكومة تخالف الدستور، وكذلك قوة الصحافة، والمنبر الحر، وقوى المعارضة، وصوت الجماهير"
2/ ثقافة الديمقراطية وطرائق التفكير الفقهي:
التساؤل الأساسي الذي نصدر منه في مقاربتنا لهذا العنوان، إنما يتمثل في التالي: هل تستبطن وتحتضن طرائق النظر والتفكير الفقهي بذرة ثقافة الديمقراطية داخل بنيتها الفكرية أم لا؟ وبالتالي هو تساؤل عن جملة المبادئ الأولية والمسلمات الابتدائية التي يشيّد على أساسها العقل الفقهي كل أنسقته ومضامينه، وعما إذا كانت هذه المبادئ تؤسس وتجذر لثقافة الديمقراطية.
إذا نظرنا إلى الكيفية التي من خلالها يتعاطى العقل الفقهي مع موضوعه، لوجدناه يتعامل مع المنتوج المعرفي انطلاقاً من معايير التمييز ما بين الحلال والحرام أو ما بين الإيمان والكفر. ونجد أن أنصار كل مذهب من المذاهب الإسلامية المتعددة كانوا يرون أن مذهبهم هو الحق وما عداه الباطل بل وصل بهم الحال لأبعد من ذلك، فالمطالع لكتب التاريخ الإسلامي يجد " كل فرقة تكفر مخالفها وتنسبه إلى تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، فالحنبلي يكفر الأشعري زاعماً أنه كذب الرسول في إثبات الفوق لله تعالى وفي الاستواء على العرش، والأشعري يكفره زاعماً أنه مشبه وكذّب الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعري يكفر المعتزلي زاعماً أنه كذّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له، والمعتزلي يكفر الأشعري زاعماً أن إثبات الصفات تكفير للقدماء وتكذيب للرسول في التوحيد ....فينكشف لك غلوّ هذه الفرق وإسرافها في تكفير بعضها بعضا"
وهو الشيء الذي يعني أن منهجية التناول التي تحكم طرائق التفكير والنظر الفقهي تقوم على نقض وتجريم الأطروحات أو المذاهب أو النظريات المغايرة والمختلفة مع ما تدعيه وما تتبناه من آراء وأفكار. وهي بدون شك ممارسة تتبنى موقفاً معرفياً يقدم لنا نصه على أنه في غاية الإحكام والوثوق والوضوح. وبالتالي فهو نص يمارس نبوته ورسوليته على بقية النصوص، ويختزل ما يقوم بتحليله من خطابات مغايرة له، اختزلاًً يصل إلى حد الإلغاء. على ذلك فهي طريقة في التفكير تدعىّ أنها تنتج قولاً محكماً متطابقاً مع مقصدية النص الديني الإسلامي في شقيه القرآني والنبوي، فيما هو قول يمارس فيما ينطق به من حقائق شيئاً من الإسقاط والاستبعاد والتزييف والطمس والنسخ.
