|
-لاتزال حكومات الفشل تحاصر أحلام الشباب-- وهم لايبصرون من العماء
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 3562 - 2011 / 11 / 30 - 22:30
المحور:
الادب والفن
نظرت إليه فكأني أمام الحسين بن الحلاج ينشدنا: وأي الأرض تخلو منك حتي تعالوا يطلبونك في السماء تراهــم ينظرون إليك جهـراً وهـم لايبصرون من العماء كان فنانا تشكيلياً مبدعا لم يجد طريقه للرواج والعالمية مثل آخرين أقل منه فناً وابداعاً لكنهم يعرفون طريقهم إلي دهاليز السلطة وأمور المعارض والتفرغ والسفر والمقتنيات. كان عنيداً لم يستسلم للقعود والإنهزام، فاشتبك بفنه مع قضايا الحياة ومشكلات الوجود وإحباطات الناس ومفارقات الدنيا وتعقيدات العصر. كانت لوحاته بما فيها من تدفق وشجن تفيض بالجمال والدهشة فتملؤك بإشراقات جديدة، تحلق بك في فضاءات الفانتازيا والخيال ورغمها تجدك واقفاً علي أرض الواقع بكل معاناته وتفاصيله وأحابيله وعميق مجاريه. كانت لوحاته دائماً ما تشعرك بالغني رغم فقره البادي وأفاعيل الزمن وقد حفر بصماته علي تجاعيد وجهه فبدا كهلاً في الخمسين وهو دون الثلاثين، كان نحيلاً عميق النظرة رغم شرودها، وكان طويلاً رغم قصر ذات اليد وكان كريماً رغم ندرة مايمتلك، إلا فنه فقد كان متدفقاً شلالاً من عطاء وإبداع لاينقطع، كان إذا حضر إحدي محاضراتي العامة في الجامعة أو الثقافة الجماهيرية أو غيرها من المحافل العامة لاتستغرقه الأفكار والنقاشات قدر ما يدفعه فضول الفنان ونزقه إلي إختزال اللحظة في لقطة أو إيماءة وحركة، وإذا بالبورتريه مرة بالفحم وأخري بالجواش أو الباستيل يحكي لك إنفعالات الناس وحماس الإلقاء والحوار والرؤي. كان مغرماً بالتفاصيل وفي نفس الوقت مترفعاً عنها، وكان فنانا في شكله وعقله ومأساته وتفرده وحزنه ، وكان ابن موت. عرفته ذات مرة في معرض للفنون التشكيليه بمعهد جوته بالاسكندرية. كنت مهتماً باللغة الألمانية إذ أغراني عبد الغفار مكاوي في كتابه "ثورة الشعر الحديث" بدراستها. كنت في ذلك الوقت أدرس البيولوجيا والكيمياء الحيوية في كلية العلوم وكنا نحن أبناء جيل السبعينيات ومنذ بواكير الوعي مولعين بالقراءة، ننهل منها كيفما اتفق، في مكتبة البلدية، في قصور الثقافة وبيوتها، عند بائع الصحف، كنا كما القطط الصغيرة قبل فطامها تلقم ثدي أمها أو ما يصادفها من أثداء قابلة للعطاء والحنو والرعاية. كنا نستنقذ بضعاً من قروشنا القليلة نشتري بها الكتب مما كان متاحا في حركة إنفتاح غير مسبوق علي الفكر العالمي المعاصر رغم ما يدعيه البعض عن إنغلاق هذا العصر علي ذاته. كنا وقتها نتابع معظم ما يكتب عن الفنون والآداب والتاريخ والفلسفة والسياسة ونتابع أعمال الكتاب والشعراء والفنانين، ونعقد حلقات للنقاش حول أعمالهم ونتاجهم، كنا مولعين بقراءة الفكر العالمي. لم يكن يشغلنا ذلك عن الدراسة والتفوق وكنا نعلم وقتها أنه لاتغني خصوصية العلم عن شمولية المعرفة، كنا جيلاً طموحاً غيوراً قادراً علي الخيال والحلم والعلم والعمل، ولا أعرف ماذا أصاب أجيالنا اللاحقة فإذا بالقراءة في آخر خياراتهم. وقفت أمام لوحاته تملؤني الدهشة واحتشد داخلي كل ما قرأته وعرفته عن الفنون التشكيلية وقواعد التذوق وقراءة اللوحة ودلالات الألوان والضوء والظل واستحضرت مدارس الفن الحديث. كانت لوحاته تحمل جموح وتجديد وجنون وحداثية وكلاسيكية وإنطباعية سلفادور دالي وفرانشيسكو دي جويا وبول سيزان وفان