|
الحجاج .. المستبد المستنير ... المُفترى عليه 2
أحمد عفيفى
الحوار المتمدن-العدد: 3563 - 2011 / 12 / 1 - 21:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تعريب الدواوين ... كان الحجاج أول من عمل على ترجمة دواوين سائر بلاد العراق، وذلك أنه كانت بالكوفة والبصرة ديوانان، أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، وهذا الذى كان قد وضعه الخليفة عمر، والآخر لوجوه الأموال وكان بالفارسية، واستمر ذلك إلى عهد عبد الملك بن مروان. وكان الحجاج لما ولى العراق، استكتب زادان فروخ بن بيرى الفارسى، وصالح بن عبد الرحمن – مولى بنى تميم – الذى أحبه الحجاج وقربه إليه، فقد حول شطرا من الحساب من الفارسية إلى العربية، وبعد موت زادان، استكتب الحجاج صالحا مكانه، وعزم على أن يجعل الديوان بالعربية، وعهد بهذا العمل إلى صالح، حتى أن صالح لما نجح في ذلك، قال له مردانشاه بن زادان " قطع الله أصلك، كما قطعت أصل الفارسية ". وقد آلم ذلك الأمر الفرس وكبر عليهم، فبذلوا لصالح مائة ألف درهم، ليظهر عجزه عن نقل الديوان، فأبى ونقله " ، وقد تخرج على يدين ذلك الصالح العظيم، كثير من الكتاب، قال منهم عبد الحميد الكاتب " لله در صالح، ما أعظم منته على الكتاب ".
وقد كان لتعريب الدواوين أثر مزدوج من الناحيتين السياسية والأدبية، تقليص نفوذ أهل الذمة وغير العرب من المسلمين، بعد انتقال مناصبهم إلى المسلمين من العرب، ظهور طبقة من الكتاب العرب، ونقل كثير من الاصطلاحات الفارسية، وكان ذلك من أهم الأسس التي أقيم عليها بناء القومية العربية فى الممالك الإسلامية، وقطع به آخر مظهر من مظاهر الأعاجم، فأصبحت البلاد عربية بأوضاعها وسكانها.
والحجاج قد سبق عصره فى طريقة تفكيره وحسن تدبيره، فإذا قسناه بمن سبقه من الولاة والفاتحين، كان مجتهدا، وإذا قسناه بمن أتى بعده، كان مبتكرا، فالحجاج الذى لم يألف حياة السواد من قبل، عرف أن الدولة لا تقوم لها قائمة إلا إذا ساد الرخاء أرجائها، فاستطاع الزارع أن يدفع ما عليه للدولة من خراج، فإذا ضنت عليه الأرض، ضن هو على الدولة – مضطرا – بما تريده من خراج. لذلك عنى الحجاج بإحياء موات الأرض، بشق القنوات وحفر الأنهار وإصلاح الأرض البور وتجفيف المستنقعات والإكثار من الثروة الحيوانية بل وتحريم ذبح البقر للحفاظ على النسل وتنمية تلك الثروة من لحوم وألبان ومستخرجاتها، فضلا عن أثر الحيوان فى العمل فى المزارع وتسميدها. وكان الحجاج فى إصلاحاته لا يعرف كلمة مستحيل، فقد سأل ملاك الأراضى بالعراق سعد ابن أبى وقاص أن يحفر لهم نهرا، ففعل حتى انتهى الفعله إلى جبل فتوقف العمل فيه، ولما ولى الحجاج العراق، جمع الفعله من كل ناحية وقال للقائمين بالأمر " أنظروا إلى قيمة ما يأكل كل رجل من الحفارين، فإن كان وزنه مثل وزن ما يقلع، فلا تمتنعوا من الحفر " فأنفقوا عليه حتى استتموه.
ورأى الحجاج بأرض العراق الكثير من المستنقعات، جفف القليل منها من سبقه من الولاة وقد بقى الأكثر على حاله، فجفف المستنقعات المحدودة المساحة، واستخرج منها أراضى صلحت للزراعة، أما المستنقعات الواسعة فقد كان يستشير أمير المؤمنين فى أمر الإنفاق عليها، لما قد يتكلفه ردمها من ملايين الدراهم، فكان مسلمة بن عبد الملك أخو الوليد، ينفق عليها على أن يستقطع منها الأرض المنخفضة التي يبقى فيها الماء بعد ردمها، فحصلت له أراض كثيرة، وحفر النهرين المسميين بالسيبين، وعمرت تلك الأرض، وذهب إليها أناس كثيرون لزراعتها عندما توفرت المياه العذبة. وكانت بالعرق أراض كثيرة تبدو عليها الخصوبة ولكن تنقصها الأيدي العاملة، فكان يستقطع تلك الأراضي لمن يتوسم فيه المقدرة على زرعها، ممن أخلص فى خدمته، مكافأة له على الإخلاص من ناحية، وجنيا للخراج من ناحية أخرى.
والحجاج كان يرى – كما يرى ساسة اليوم – أن يساهم الشعب فى جهود الإصلاح، لا أن يترك الأمر كله للحكومة، لذلك نراه ينيط صيانة الجسور وترميم السدود بأصحاب الضياع التي تنتفع بها وخاصة إذا كانوا من الملاك الأغنياء، فإذا أهملوا ذلك، فاضت مياه الأنهار والقنوات على أراضيهم وقاموا يطالبون الحكومة بالتعويض، أبى عليهم الحجاج ذلك، حتى يكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم فى المستقبل، فيسهرون على صيانة أراضيهم من أن تطغى عليها مياه الفيضان.
