|
ناتاشا والفنان
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 3563 - 2011 / 12 / 1 - 13:11
المحور:
الادب والفن
كانت لهم ناتاشا كلمة السر، أيها المتفرجون الكرام! لراؤول الهوى الرجيم، ولرونيه الحامل للمنجل، وللغجري أنطوان، وكانت لهم ناتاشا التفاحة! ورغم اسمها الروسي، كانت ناتاشا فرنسية، ورغم شعرها الأشقر، كانت ناتاشا برنزية، وكان لون عينيها أخضر، يحبها راؤول، ويحلم بها رونيه، ويضرب لها دفه أنطوان. كانت لهم ناتاشا وردة الحقل، أيها المتفرجون الكرام! قبل أن يلقي النازيون القبض عليهم، كانوا يلفظون اسمها، ويهمسون من وراء الأبواب. وعندما يجدون أنفسهم معًا من حول طاولة، كانوا يبتمسون لظلها. وفي اللحظة التي كانوا فيها يتخذون قرارًا بالهجوم على الأعداء، كانوا يتضرعون إليها في طويتهم: لأجل عينيك، يا ابنة الوهم! هل تذكرون ناتاشا كما أذكرها، أيها المتفرجون الكرام؟ ناتاشا الوردة والتفاحة! كيف يتردد البعض بينكم في البحث دون أن يجدها شجرة في ذاكرته؟ ادفعوا على المقاعد ظهوركم، وأنعموا النظر إليها عبر عينيّ... بدمعي أروي لكم قصتها، أنا الفنان. ومن قلبي، بدلاً من لساني المجرح بالكلمات عنها، أروي لكم كل شيء. ورونيه مع حبيبته، كان يغيب وراء السحاب، تسأله إذا ما كان يفكر في موعده القادم معها، فيدفن وجهه بين نهديها، ولا يقول لها إنه يفكر بالأحرى في موعده القادم مع ناتاشا. يطير في خياله بعض الجنود الألمان في الهواء، وتصله صرخة منبثقة من المستقبل. يخبئ وجهه في كفيها، وعما قليل يحس بأصابعها على عنقه. يرفع إليها رأسه، ويبتسم لها، وفي بسمته دعوة إلى العناق. هل سيحبها راؤول أكثر من زوجته؟ كان يلاحق زوجته بعينيه، وهي لا تكف عن العناية بطفلهما، فيسأل راؤول نفسه: هل أحب ناتاشا أكثر منها؟ هل أحب ناتاشا أكثر مني؟ كان الأناني والمتفاني! كان نفسه وغيره! كان القرار وقوة الفصل! ويطبع قبلة على خد زوجته، فتعهد إليه بالطفل الذي يأخذه بين ذراعيه، ويداعبه. وماذا عن الغجري، أيها المتفرجون الكرام؟ قارع الدف والمغني! في الليل لم يكن ينام، كان يبقى ساهرًا في الليل، يقرع الدف، ويغني للغائبة، ويصعد على سلالم الخيال إلى النجمات. يتحول إلى طائر يحلم بالعودة، ويشتاق إلى الذين تركهم على الأرض، ويأتي صوته مع الريح:
ناتاشا، يا ابنة الحقيقة الغائبة! سأكون حضورك في اللحظة الحرجة! ثم يحترق الصليب المعقوف! فأجدك، أنت، العاشقة! في اللحظة النيرة تصبح للحرية والحب صورة واحدة!
كلمات كهذه تهز حتى الصخر، هل تهزكم، أيها المتفرجون الكرام؟ ناتاشا كنتم لها عشاقًا! كانت سعادتكم الغائبة! أراكم ثملين كقارب أسكره الموج! ذكراها تحفر عميقًا في صدوركم، والابتسامة على شفاهكم تجمد. غنوا معي أغنيتها:
ناتاشا، يا ابنة الحقيقة الغائبة! سأكون حضورك في اللحظة الحرجة! ثم يحترق الصليب المعقوف! فأجدك، أنت، العاشقة! في اللحظة النيرة تصبح للحرية والحب صورة واحدة!
