|
نابلس
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3583 - 2011 / 12 / 21 - 12:16
المحور:
الادب والفن
عيبال كنا نطلع عليك في الضباب لنصطاد هزارًا أو عقربًا، وكنت تفتح كفك لنا، وترفعنا، نحن الأطفال الذين كنا، وبين ذراعيك، لم تكن الدنيا تنام. كان الغرام فانتزم المسموح، وخُضَيْر الصباح، ولم نكن نعرف أنك كنت قد رفعت نبيًا قبلنا، وأننا سنكون حكاية الصنوبر الذي يثمر التفاح، والسرو الذي يقصف البرق. كان جرزيم أخوك جبلاً آخر يقوم في الفضاء بعد أن غدا الضباب تاريخًا ونشورًا، فنظرنا إليه، ونحن على ذؤابتك نقف قبل الصعود في العمر وفي الحزن، وطلبنا إليه أن يغدو صقرًا أو سوطًا.
جرزيم سترقى مع التوارة في السماء، ثم ستنتفض في بحر من الدم لما يذبح إبراهيمُ ولديَ الحاملَ للذنوب، فالبشر اثنان: أحدهما مذنب، وأحدهما مذنب، والبراءة سكين هذا العصر، آخر العصور. فلتكن البراءة، ولتكن البيت. ستنظر إلينا من النافذة كما ننظر إليك من عين جرم سماوي، يسقط عنه الليل بعيدًا، ويسقط الثوب عن جسد حبيبتنا. ستغدو الدنيا عارية، سمكة شبقة في حضن فقد الشهوة.
الشويترة مشينا على رصيفك، وبكينا، آه! يا شارعي الحبيب. أحببنا البنات، وصحنا في المظاهرات، وأكلنا التفاح، وكسرنا الاعتياد، وضحكنا منهم، وهم يمضون على هامش المغامرة، وأطلقنا الحصان. كنت سيد الشوارع قاطبة، سيدنا، وأبًا يبذر قمح الصداقة. ولما نفكر فيك في الصباحات الدامية، ونرى كيف تحنو على أطفالنا الذين يتمردون اليوم أحسن منا، نعرف أنك لم تنسنا.
رفيديا جناح طائر أنتِ، وسماء. وفي المساء، كنا نتحرر من مخلبكِ، لكننا نعود إليكِ لنقع تحت سطوة فعل غدا ذكرى، في الغد. آه! يا زمني الحبيب. آه! يا بيت العشق وغضب الشباب. آه! يا حلم الابن قبل أن يغدو أبًا. من كرومكِ سرقنا العنب، وعلى أسوجتكِ تركنا بضع قطرات دم... كان الجرح بعد صغيرًا، والليل نزهة في العمر، وخوف الأبيض من التوت.
رأس العين قال حاتم لنا، ذات ليلة، إنه سيتزوج في رأس العين، في الحي النائم على كتف جرزيم، والذي جف النبع فيه، منذ ألف قمر، ليتفجر فجأة بعد أول عناق له. كانت حبيبته أجمل من كل مستنقعات القمر، وهو أجمل من كل النجوم المنتحرة، وكنا نحن، في ليلك المساء، ذئابًا صغارًا، ورافقناه إلى الاحتفال. آه! يا رأس العين الحبيب. كيف جعلتنا نُخلص للذئاب الكبار فينا، ونخون أوسًا لك مخلصًا.
عين بيت الماء عارٌ أنتَ يغتسل بالدم والماء كل يوم، وبالندى على قدمي ديانا دون جدوى، فاقتربت منكَ كل بنات المخيم، وقلن لك: - نحن زوجتك! امحى العار، ووجد كل لقيط أباه الشرعيّ. سوف يخرج من خاصرتكَ أطفال كبار إلى دور لم يقدر على القيام به رمح قديم في الحلبة الرومانية، لتسقط روما الحديثة. سقطت روما القديمة.
بلاطة أما أنت، يا مخيم بلاطة، فقد صعد يوسف على كفك من بئر خانها الماء، وإذا بألف يوسف، هنا وهناك، مستعدين للموت وبذل النفس، لأن خطايا إخوتك لن يمحوها إلا الدم موجًا، والقمر أشرعةً محترقة. كيف لمّا كنا نقطع خطك لنستولي على الوعول؟ وكيف لمّا استطاع وعل أن ينطق، ويقول إننا سنقتل في الغد بطلاً لن يعيش أكثر من ألف قمر حتى ولو أعطاه وايزمان أو ريجان كل الأسلحة المدمرة.
قبر يعقوب مضيتُ أمام بابك، في زاوية معتمة، مضيئة، مضببة من نابلس القديمة في الذاكرة، كان هناك بعض المصلين المسلمين الذين يحبونك، ولما مضيتُ، في ذلك الزمن البعيد، كانت سيدة تنتظرني، فعجلتُ في السير إليها لئلا أخلف موعدي معها. فاجأتني السيدة بأنها تعرف أبي، وحدثتني عن مجده يوم كان المجد قلعة ليست منهارة، والجسد أساسًا، ثم تعرت في ظل يعقوب، واغتصبت معي العنب.
