الصّادق بلعيد - محمد المثلوثي
الحوار المتمدن-العدد: 3585 - 2011 / 12 / 23 - 21:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
و الآن ما العمل؟
الصّادق بلعيد
( La Presse de Tunisie 15/12/11 )
مقدّمة
في هذه المقال التحليلي يؤكّد الصّادق بلعيد العميد السابق لكلّية الحقوق بتونس على أربع حقائق أساسّية
1) النّهضة تحكم الأن البلاد حكماً مطلقاً ولكنّها لا تمتلك أيّ برنامج حكم.
2) النّخب التّونسيّة القادرة على امتلاك برنامج سديد تمّ إقصاؤها بالكامل عن الحكم.
3) الدّين لم يقدّم في أي بلد نام ٍ برنامجا ً صالحا ً للحكم بل بالعكس جميع السّياسات الاقتصادية و الاجتماعية الّتي نجحت في هذه البلدان لم يكن لها أيّ علاقة بالدّين.
4) النّخب التونسيّة القادرة على إنقاذ البلاد من أزمتها الطّاحنة يجب عليها أن تتّحد في جبهة إنقاذ ديموقراطيّة تحمل برنامجا ً واقعيا ً قادراً على إخراج البلاد من أزمتها.
محمد المثلوثي
مترجم المقال
المقال
و الآن ما العمل؟
هذا البلد اليوم في مفترق الطّرق.
1) بعد تشكيل حكومة في الأيّام المقبلة, بدون مفاجأة و بدون نقاش في المجلس التّأسيسي, فإن النّهضة مع كوكبيها التّابعين اليوم قد تكوّن " المرّبع " الّذي ستنزوي فيه لمدّة غير معّينة, مزوّدة بكلّ الذّخيرة الّلازمة لممارسة السّلطة الشّاملة. لديها, بالفعل, جميع السّلطات عمليّا ً بدون قسمة أو مراقبة؛ لقد تحصّلت على أن لا تكون محدّدة بأجل مربك؛ لقد تفادت كلّ نقاش غير نافع, في نظرها, حول السّياسة العامّة القادمة و حول برامج عملها في الأشهر- أو السّنوات – الآتية؛و أخيرا ً لقد ضمّنت لنفسها أنّه عندما تقرّر أن تنهي هذا الوضع الإنتقاليّ فلن يكون هناك مفاجآت سيّئة فيما يخصّ إقرار الدّستور القادم, بتصويت الثّلثين عليه, أو بالإجراء الكريه, في نظرها, المتمثّل في استشارة الشّعب.
" مفتاح الأمن " لكامل العمليّة هو إطالة مدّة كتابة الدّستور حتّى تتمكّن النّهضة من وضع أجندتها الحقيقيّة ألا وهي: بناء النّظام النّهضويّ على أًَََََََسس ٍقويّة ٍلا رجعة فيها- وربّما الخلافة-الّتي تعتبرها النّظام الذي يكون في نفس الوقت النّظام المثالي لتونس و ربّما أيضا ً لكافّة العالم العربيّ الإسلاميّ: أرى لهذه الّرّؤيا النّهضويّة نوعا من الإلهام " الفاطميّ ".
2) كلّ الملاحظين المطّلعين في هذا البلد و معهم أيضا ًقسم وافر من المجتمع المدنيّ يعلمون علم اليقين النّوايا الحقيقيّة للنّهضة. ولكن خلافا للنّهضة الّتي عندها أفكار و شعارات ساذجة, ولكنّها تجترّها دون توقّّّف (على الأقلّ خمس مرّات في اليوم) و مع نشاط لا يكلّ و لا يملّ على أرض الواقع, استطاعت أن تكوّن لنفسها ولاءات قويّة و وفاءا ًلا حدود له, فإنّ هذه الشّريحة المستنيرة من السّكّان لم تعط الإهتمام الّلازم أو ربّما لم تبذل الجهد اللازم و الكافي لتكوين جبهة سياسيّة على علم بواقع الأمور و ذي انتباه ملمّ بأهمّية رهانات المعركة السّياسية و الاقتصادية التي تجابهها البلاد و أقلّ من ذلك فيما يخص تكوين أيديولوجيا جديدة ورؤيا مجدّدة لمستقبل الوطن.