كانوا يتقنون كل فنون اللعب، أيها المتفرجون الكرام! لعبة العشق كلعبة الكرات الحديدية أو لعبة الرصاص. صغارًا كانوا في ثياب الكبار، أو كبارًا كانوا في ثياب الاشتياق، وناتاشا دومًا تحديهم. ناتاشا القلب! ناتاشا النبض! ناتاشا الورد! ناتاشا المستحيل! كانت ناتاشا دومًا تحديهم الأخير! يغزو القلق وجوهكم! لا بأس من الخوف وقت التحدي! عند الشعور بالخطر نجد الغبطة، ونرغب أكثر في الرغبة. الرباط فيما بينكم الآن أقوى، أنتم غيركم بين أصابع ناتاشا التي تخافون عليها من الريح! لن يسقط الفنان على الخشبة، معكم لو كان السقوط محتمًا، فليكن، ولكنه سيكون لازمًا. وبكى راؤول في أوشفتز، كيف لا يبكي المبعد عن وطنه وناتاشا ليست معه؟ كيف لا نبكي على باب الجحيم؟ وناتاشا تصبح صرخة ألم. كان طوال الوقت يفكر في الموت لأجلها، إلا أنه كان يفكر في الموت وفي شفتيها، وكان يعجز عن التفكير بطريقة أخرى. كانت ناتاشا ألمه وأمله، ونافورة صغيرة في حديقة باريسية قرب تمثال. أبدًا لم يفكر راؤول في الاحتراق! كان الجحيم بعيدًا، كان يقبع بعيدًا عن عالم الآلهة المستبدين، والطريق إلى ذلك العالم لم تكن طريقه إلى ناتاشا الأغنية على قيثارة غجري يحصد الزعتر في الصيف. وقبل أن يلقوه وصحبه في الأفران كالأحطاب، صرخ راؤول (( ناتاشا ))! وفي اللحظة ذاتها، نطق ابنه في مهده كالمسيح، ليقول ما ستكونه آلام طفل قادم من أم فلسطينية. هل احترقت لكم إصبع من أصابعكم في النار صدفة، أيها المتفرجون؟ كيف كانت آلامكم؟ ما قدرها في ميزان آلام راؤول الذي رضي بأن يكون عاصيًا في كل شيء إلا في حبه لناتاشا الشقراء البرنزية ذات العينين الخضراوين، والتي في سمائها يحلق اليوم طائر الفنان؟ ورونيه قبل رميه بالرصاص لأنه لم يعترف إلا باللون الأحمر ناداها. كان جنود الموت قد ربطوه على جذع شجرة، فقال لحبيبته: من الجذع أصعد إليك! ورفض أن تنزل ناتاشا إليه خوفًا عليها من النازيين المنتشرين في العشب. كانوا لا يفرقون بين العشب وظل العشب، بين الفراشة وظل الفراشة. كانوا لا يفرقون بين العاشق وعشقه الدفين، بين القلب وخفق القلب. وهو، لهذا، رفض أن تنزل ناتاشا إليه من الأغصان، ولأنه كان خائفًا عليها من السقوط في الارتياب: كانت بانتظارها مهمة أخرى في الغد. أمَّا الغجري، فهم صنعوا من جلده قنديلاً يضيء بعد أن انطفأ. انظروا، أيُّها المتفرجون: على طرف المسرح قنديل يرسل الضوء! هل ترون هالته الذهبية؟ أيها الإله! هل تسمعون تلك الضربات العاشقة على الدف؟ وضحكة ناتاشا الآتية من الشجرة؟ وصياح باريس المنبثق من النافورة كطفلة تسترشد الفنان بعد ضياع؟ أيُّها الإله! الشجرة تسير في ثوب من دم رونيه الأحمر، وهالة أنطوان الذهبية تنتشر، وجحيم راؤول يتحول إلى أرض موعودة! لنذهب معًا، أيها المتفرجون! لنذهب معًا نحو المستقبل! اذهبوا مع الفنان، أيها المتفرجون الكرام! ناتاشا بانتظارنا! انظروا كيف يفر العالم من أمامنا، كيف لا يرى آلامنا. لكن آلام راؤول هي الأقوى. آلامنا تذهب وآلامه تبقى. آلامه كل الآلام. وفي لحظة الفرار الفرديّ لا بد من التقدم نحو القرار الجماعي، فقرارنا الجماعي أن نقطع الطريق، وعندما نقطع الطريق سيجيء العالم ليجدنا. يجيء عصر الفهم! كل القوة في الألم الماضي! أنا الفنان الصائح في وجه الطاغوت، سيخضع لي كل البرابرة الذين ارتكبوا أبشع الجرائم باسمك، أيتها الحضارات السابقة واللاحقة. لنذهب إذن كي نحترق من أجل المجد الآتي، وعلى أبواب جنتنا، لنهرق الدماء. هكذا نخلص من ذنب الأجداد، ولا بأس، بعد ذلك، أن نترك للأحفاد ذنبنا. لنذهب، أيها العصاة، إلى الوجع! ألم يتوجع راؤول قبلنا؟ هكذا يشتري الآخرون خطاياهم، ونهدم أسوار الرومان! أنا الفنان! أنا الأشجع! على المسرح أبقى، وفي ظل ناتاشا العاشقة أتقدم! هل ترون ظلها؟ تجيء من الهزيمة إلى الانتصار. أيها الإله! يحضر بحضورها راؤول الصارخ. هاأنذا أطلق صرختك اليائسة! صرخة كل المعذبين! أطلق صرختنا الحادة، المديدة، صرختنا المريرة. نطلقها كلنا معًا، أيها الممثلون الكرام! لم تعد حاجة بنا الآن إلى البحث في الوجوه العديمة التأثر عن معنى حارق، ولا في النظرات الزائغة عن مستقبل سعيد. ها نحن الآن كلنا نعيش في عهد بلا براءة آلام راؤول البريء! لا تتردوا! تعالوا، أيها الممثلون! نحن على أبواب جنتنا. لتكن ناتاشا ثوبنا الحيويّ! هل تعبتم، أيها الممثلون؟ ماذا جرى لكم؟ ألا تؤمنون بما يقوله لكم فنانكم المخلص؟ الفنان المخلص كالشاعر الذي لا يكذب. تعالوا، أيها الممثلون! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا! تعالوا!...
في لحظة إلهام أو جنون، يستل الفنان مسدسه، ويأخذ في إطلاق النار على المتفرجين كي يرغمهم على اللحاق به، إلى أن يقتلهم عن عمد جميعًا، ويقتل نفسه عن خطأ. لكن ما أدهش الكاتب- وهذا لم يكن واردًا في فاجعته- أن الفنان، قبل أن يموت، وجد نفسه بين ذراعي إحدى المتفرجات، والدم يتفجر كالنوافير من جسدها، وعندما سألها عن اسمها، أجابت (( ناتاشا )). في تلك اللحظة، ابتسم، ثم أسلم الروح.
باريس يناير 1982
* من "حلمحقيقي" المجموعة القصصية الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العاطل عن اليأس
-
انتحار الشاعر
-
أطول ليلة في الحي اللاتيني
-
القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه
...
-
محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
-
39 شارع لانكري
-
الابن والبحر
-
الله والنقود
-
الطفل الآتي من هناك
-
حلمحقيقي
-
حبيبتي في صنعاء
-
حرير دمشق
-
إرادة الورد
-
الهامشيون
-
ساعة الصفر
-
على طريق دمشق
-
الموت
-
الأعشاش المهدومة
-
الإرجاء
-
الحجرة
المزيد.....
-
من دون زي مدرسي ولا كتب.. طلاب غزة يعودون لمدارسهم المدمرة
-
فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
-
مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم
...
-
هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير
...
-
ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا
...
-
بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات
...
-
تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض
...
-
“معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر
...
-
ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
-
أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|