|
كنت مع الشيخ غازي
سمير عبد الرحيم أغا
الحوار المتمدن-العدد: 3586 - 2011 / 12 / 24 - 21:21
المحور:
الادب والفن
يتوقف لحظات ، يتطلع في وجوه أخوته ، يسأل نفسه وهو لا ئذ بالرؤيا ، هل سيخلف أبيه على المنبر ؟ دارت هذه الأفكار في رأسه وسط هدوء عميق يحيط به .. ينبعث من داخله، من نقطة قصية، كأن ضجة السوق لم تكن إلا مقدمة لهذا الصمت، الطريق أمامه طويل.. في صباه شهد موكبا فخما يشق قريتنا يتوسطه رجل بالغ الروعة ، ، تتباطأ أنفاسه ، ترى .. ماذا يفعل أبنه غازي في هذه اللحظة ؟ أخيرا جاءني صوت رفيع يعلو داخلي ويقوى ، كانطلاق الاستغاثة في ريف ساكن ، فأنقذني من خوفي ، مسح الأب دموعه قائلا : حان دورك يا غازي لتقود الناس وأن تؤمهم في الصلاة .. هل أتى هذا اليوم ... إمام المسجد، يبتسم ابتسامة خفيفة، لم يصدق غازي، فقد قال ذلك دون أن يتغير الانفعال الذي لا يبرح وجهه. في كل مرة يأتي يظن.. أنه قد أستحوذ على الصبي الشيخ.... وهو لم يكمل الثامنة عشرة ، وهي سن قد لا تؤهل المرء لهذه المهمة ، رأى من لهجة أبيه شيا واضحا .. يكتشف لتوه نقرات الليل وهو يكف عن التنفس، كان شابا عاديا جدا لا تحس به جريئا لا خائفا ولا واسع الحيلة أو قليل الدهاء. : حقا ، قلت لنفسي أن القرية كلها تردد ذكره رغم أنه لا يكاد يزعم أحد أنه رآه ، وما أجمل صوته حين كان يصلنا من بعيد ، ونعرف أن هذا صوت غازي ، حالا سيخرج إلى الناس ، أحساس يلتقطه بقبضة يده ، ولكن كيف تسمعني القرية؟ ما قيمة أي شيء... ما قيمة أن أقول للناس: ما هو الدين ؟ وهناك من لا يعرفني: وأنا أعرف كل ركن من أركان قريتي، كيف تتحرك القرية بحركته؟ كيف تتوقف لوقوفه ؟ ..أسئلة تبقى في انتظار أو تبقى بدون جواب، أسمع الرجال يتحدثون عنك.. كما درجت العائلة منذ تاريخها البعيد حيث تجدهم في الجامع إذا أذن المؤذن للصلاة ولا تجد واحدا منهم فاطرا في رمضان، أحس غازي بأبيه، إذ جاء وأخذه تحت إبطه واحتضنه وقبله، حاول أن يتشبث بظله.. وهو يحمل إرث العائلة العريق، ما كان يسمع ولا يصدق, أتقوم عمارة بدون أساس، حقيقة مدركة من قديم، وأن غاب عن الغارقين في التفاصيل، كلمات جرت على لسانه، لا شك أنك خير شخص لخلافة أبيه، القرية سعيدة... الأهل، الأقارب، رفاق الصبا، لا يدري كيف قضى تلك الليلة ؟ بعد أن راجع كل ما قرأه في كتاب الله.. رأى غازي تلك الانحناءة الخفيفة بجانب العين ،، فرح بها قبل أن تناديه ، لا تنهر من أتاك مستجيرا ، أخرج من صمتك ، وأقض بما أنت قاض ،لم يكن هناك فاصل طويل ، أولئك أهم من الحياة ، ، هل يتوجه إلى المسجد ؟ مع إن المسجد كان غير بعيد ، شعر في قراراته ، أنه يعرفه جيدا ، تطلع غازي في النهاية حوله مستجمعا نفسه ، وكل ما في مخيلته من عبارات .... ألحقها بفكره يوما بعد يوم وكل الذين تحركوا بأمره وكل الذين مد لهم يد العون، مع أن الجامع يعرفه جيدا يتذكر كيف كان يجري إلى الجامع.... يفتش صفوف المصلين الراكعين أو الواقفين أو حتى الساجدين الذين قد اختفت كل معالمهم ولم تبق لأيهم سوى ساق واحدة واقفة تسند الجسد، كان يدرك أن أيا منها قدم أبيه، الشمس في ذلك اليوم استقرت وراء الغيوم، ضوءها جميل.. يمتص الكثير من الحرارة.. قطع الطريق إليه، ثقته بنفسه وبماضي العائلة أسدت له الكثير من القوة: تماما هناك يا بني .. مكانك يتكلم بلا صوت، لم يفكر بأقدامه حين تمضي به إلى الجامع، تبدأ دائما من هذه اللحظة التي تفيق فيها على دهشة وأمل، أن عمرك قد مر بك دون أن تشعر به .. لم يلبث أن دخل الجامع ... أنظر الناس هنا لا تعرفني فقد كنت ألبس غير ما تعودت إن يروني به.. كيف نهزم الخوف والتردد ؟ ونكسب الناس ، كيف تصبح إمامهم ؟ أنه مشغول بجمع أوصاله، كمن يسير في ريح عاتية، كتم أنفاسه فلم يسمع أحدا، والعصر يعلن رأيه فيهم: يا بني أفعل شيئا، اعرف أن أبي يرى كل شيء..