وكان الحجاج لا يضن بالمال طالما كان لازما للمصلحة العامة أو عائدا على بيت المال بالفائدة، فكان يقرض الزراع مساعدة لهم على زرع أراضيهم كما تفعل بنوك التسليف الزراعي فى عصرنا الحاضر.
وهال الحجاج انصراف الناس عن الزراعة بالهجرة إلى المدن حيث تكثر البطالة وما يستتبعها من جرائم، فضلا عما يترتب على ذلك من بوار الأرض وما يتلوه من نقصان الخراج، فأمر بإرجاع هؤلاء المهاجرين إلى قراهم، وأشتد فى ذلك فأمر بأن يكتب على يد كل واحد منهم أسم قريته حتى لا يبرحها إلى غيرها.
شيد الحجاج صهريجا للمياه فى البصرة، عرف باسمه، ليشرب الناس منه، وذلك فى القرن الأول الهجرى، قبل حديث المصلحون فى العصر الحديث عن مشاريع المياه الصالحة للشرب بقرون.
هذا ما حدثتنا به المصادر من إصلاحات الحجاج بالعراق، ولو اتسع أفق المؤرخون، ولم تطغ عليهم حفيظتهم على الحجاج، لملئوا عن إصلاحاته الكتب، ولكن الحجاج كان ضحية سمعته العامة المتواترة من بطش وقسوة.
والمؤرخون المسلمون قد تملكتهم عليه الحفيظة فطمسوا من معالم إصلاحاته، ما لو دون لكان منارة لرجال الإصلاح فى العصور المتأخرة، ومع هذا القليل الذى أورده المؤرخون، فإن الحجاج لم يفلت من نقدهم.
فيرى المؤرخون أن تلك المجهودات والإصلاحات لم ترجع إلى العراق رخاءه القديم، وأن حالة العراق بعد موته كانت من أسوأ الحالات.
والفارق بين نقد المؤرخين والحقيقة، أن الحجاج قد يجيء بالملايين من فيء وخراج، ولا يؤدى منها إلى دار الخلافة إلا النذر اليسير، ذلك أنه أنفرد من بين الولاة جميعا، بالإنفاق عن سعة على الحروب، التي لم تهدأ يوما طوال عهده، فكان يضطر فى كثير من الأحيان، إلى مضاعفة العطاء، وهى حروب لم يكن من ورائها فتح ولا فيء، فهى حروب داخلية قوامها إخضاع ثائرين مفلسين، يضاف إلى ذلك أنه كان كما رأينا، معنيا بالإصلاحات الداخلية، لا يدخر وسعا ولا جهدا فى سبيل إنجازها،
وحسب الحجاج، بما واجه من مصاعب، وأخضع من فتن، وأجرى من إصلاحات، أنه خلص الخلافة من الفتن التي كانت تواجهها فى العراق، وكادت تودي بها، لولا همة الحجاج ويقظته، وحسن بلاءه فى الإنفاق على الجيوش، واستهواء القلوب.
ومهما يكن من أمر، فإن الحجاج كان موضع الرضى التام من الخليفة عبد الملك بن مروان، ولو لم يكن كذلك، لنزعه عبد الملك فى خلافته، ولما أوصى به أبنه الوليد، ولما أستحق هو وزياد الثقفى، أن يحسد العباسيون الأمويون عليهما، فقد قال أبو جعفر المنصور، أشهر وأقوى الخلفاء العباسيين: " الخلفاء ثلاثة؛ معاوية وكفاه زياد، وعبد الملك وكفاه الحجاج، وأنا ولا كافى لى ".
الحجاج بن يوسف الثقفى، حاكم مستبد ومستنير، وبغير هذا ... لا يفلح الساسة.
#أحمد_عفيفى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنما بعثت لأدمر مكارم الأخلاق
-
النكاح .. وملك اليمين ... كبت وشبق مقننين
-
الحجاج .. المستبد المستنير ... المُفترى عليه
-
المسلمون كالديناصورات .. وربما أقوى قليلا ... فلم ينقرضوا حت
...
-
الجنة .. إغواء ضحل ... وسراب ممجوج
-
الفاتيكان .. تاريخ باباوى ... دموى ومأساوى 3
-
الفاتيكان .. تاريخ باباوى ... دموى ومأساوى 2
-
الفاتيكان .. تاريخ باباوى ... دموى ومأساوى
-
الله .. وفى رواية ... الشيطان
-
الله .. لحسن الحظ ... لم يعرف اليابان
-
الله ... أكبر كاذب فى تاريخ الشرق
-
لعنة اللاوعى
-
الله ... بعيدا عن الأنبياء والفقهاء والوسطاء
-
إما أن الله أحمق ... أو أن محمدا ميكيافيللى
-
الله ... أحمق كذبة عبر التاريخ
-
لا شىء مراوغ ... أكثر من حقيقة واضحة
-
عزازيل - سيرة ذاتية 1
-
محمد يحكم من قبره
-
حب الموت وكراهية الدنيا
-
مناعة شرسة أم قناعة شرسة
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|