فكانت النّتيجة المنافية للعقل و المخيّبة للأمل التي انبثقت من هذا التّناقض الواضح أن النّهضة التي لا تملك أيّ رؤيا يوثق بها لمستقبل البلاد, بقت تملك حاليّا السّلطة الفعليّة بل هي قادرة على تأبيدها لصالحها, بينما الشّريحة المستنيرة للبلد التي تملك وحدها القدرة لإعطاء هذه الرّؤيا الشّاملة و حتّى التّصور البديل الذي تصلح به أخطاءها, تجد نفسها مهمّشة و حتّى مقصاة إقصاء كاملا من الحكم. و بعبارة أ ُخرى فإنّ هذا الأمر المنافي للعقل يمكن صياغته هكذا: من ناحية, لنا مجموعة اجتماعيّة تملك زمام النفوذ الحقيقيّ و لكنّها عاجزة عن إنتاج الرّؤيا المجدّدة اللّتي تحتاجها البلاد, ومن ناحية أ ُخرى لنا مجموعة اجتماعيّة أخرى قادرة على صنع البديل الشّامل الكفيل بإنقاذ البلاد, و لكنّها اليوم في تونس و كذلك في البلدان العربيّة الإسلاميّة الأخرى المارّة بنفس العواصف الهوجاء, غير قادرة على الوصول للحكم.
بالضّبط, هذا هو التّناقض الّذي يجب حلّّه أوّلا و بالذ ّات؛ و في مرتبة ثانية فإنّه على الطّبقة المستنيرة من الأمّة أن تجد وحدها الطّّرق و الوسائل لرفع هذا التّناقض.
3) بلادنا مثل بقيّة البلدان العربيّة الإسلاميّة الأخرى الّتي تجد نفسها في نفس الوضع, تواجه الضّرورة الحيويّة ألا وهي تصوّر و تطبيق نموذج التّنمية الشّاملة اللّتي تحيي داخل الأمّة, و كذلك في الخارج, الثّقة الضّرورية اللّتي تمكّنها من حظوظ معقولة في النّجاح. إذا كان التّحدّي لا محيد عنه, فحتما يجب الإعتراف بالأمر البديهيّ بأنه, إلى حدّ اليوم, لم يقدمّ لنا أيّ دين مثل هذا البرنامج و لا أيّ أمل في النجاح للعثور على هذا النّموذج. في جميع البلدان السّائرة في طريق النّموّ- لنقتصر عليها – لم نر الدّين يحبّذ و أقلّ من ذلك يبني بنجاح أيّ نسق تنمية اقتصادية و اجتماعية. بل بالأحرى, العكس هو الذي حصل:
جميع السّياسات الاقتصادية و الاجتماعية الّتي نجحت في البلدان السّائرة في طريق النّموّ, في آسيا و أمريكا اللاتينيّة خاصّة, هي السّياسات اللّتي لم تكن لها علاقات بالأديان الأكثر انتشارا ً في هذه البلدان. لا نعرف أيّ نسق تنمية بوذيّ, هندوسيّ أو حتّى مستوحى من المسيحيّة.
الإيمان و البزنس لا يتساكنان في سلام أبدا ً. الإسلام ليس استثناء لهذه المعاينة؛ لا نعرف أيّ متحصّل على جائزة " نوبل" إسلاميّة في الإقتصاد السّياسي؛ و لا نعرف أيّ تجربة تنمويّة ناجحة مؤسّسة على تعاليم مذهب " إسلامّي " مزعوم. لا فائدة في التّنويه ببعض المؤسّسات التقليديّة اللّتي يحبّذها بعض رجال الأعمال و الّتي مزيّتها الّرئيسيّة أنّها تلمع بعتاقتها خارج التاريخ و بالفوائد المريحة العائدة على الباعثين لها. إذا ً ليس علينا أن نبحث عن طريق الأمان في هذا الاتجاه.
4) تتطلّّب التّنمية الشّاملة طريقا ً تختلف كلّ الإختلاف عن تلك اللّتي تنادي بها الأديان. فبالتّحديد إنّما الأديان بماهيتها متّجهة نحو الآجلة, و بقطع النّظر عن بعض الوصايا الأخلاقيّة اللّتي تحتوي عليها مع كلّ الفلسفات الكونيّة, فإنّها لا تقدّم أيّ شي مفيد يكوّن حقّا سياسة تنمية باعثة على ثقة.
إنّما التّنمية الشّاملة اللّتي تهمّ جميع النّاس هي تلك الّتي تأتي بجلول واقعيّة ملموسة لمشاغلهم الدّنويّة العاجلة.