وهي بداية البحث عن الطريق ، امتلأ أحساسا بأنه مسئول وأنه يستطيع أن يفعل شيئا .. وأن فاعليته يمكن أن تمتد إلى عائلته والى جيرانه والى بلده ، وانه يستطيع أن يترك أثرا .. وإن يجعل لحياته معنى ولموته معنى.. هو يعرف تماما لماذا أبطل التفكير في أبيه . لملم أطراف قفطانه وجبيته، لا شك أن أغلب الناس في القرية لا يعرفونه أو يعرفونه ولكن ليس في الجامع، من يعرف هذا الذي يدور من حولهم في ساحة الجامع الخضراء ؟ كأنه زائر جديد جاء إلى الجامع في جنح الظلام ينصت للصمت يذكر ما يذكر.. الكلمات تتدفق ... ماذا أقول ؟ أن أجمل ما في الدنيا هو الصدق و الكلمات الصادقة.. التي تتفجر بالشعور ، بحكم الوصول لا بد من المرونة والتكيف حتى لا نصطدم ونشتبك ، لا بد من المجاملة والمداهنة وكسب الناس ، يرفع رأسه : ذلك المنبر الجاثم في قلب الجامع بجوار المحراب بنقوشه المتداخلة اللامعة , تزداد بريقا كلما فاض الضوء ، من الجهات الأربع للجامع ونوافذه الواسعة , كيف أضحى هذا الجامع وأمسى : سوف أريكم هذا الابن ما يفعل ، هكذا قال الأب خضير .. شيخ الجامع الحالي ، رأى عيونهم في عيونه , الجامع يفيض بالقادمين .. وقد امتلأ بالعمائم كحقل من طيور الحمام الأبيض ، كانت الساعة تدق الواحدة و الهمس عميق ، مفروش أمامي كلوحة غير محددة ارسم فوقها ثم أمحو، وكنت أبحث عن حقيقية الموقف ، هل يراني أهلا للمنبر الكل قال : من هذا ؟ ترجلت عن رسوم الحاضرين ، استنفار الأسئلة : من هذا الإمام القادم ، لم يتبين كثير من حقيقته ، استعصت الإجابة وإذ خانته الذاكرة وأخطأت .. أخذتني حمى الكلام ، سرى تيار حار في جسمي ، لا أدري لماذا رأيت أبي يبتسم لصورتي هذه وأن صوتي يصل إليه بالذات ، وانه قرير العين: أمله في الحياة تحقق , التهبت الحواس الست وانفعل الصوت أولا ، أحس الناس بما أحس .. الكل يراه .. ينادي الشيخ غازي أهل لذلك ، تأملهم واحدا بعد الآخر، هبطت يده على صدره وشد قامته ليراه من يراه ويعرفه ، الأنوار كلها متجهة إلى الشيخ غازي شعرت بأنني أملك كل القرية واملك قلوب هؤلاء الناس جميعا ، عرفوا حقيقتي ، تشنجات البكاء تشدني إليهم وتشعرني بأنني من أسرة كبيرة أفرادها هؤلاء الذين حضروا ، صرت كمن يرى بعيون كثيرة من خلال هذه الدموع ، كلماتي تتدفق عليهم تلمع بكلمات طيبة ، يتآلف ويتألق وجه الشيخ غازي يقول من يقول في ذات اللحظة أحسنت ... يا شيخ يجلس معهم على أريكة خشب، يأكل معهم، بفرح وصمت، يستمد القوة من أبيه في كل يوم يقول: غازي خليفتي من بعدي، ينظرون إلي وكأنني قد أصبحت في سن أبي، اسم من هذا ومن ذاك، أنتظر خطواتي.. أعطيك السر لتمضي إلى الإمام، أننا نشاهد في السماء وفي المسجد والقرية منظرا جديدا وقادما جديدا تأخر وصوله هو الشعاع الذي انطلق منا... ، همس أخي في أذني وكان مارا بالطريق، يستحق أن يكون شيخ المسجد. عرفت من أين أتتني هذه المكانة . لا يجوز أن أسير حاسر الرأس.. أنت ملك الكل ، تنادي في طرقات القرية : على من مات ومن ترك صلاته ومن تاه من أهله ومن هرب بعد جريمة ، أي جريمة ، عرضوا عليه بناتهم وفتياتهم والأمر شرف له ومظهر من مظاهر الرحمة والاطمئنان في عين أبيه ، هاهو ينزل إلى الحياة كما ينزل في رحلة خلوية ،يزداد تعجب الناس من قوله ،كل هذا ذاب من حريته وإحساساته، بحب أهل القرية وإيمانه بأنه احتل قلوبهم ، وأشهر حبه العظيم ، وانه قد أصبح له شان ،أصبحوا ينظرون إلي وكأنني قد أصبحت في سن أبي ، وأنني نهر ( التحويلة ) الذي يمر بالقرية ويروي بساتينها وحقولها ، وأنني الضوء الذي يطل على نوافذهم وجعلني ملكا مشاعا .. بعد أن مات أبي وطواه الموت مع من طوي،
#سمير_عبد_الرحيم_أغا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعلم يشوع
-
نهر يعد الى السماء
-
يوميات مدينة في منتهى الأحتلال
-
الثورة التعليمية في الانترنيت مدارس مفتوحة وجامعات بلا ابواب
-
عتبات النص الروائي
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|