وبالرغم من اختلاف المذاهب الفقهية وتباينها وتعددها، إلا أن طرائق تفكيرهاـ التي على أساسها تتشيد أنظمتها الفقهيةـ قائمة على نهج واحد في طلب الحقيقة، حيث تتعامل مع الأقوال المعرفية من خلال ثنائية الأيمان والكفر. وهذا المنطق الثنائي في التفكير يخبرنا أن ليس ثمة في الأفق سوى طريق واحد بمقدورنا إن سلكناه أن نصل إلى الحقيقة المتمثلة فيما أراد الله قوله من خلال النص القرآني. وهي مناهج تتبع طريقة في التعبير عن الحقيقة أحادية الاتجاه وأحادية المعنى، وهذه الأحادية أوضح ما تكون في مفاهيمها وتصوراتها وتفسيراتها وتأويلاتها، التي تدعي أن خطابها هو وحده الخطاب الصحيح، وأن طريقها هو وحده الصراط المستقيم، فالطريق إلى الحق واحدُ وليس متعدداً ما دام إنتاج الحقيقة يتم بطريقة واحدة. وهو بذلك منهج يتبنى موقفاً معرفياً يرى في خطابه كل الإيمان، ويرمي بالكفر كل من هو خارج دائرته، وهو بممارسته لهذا الإقصاء إنما يصدر عن نزعة اصطفائية وعن نزعة مركزية، تنزه نفسها عن السلب والنقص والخطأ وترد ذلك كله إلى نصوص الغير. وهاهو ابن رشد يقول في ذات السياق: " فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى، كل الاضطراب، في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة. كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى، وأن من خالفه إما مبتدع وإما كافر مستباح الدم والمال. وهذا كله عدول عن مقصد الشارع. وسببه ما عرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة... وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزّلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قُصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر أو مبتدع"
وعلى ذلك فإن المنطق الذي يحكم طرائق النظر ومنهجيات التناول عند العقلية الإسلامية قائم على منطق الهوية الدائري المنغلق على ذاته الذي لا ينفتح على الاختلاف والمغايرة والضدية، وبذا تتمركز الحقيقة والإيمان في نظره داخل دائرته المغلقة، أما الآخرون الواقعون خارج الدائرة فإنهم يدمغون بالباطل والكفر. إنه يستبعد من المحيط المعرفي كل ما لا يتفق مع ما يعتقد به أو يعرفه عن المعرفة فهو يتحدث بلغة جازمة قاطعة، قائلا لك: هذا ما أجازه النص وهذا ما لم يجزه. وهو إذ يفعل ذلك فانه لا يرى في مقولاته مجرد وجهة نظر قد تكون صائبة أو خاطئة من بين وجهات نظر أخرى في المعرفة، إنه يقول لك باختصار: هذا هو رأي النص في هذه المسألة وما عداه مرفوض يستحق الإدانة والتجريم. وبالتالي هو منطق في التفكير يرى قوله مطابقاً للقول الإلهي الذي يشرحه ويفسره من خلال مقولاته وأفكاره، ولذلك فهو عندما ينتقد الآخر فإنه يقصيه من دائرة الإيمان، لا لسبب سوى أنه لم يكن متطابقاً مع مقولاته وأفكاره، وينفيه لأنه اجتهد وفكر، ولم يكن تابعاً مقلدا لمذهبه.
وخير نموذج تطبيقي لما سبق ذكره يتمثل في رسالة المؤتمر الخامس للإخوان المسلمين: " على كل مسلم أن يعتقد أن هذا المنهج (أي منهج الإخوان المسلمين) كله من الإسلام، وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة." على هذا كله، يقوم، بشكل ضمني أو صريح، ادعاء الباحث الإسلامي بأن حديثه في المعرفة الإسلامية يمثل وجهة نظر الإسلام الحقيقي الأصولي، أي يعبر عن النهج الإسلامي الصحيح الذي ينبغي على المسلم الحق إتباعه في طلب العلم والمعرفة. وبناء عليه، فإنه يجيز لنفسه أن يقرر ويفصل على نحو حاسم بين ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي، بين ما يوافق عليه الإسلام وما لا يوافق عليه، معتبراً أن كل من يخالف ذلك، أي وجهة نظره وقراءته في النصوص والأحداث، لا يصدر عن وجهة نظر إسلامية، أو لا ينتمي إلى الإسلام بالمرة، ومن ثم يستحق الإدانة والرفض بل التجريم. وفي ذات السياق، يقول باحث إسلامي: " إن الجماعة بهذه المبادئ التي وضعتها تصادر الدين لمصلحتها، فيكون من لا يواليها خارجاً على الإسلام ذاته، كما أن القول بالولاء الوحيد للجماعة يعني فيما يعني الحرص على الاستقلال والذاتية وألا يحترم الإخوان إلا أهداف جماعتهم كتنظيم، وبالتالي تسعى الجماعة للسيطرة على الإسلام لا للاتصاف به فقط، كما أنها تشير إلى أن هناك تنظيماً سياسياً يسعى لاحتواء الإسلام كدين".