و بكلمة كما بألف, فإنّ ما يهمّ " إنسان الإقتصاد " l homme économique)) هي الحياة الدّنيا. إذا ما أردنا أن نعطي جوابا لائقا للتّطلّّعات الّتي يتطلّبها هذا الأخير فإنّ الفكرة الوحيدة للتّنمية الشّاملة هي القادرة أن تأتي له بالحلول الّتي ينتظرها و الآمال اللّتي يتغذّي بها.
و الحال أنّ تلك الحلول و تلك الآمال هي حتما قائمة على الإبداع, وعلى الاختراعات و على التّحدّيات. و لا يمكن خلقها الا من تلك الشّريحة الإجتماعيّة المهتمّة بمشاكل عالم الحياة الدّنيا, و المهتمّة بجهد إكتشاف أسراره لتستخرج منه منفعة عامّة تفيد جميع النّاس.
هذه هي المهّمة التي لا يمكن تفويضها إلا لهذه الشّريحة المختصّة في التّنمية و في البحث عن التّقدّم و العلم.
هذه النّخبة هي التي عليها أن تمتلك القدرة على ممارسة السّلطة لا كتشريف بل كتكليف: وهذا ما لا يمكن أن نطلبه من رجال الدّين بسبب بسيط أنّهم لم يأخذوا أيّ التزام في هذا الموضوع, وهم, لا محالة, غير قادرين على ذلك. فإذا على النّخبة المستنيرة أن تأخذ مسؤوليّاتها و أن تضع الظّروف الملائمة لتجعل ذلك ممكنا على المستوى السّياسي.
5) أوّل مهمّة لهذه النّخبة هي تحديد برنامج عمل يعتمد عليه وقادر على تحقيق وعوده في مادّة التّنمية الشّاملة.في الظّروف الحاليّة يجب أن تكون هذه النّخبة قادرة, بعيدا ًعن الإنفصالات السّياسيّة والأيدلوجّية وغيرها اّلتي يمكن أن تفرّقها, على إنتاج برنامج عمل مشترك يوحّدها, تقدّمه وتدافع عنه أمام الرّأي العامّ لهذه البلاد و قادرة على كسب أغلبّية السّكان لأهدافه السياسيّة. و الأمر الأساسيّ هنا تحديد ما يوحّد و إبعاد ما يفرّق الّذي غالبا ما يكون تافها. كلّ المناصرين لهذه الأساسّيات, يجب أن يسلّموا, لنجاح المشروع, بأنه من الجوهريّ أن يتخلّوا عن التّفاصيل اللا مفيدة لينضّموا لما هو مفيد للشّعب و للصّالح العام.
تصوّر و صياغة هذا الإجماع الوطني الأساسيّ يمكن إنجازه في وقت قصير و بتشاور توافقيّ لا يكون فيه " غالب أو مغلوب "
6)هذا البرنامج المشترك, هذه السّياسة المشتركة, هذه السّياسة الشّاملة, لا يمكن تصوّرها إلاّ إذا ما قضينا على " الأنانيّة " الشخصيّة و العشائريّة, و امّحت الفرديّة لصالح المجموعة و وجدت الرّغبة المشتركة في خدمة مصلحة الأمّة العليا. الوصيّة الرئيسيّة التي تنحدر من هذه الأمنيّة التي نوحيها لكلّ أعضاء هذه النّخبة هي أن تقبل الّتضحية و التخليّ عن الأنانيّات. لقد خسرنا معركة بسبب الإنقسامات و النّقاشات العقيمة الّتي كلّّفتنا خسارة نصر كان ممكنا في الإنتخابات الأخيرة. فلنتّعظ بدرس هذه الهزيمة. و الآن فلننخرط في طريق الإتّحاد و وحدة العمل. لنتصرف كسياسيّين لا كمجرّد " مناصرين " كما كنّا. لنكوّن جبهة مشتركة من أجل الديمقراطية ستنشأ انطلاقا من ذوبان المجموعات الصّغيرة الكثيرة الحاليّة, العديمة الجدوى, في مجموع قوميّ. و لنلتزم على أساس " برنامج مشترك " و جبهة مشتركة من أجل الديمقراطية بإعطاء شعبنا الأمل من جديد!...
#الصّادق_بلعيد_-_محمد_المثلوثي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