جوخ، وجوجان، ودييجا ومانيه ورينوار وبابلو بيكاسو وإيتان رينيه. كأنه هضم كل هؤلاء وتمثلهم خطوطاً وألواناً وجنوناً وفناً وعبقرية. لم أستطع أن أخفي إعجابي بلوحاته وقراءتي لها، وكما قال لي بعدها بسنوات، كان مندهشا لأنه قرأ معي لوحاته كما لم يحدث له من قبل ولسنوات حاول فيها فهم ما رسمته ريشته فتداخلت معه الأفكار والأحداث والتفسيرات والرؤي. إنضم علي الفور لمجموعتنا وأسندت إليه عمل ديكورات بعض مسرحيات فريق التمثيل الذي كان وقتها واحداً من أهم الفرق الجامعية. كعادته، كان ضحوكاً ساخراً تأتي حكاياه بطعم المشمش، حلاوته في مزازته وربما أيضا قصر موسم حصاده وأيام عمره. في إحدي أمسيات الصيف انسابت كلماته تلف المكان بمسحة من الشجن لم تفلح نسمة بحر الإسكندرية أن تخفف من وقعه وحرارته. كان يتكلم عن مقالاتي التي أصر فيها علي التأكيد بأننا نحن الذين نصنع مستقبلنا، حيث خلط عامداً بين المستقبل والقدر ربما ليفتح باباً للمناقشة والحوار وربما هي دفقة من اليأس والإحباط أرادها أن تغادر صدره وعقله وأفكاره. في هذه الأمسية إندمج الفنان مع كل إحباطاته وطموحاته المجهضة فوقف ساخراً من كتاباتي المغرقة في التفاؤل بلا سند أو مقتضي أو دليل وتساءل كيف يمكننا أن نصنع المستقبل ونحن الذين نكابد الحاضر ونعاني تداعيات الماضي ونفشل حتي في التواؤم والتأقلم مع الواقع، وكل ضراعتنا لله سبحانه "اللهم لانسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه" عارف يعني إيه يا أستاذ يا مثقف؟ يعني كل ما تطلبه من الله إنه بدل ما يضربك لوري ويدهسك تحت عجلاته الثقيلة يخفف ربنا برحمته وتموتك عربيه 126 صغيره. مستقبل إيه إللي عاوزنا نصنعه، إحنا لاقيين ناكل، هو حد شايفنا ولا حد حاسس بينا، وأغرورقت عيناه بالدموع بينما انفجرت ضحكاته تملأ فراغ المكان وتغسل صدره مما يعانيه كل مبدع وكل الموهوبين والنابهين، نظرت إليه فإذا بطيف مولانا الحلاج ينشد: وهم لايبصرون من العماء. أمام محاولات تصفية الثورة وقتل الثوار وفقء عيونهم من سلطة عمياء تحكم بنفس غباء نظام مبارك وقمعه لم أستطع الكتابة فأنا في الشارع مع الجماهير وسط الناس نحاول حماية ما تبقي من وطن. ولأنني احترم موعدنا فلتسمح لي أن أعيد مقال سبق نشره في الأخبار 2009 حاملاً مأساة جيل كان أبناؤه يموتون من الإقصاء والاستبعاد والتهميش أو في عرض البحر في رحلات الهجرة إلي المجهول بينما المسئولون ينظرون ولايبصرون من العماء، تري هل تغير شئ؟!!!
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليل تطرده قناديل العيون
-
- الإنبثاق من العلم والشعر إلى السياسة والثورة-: إنما الخلاص
...
-
-جيتو القاهرة المستبد واستبعاد الكفاءات والمناضلين-: رأفت نو
...
-
-الأخطاء التى ترتكب فى بداية الثورات لاتموت أبداً-: إنتاج وإ
...
-
الوزراء وأصحاب الرابطات الحمراء
-
9 مارس ومشروع النهضة
-
أحاديث منتصف الليل
-
مصر.. وعَودةٌ أخري قريبة
...
-
راكيل وولش والنانوتكنولوجى
-
الثورة ومشروع النهضة
-
عندما لاتؤدي المقدمات إلي نتائجها
-
البحث العلمى وإدارة المعرفة
-
إستراتيجيات إنتاج وإدارة المعرفة
-
الوعي الزائف والعقل البديل
-
مبدعون على الشاطئ الآخر
-
الموتى لا يروون حكاياتهم
-
المثقف المجتمع والسلطة
-
إناللا هاموهى تونبلكا فيرينا
-
العلم ساحر الغيوب
-
البرتقالة الرخيصة
المزيد.....
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|