وهاهو سيد قطب في كتابه:(معالم في الطريق) يقول: " نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية: تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم " ، ويقول في موضع آخر، واصفاً وضعية المجتمع الإنساني المعاصر: " ليست هناك حاكمية مطلقة لله، وبالتالي فليست هناك إلوهية مطلقة ومن هنا فالمجتمع كله جاهلي، وفي إطار الجاهلية تدخل المجتمعات الشيوعية، والمجتمعات الوثنية، والمجتمعات اليهودية والنصرانية والمجتمعات الإسلامية في خاتمة المطاف!" . وفي موضع ثالث يتحدث عن وظيفة الإسلام فيقول: " ليست وظيفة الإسلام – إذن – أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة في الأرض، والأوضاع الجاهلية القائمة في كل مكان، لم تكن هذه وظيفته يوم جاء، ولن تكون وظيفته اليوم ولا في المستقبل، فالجاهلية هي الانحراف عن العبودية لله وحده، وعن المنهج الإلهي في الحياة، واستنباط النظم، والقوانين والشرائع، والعادات، والتقاليد، والقيم، والموازين من مصدر آخر غير المصدر الإلهي. الإسلام هو الإسلام ووظيفته هي نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام. الجاهلية: هي عبودية الناس للناس بتشريع بعض الناس للناس ما لم يأذن به الله كائنة ما كانت الصورة التي يتم بها هذا التشريع. والإسلام هو عبودية الله وحده، بتلقيهم منه وحده تصوراتهم، وعقائدهم، وشرائعهم، وقوانينهم، وقيمهم، وموازينهم والتحرر من عبادة العبيد". وأخيرا يصدر حكمه القاسي على المجتمعات الإسلامية المعاصرة فيقول: " إن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره". الداعية الإسلامي "سيد قطب" في قراءته: نرى أنه بمنهجه هذا، يستبعد من المحيط الإسلامي كل ما لا يتفق مع ما يعتقد فيه أو يعرفه عن (المعرفة الإسلامية). وهو إذ يفعل ذلك، فإنه يسكت أولاً عن جزئية نظرته التي لا يمكن أن تتساوى بالإسلام، فكيف أن تستغرقه، لأنها لا تعدو كونها مجرد وجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى في المعرفة الإسلامية وفي المعرفة عامة. وهو أيضاً يسكت عن اختلاف قراءته وعن خلافيتها (أي كونها موضع خلاف)، أي كونها مجرد قراءة للإسلام وفيه، يمارس عبرها (سيد قطب) فهمه للإسلام. إنه " المنطق الذي يحكم العقل العقائدي والأيديولوجي عامة، أكان كلامياً أم لاهوتياً، دينياً أم علمانياً إنه منطق الاستبعاد: استبعاد كل رأي مخالف وكل موقف معارض، ينبني على استبعاد آخر هو الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة متعالية كلية، يشف عنها الخطاب ويمكن أن تعرف على نحو كلى يقيني ونهائي، أي استبعاد أن تكون الحقيقة، وبخاصة الحقيقة الدينية العقائدية، مشروطة، متغيرة، مصنوعة، أي مختلفة باختلاف اللغات والنصوص، وباختلاف التجارب والممارسات".
وواضح جداً مما سبق ذكره، أن تبني مثل هذه المناهج والطرائق في التفكير، محصلته الأخيرة هي التجذير لثقافة الاستبداد والحرب والترسيخ لمفاهيم التكفير وسيادة لغة العنف واتخاذها وسيلة لفرض تصوراتنا عن الحقيقة، بديلاً لثقافة الديمقراطية والسلام وقبول الآخر وقيم التسامح. وواضح جداً أن النتائج النظرية والعملية المترتبة علي المقدمات والمسلمات النظرية التي شيدها العقل الفقهي الإسلامي وأقام على أساسها كل مضامينه المعرفية لا تؤسس نظرياً لكل ما من شأنه أن يعلي من ثقافة الديمقراطية. وعلى المستوى الأخلاقي، فإن نموذج التفكير السابق في استبعاده للآخر " ليس مجرد موقف نظري، وإنما هو موقف له وظيفته السلطوية، وهي الحفاظ على وحدانية المرجعية باحتكار المشروعية. فالنموذج العقائدي لا يقر للغير بأي مصداقية أو مشروعية، لأن من شأن هذا الإقرار زعزعة سلطته العقائدية، أي التشكيك بيقينية معتقده الأمر الذي يفقده مبرر دعواه ودفاعه. ولهذا فهو لا يقبل بطبيعته التعدد والاختلاف. والحال فإنه إذا كان لكل أن يمتلك حق الاختلاف، في المعتقد، وممارسة اختلافه بوصفه مبرراً ومشروعاً، فإن مآل ذلك تعدد المشروعيات والمرجعيات، ومن ثم القضاء على وحدانية الحقيقة اليقينية التي يدعى امتلاكها وحراستها أرباب العقائد وأمناؤها المدافعون عنها".