سينما غرناطة أقرب الأشياء إلى القلب كنت، وكنت الخيال في الظلام. كنت رحلتي إليك على بساط سحريّ، إرادة الخلق التي ظلت تطاردني إلى طائر الغد، وورطة الصورة.
فدوى طوقان إلى أين يمكن للقصيدة أن تهرب منك؟ أن نهرب منها؟ ومنك؟ إلى أين يمكن للأزقة وشجر الجوز أن تفلت بعيدًا عنك؟ آه! أنت، يا فدوى طيفنا، وطوفان المودة، وانتقام الجميل من الجميل بعد أن مات شعراؤنا! كنت أولى اللواتي رفعن إصبع الاتهام لنحكم بالموت، ولننفذ الحكم. كنت القصيدة والإدانة، ورودك التي زرعتها في أرض بيتك الجبليّ وغدت حدائق وحرائق، ورودك الزرق لم تزل قصيدة وإدانة، لنعيد اليوم الحكم بالموت، ولنفجر حلم الذين لا يمكنهم الحكم. ذلك الحلم الأصفر كنجوم الخجل، الأحمر كورود جهنم، الأسود كأعلام العباسيين والزنابق المستحيلة.
علي الخليلي آه! أنت، يا تواضع ملك السنونو. لم أزل أذكر أول قصيدة كتبتها لأجل أخ لي كان مريضًا، ثم غدوت شاعرًا ويتيمًا. ويوم مات أبوك، غدونا يتامى كلنا. أذكر أيضًا أنك كنت جميلاً، أما زلت جميلاً؟ وعشيقتك، أما زالت صغيرة؟ كبرنا على الطرقات الذاهبة إلى باريس، إلى مدريد، إلى المريخ، إلى صنعاء، إلى العنقاء، إلى كاليفورنيا، إلى رمال طرابلس... حتى على تلك الضائعة في تونس، لكنك أنت لم تشأ إلا أن تعود على أول مركب يبحر في الدم إلى نابلس، مدينتك الحبيبة، مدينتي الحبيبة. اكتب لنا اليوم، واخلق من العدم قارئًا حتى الله لن يمكنه خلقه بين برابرة الروح. اكتب لنا عن حجارتها الحبيبة، حطم قيود المطبعة، وارجم الوجوه الشوه من الناشرين الجهلة والتجار الأميين. ابعث لنا بآخر قصيدة، وصف لنا القاتل عندهم، وعندنا، في حارة الياسمينة، وفي وادي النسناس. لك منا القلب الذي عصا، والقلم الأخير، وأجساد عنادل مجرمة ذبحناها في الطريق المؤدية إلى طرق أخرى، ومن هذه الطريق الجديدة إلى طرق أخرى وأخرى، ثم أخرى، ثم أخرى.
المتنبي الشاعر الوحيد الذي كتب عنها قبل ألف عام. كان الوحيد. وبعد ذلك، أعطى لكافور الثلج وجهًا ليعطيه الجوهر، فلم يعطه الجوهر، ولا العصا، وظلت حبيبته ضائعة إلى الأبد. وعلى الرغم من ذلك، ذهب يسعى في الأرض بحثًا عنها إلى أن كان يوم قتله فيه سبعون من أخوته هم سبعون بلدًا من سبعين أبًا هجا أمهم التي كانت أمنا من الماء إلى الدم. يا أيتها السمكة! نحن البحر... وسكين هؤلاء أو أولئك لن يمنعنا عن العودة إلى أول خطوة لنا على سفح عيبال، نحو ساحل حيفا، ولا على قمرهم القاتل. سنقتل القمر بالقمر، ونحرق الشجر بالشرر، وليدشن موتهم الشرعيّ مرحلة عذابهم القادم. عند ذلك، سنقول عنك القصيدة التي لم تقل فيها نبوءتك الأخيرة.
الانتفاضتان يوم السبت 8/10/1988
من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شمس مراكش تحرق الأصابع
-
بركات
-
الأطفال يتكلمون لغة واحدة
-
أفنان القاسم يجيب على أسئلة الحوار المتمدن
-
الرسامة الصغيرة
-
العاملة التي أحبت الكاتب
-
الحزب والموسيقى
-
السيدة التي لم تقرأ الجريدة
-
لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور من حول سرير أفنان القاسم
-
وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
-
الفتاة الممنوعة
-
وحيد وجوديت
-
ناتاشا والفنان
-
العاطل عن اليأس
-
انتحار الشاعر
-
أطول ليلة في الحي اللاتيني
-
القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه
...
-
محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
-
39 شارع لانكري
-
الابن والبحر
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|