ليس في مقدور مثل هذه المناهج إضافة الجديد المعرفي والفكري، وليس في وسع مثل هذه الطرائق في التفكير أن تسهم في تجديد أفكارنا ولا تطويرها، وليس بإمكانها أن تعمل على ترسيخ ثقافة الديمقراطية داخل البلدان العربية الإسلامية، بل على العكس وعلى النقيض من ذلك فهي وحسب تركيب بنيتها ترى الاختلاف والمغايرة بوصفهما ابتداعاً وانحرافاً ينبغي فضحهما وإدانتهما، وبالتالي فهي تنظر إلي الاختلاف بوصفه ضلالاً أو انحرافاً، لا بوصفه مذهباً آخر أو اجتهاداً آخر أو وجهة نظر أخرى. وهي بذلك تقدم نموذج قراءة ترفض المعرفي الآخر بحجة مخالفته لمعتقدها وبالتالي لجوهر النص, بينما في الحقيقة لا يتعارض إلا مع مفهومها الخاص للنص ومع قراءتها له. وبالتالي تنكر على الغير حقه في الاختلاف معه. وعلى ذلك فإن طرائق النظر هذه تقدم لنا قراءة تضفي صفة الصحة المطلقة على خطابها وفي الوقت ذاته تنفيها عن سائر القراءات المغايرة، قراءة ترى في ذاتها الإيمان الكامل وترى فيمن خالفها الكفر البواح. وهي في طبيعتها ترى أنها تقدم براهين قاطعة على المسائل التي تعالجها وأنها لا تقدم مجرد حلولٍ وإنما حلولاً ناجزة ونهائية وأخيرة للمشكلات التي تنظر فيها. وفي المقابل فإنها تنظر إلى نتائج مقدماتها على أنها تمتلك اليقين والثبوتية وبالتالي فهي وحدها القراءة الجديرة بأن تبحث وتقرر وتبرهن وتقطع. وهذا يؤدي بدوره إلى إلغاء الآخر المختلف معرفياً معها وإقصائه ونبذه ونفيه وتجريمه، وهو الأمر الذي يتنافى ويتناقض مع ثقافة الديمقراطية ولا يشجع على حرية الفكر، ولا يدعم قيم الحوار المتمدن ولا يعمل على تعزيز السلوك الديمقراطي. هذا يعني أن النموذج التفكيري السابق لا يمكن أن يرسخ وليس في مقدوره أن يجذّر لثقافة الديمقراطية– نظرياً وعملياً– لأنه على الضد من ذلك، فهو يؤول إلى وحدانية السلطة وإلى ممارسة الاستبداد والطغيان، بمعنى أنه ليس في مقدوره أن يمارس سلطة مفتوحة قابلة للنقاش، وهو بذلك لا يحترم ولا يفسح المجال لمعتقدات الآخرين ولا لأفكارهم ولا يعترف بحق الآخر في الاختلاف معه، فهو عقل قائم ومبنىُ على مسلمات دوغمائية وعلى بداهات أحادية مغلقة لا تتيح حرية التفكير والاعتقاد ولا تعترف بحق الآخر في أن يكون ما يراه، وهو بالتالي نموذج لا يفرخ إلا مواطناً مسلوب الإرادة لا يملك ذاته، وهو بذلك يفرض وصايته على الآخر الذي ينظر إليه باعتباره قاصراً.



#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا ...
- الفلسفة وسؤال النهضة والحرية والتنوير الغائب في العالم العرب ...


المزيد.....




- ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه ...
- هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
- مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي ...
- مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
- متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
- الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
- -القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من ...
- كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
- شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
- -أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - مجدي عزالدين حسن - الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (4)