|
العبور من ثقب الإبرة : قصة قصيرة
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3556 - 2011 / 11 / 24 - 14:11
المحور:
الادب والفن
العبور من ثقب الإبرة : قصة قصيرة تحت لسانه كلام ، استمهلته لأعد له القهوة ، لم يحتمل ، طلب مني البقاء ، قال: " اقعد الآن واسمعني ، القهوة لن تهرب " جلس على كرسي من الخيزران ، وجلست قبالته ، كان يتحرك قلقا ، يغير جلسته ، وضع ساقا فوق الأخرى ، أسند ذراعه على عارضة الكرسي ، وطلب مني أن أقترب أكثر ، قلت له : " أتريد أن تهمس لي بسر ؟ " أحس أنني أسخر منه ، تابعت مطمئنا : " لاأحد في الغرفة سوانا ، لن يسمعنا أحد ، خذ راحتك ، وتكلم بحرية وصوت مرتفع " ، ومع ذلك اقتربت منه أكثر تلبية لرغبته ، وأنا أضحك من ارتيابه غير المبرر ، وكان ياسين يتضايق من ضحكاتي التي يعتبرها سخرية منه ، ومن أي تصرف أو قول يقوله ، إلا أنه كان يثق بي ، ويحبني ، وكثيرا ماكان يؤكد أنني الوحيد الذي لاأجامله ، وأنه لهذا السبب يتعلق بي ، ويتمسك بصداقتي كنت أسميه : مختار الحارة ، لسعة اطلاعه على أضابير وملفات الجيران والحارة ، وكنت أمازحه بالقول : أكيد أنت مخبر ، بسبب فضوله المرضي في تسقط أخبار الناس قريبهم وبعيدهم ، وكنت أعتبره سجل أو تاريخ سكان الحارة الشعبية الفقيرة نسبيا . وكان يخبرني مجانا .. وأحيانا إغريه بكأس من الشاي أو المتة ، مع أركيلة . نسيت أن أخبركم أن ياسين ، متزوج من امرأة جميلة ، وله منها ثلاث بنات ، وليس لديه صبيان ، ومايزال ينتظر أن ينحظ بقدوم طلال ، فهو أبو طلال ، هكذا ينادونه منذ زمن بعيد ، وحتى قبل أن يتزوج من جميلة ، جميلة هو اسم زوجته أم البنات ، وهو أبوالبنات . على غير عادته .. رفض هذا المساء أن أعد له القهوة .. ولا الشاي .. ولا الأركيلة ، كان متحمسا للدخول بالموضوع قبل الضيافة ، ويكاد الكلام يخونه ، ويخرج من فمه رغما عنه ، من شدة الضغط الذي يعانية من الأسرار التي يحاصرها في داخله ، وكأنه متخم بها ، ويود أن يتقيأها ليرتاح ، لم يكن من الذين يحفظون الأسرار ، كان عاجزا عن الكتمان ، مهما كان الأمر يتطلب الكتمان . هذه المرة بدا كالحامل التي جاءها المخاض ، وأوشكت أن تولد . قرب وجهه وفمه نحو أذني ، ليفرغ حمولته الثقيلة فيها ، أحسست بفمه يتسع حتى ليكاد يتسع لابتلاع رأسي كله ، وأحسست حينئذ أن أذني تتسع لتتحول إلى طبق لاقط كبير جدا ، وقادر على التقاط الأثير كالرادار ، أنفاسه السخنة تلفح أذني ، قال : " يا منيف .. ياصديقي منيف .. لم أعد أطيق الصبر ، أكاد أغص بالأسرار ، التي أحملها ، إنها ثقيلة كالجبل ، علي أن أفرغ السر لك ، أنت الوحيد الذي يستحق أن أسر إليه بالحقيقة فأرتاح . أعطني أذنك ، وعبرها سأودع السر في بطنك ، لتتحمل بعضا من العبء . والصديق وقت الضيق . شجعته ، وطمأنته ، وتردد قائلا : " أخشى أن تشك بسلامة عقلي " ! كان يتلفت يمينا ويسارا ، وكأنه قد ضيع شيئا في الغرفة ، سألته عم يبحث ، لم يجبني ، نهض ، اتجه نحو النافذة ، أراح الستارة بمقدار يسمح له بالرؤية ، راح يستطلع من وراء الزجاج ، توقف ، أسدل الستارة ، أحكم إغلاقها ، بدأت أتوجس من تصرفاته الغريبة ، لأول مرة أشعر به كالممسوس ، وأن المسألة جدية تماما ، ليس الأمر مجرد كلام واغتياب وتسقط لأخبار أهل الحارة ، هذه المرة المسألة غير عادية ، وتستحق الاهتمام ، ولأول مرة أحسست بالفضول ينهشني من الداخل ، يدفعني بقوة خارقة لمعرفة السر الذي يود ياسين أن يطلقه من فمه ، ليخبئه في طبلة أذني ، مرورا إلى عقلي وذاكرتي ، ليس الأمر عاديا ؟ بدأ الشك ينمل جسمي ، يثير فيه حكة من نوع الجرب ، لم أعد أطيق الصبر ، أكاد أنفجر ، ياسين يجول من حولي ، يتنقل من الكرسي إلى النافذة ، يعود ، فيجلس ، يجلس ولكن ليس ساكنا ، بل يتحرك على الكرسي العتيق ، الكرسي يصرّ كلما جلس ياسين عليه ، وكأنه يتأوه ألما بسبب ثقله ، وأسلوبه الفظ في التعامل مع الكرسي المسكين . ووجدتني أشرد ، أستغرق فيما يحصل من حولي ، وفكرت به ، أي بياسين المسكين ، الذي يعاني حقا ، الآن أنا أعاني مثله تماما ، نفس المعاناة ، الفضول شيء ثقيل .. مرهق ، ولكن الأمر جدي .. وخطير .. واضح من تصرفاته الغريبة الجديدة ، لأول مرة يبدو على وجه ياسين القلق والخوف والتوتر ، لعله ارتكب حماقة ، أو أنه رأى منكرا ، منكرا لايستطيع الإفصاح عنه خوفا من عاقبة ما ، عاقبة تكاد تكون مؤكدة ، الانتقام مثلا ، أو شيء من هذا القبيل ؟ علي أن أعرف ؟ ويجب على ياسين أن يتكلم ، أن يسترسل بالكلام ، وينقل مابداخله عبر فمه العملاق ، الذي يكاد يتسع لرأسي كله ، أذني أيضا بدأت تلح عليّ ، بل تلح على ياسين ، بل تلح على فم ياسين العملاق المتسع كالمغارة ، تلح عليه أن يقذف مافي داخله ، أن يرمية مصوبا إلى صيوان أذني العملاق ، صيوان أذني الذا أخذ يكبر ويتسع .. ليتحول إلى مغارة عملاقة ، فاغرة تتسع لصوت ياسين الجاسوس .. المخبر .. الدون .. ياسين الذي يملك قدرات خارقة ، مثلي الآن ، الأن أنا مثله ، بل أصبحت مثله ، ولكن كيف ؟ ولماذا؟ الآن بدأت أفهمه ، أحس به ، أتعاطف معه ، ولكن أيضا ، وهو الأهم ، بدأت أخاف منه ، لأنه هذه المرة يختلف عن كل مرة سابقة ، كل شيء فيه مختلف ، شكله ، تصرفاته ، أداؤه ، نواياه ، نعم نواياه تثير الشك والريبة والتوجس ، لذلك يجب عليه أن يتكلم ويتكلم ويتكلم ، حتى أطلب منه السكوت ، ولكن ماذا لو لم يسكت ؟ ماذا لو لم يتوقف عن الكلام والثرثرة ؟ ماذا لو أغرقني بطوفان كلامه ؟ لابأس ، سأغامر ، لابد أن أغامر ، وأخوض المعركة ، أنا مرغم على خوض المعركة هذه المرة ، فلدى ياسين الآن شيء يخصني ، شيء سرقه من أعماقي ، وعلي أن أسترده سليما ، وعليه أن يتكلم ، ولاخيار له ، وإلا .. نعم ..وإلا .. التفت نحوه .. كان ساكنا كالتمثال ، مرعوبا كالأرنب ، جالسا على الكرسي العتيق ، متأملا ، محدقا بي ، مدهوشا ، استدركت واستجمعت نفسي ، واستغربت مايحصل . كان ياسين بدينا ، وقال : أنت تعرف كم أنا بدين . وأجبته بسؤال : وماعلاقة البدانة بالقصة ؟ أخذ نفسا عميقا ، واقترب مني ، وقرب فمه من صيوان أذني ، وهمس بالسر ، وكان همسه هادرا كالرعد ، وقهقت بصوت مرتفع ، وسد فمي براحة كفه ، كيلا ينتشر ويفوح ويعبر الجدران والغرفة والمنزل ، ولو خرج ربما يتسبب بمتاعب جمة لكل منا ، السر هو كما يدعي : أتدري يامنيف ، مع كل بدانتي ، أستطيع أن أعبر من خرم الإبرة ، مارأيك ؟ وهربت من فمي ضحكة .. بل سلسلة من الضحكات ، استنكرها بنظراته المعاتبة الرافضة لسخرية ضحكاتي مما تفوه به . سكت ، وتابع : " أقول لك الحقيقة ، أستطيع أن أتحول ، أن أدخل الشقوق وأعبر المسامات في الأبواب والنوافذ ، أتضاءل ، أصبح أرق من الهواء ، أصبح كالبخار ، وأدخل المنازل والبيوت ، أتلصص على أصحابها ، من ثقوب الأقفال ، من أي شق مهما كان صغيرا ، وأرى وأشاهد وأسجل ما أراه " وتابعته بشغف ، كنت أتخيل كل مايصفه لي ، وكأنني أمام شريط سينمائي خيالي ، كنت منجذبا إلى حديثه ، كالمنوم مغناطيسيا ، ثم فجأة خطر لي سؤال : - هل فعلتها معي .. ودخلت بيتي خلسة كما تدعي ؟ - نعم .. نعم .. ولهذا أثق بك ، وأفشي لك السر ، أنت الوحيد الذي اقتنعت به .. وثقت به ، من بين الجميع . هل عرفت الآن كيف كنت ألتقط أخبار الناس من حولي وحولك ؟ أحسست به وقد ارتاح ، بعد أن أفرغ حمولته من الأسرار ، ولكنني أحسست أيضا أنني أنوء أنا الآخر بحملها الثقيل ، وأتألم من ثقلها ووزنها . وقال : " الآن يمكننا شرب القهوة " وسألته مرة ثانية : هل فعلتها مع نفسك ؟ هل دخلت بيتك بالطريقة نفسها ؟ وأحسست بالصدمة ترتسم على وجهه ، ومع ذلك تركته ، مضيت إلى المطبخ ، أجرجر جسدي المنهك ، ونفسي المضطربة ، وروحي المشوشة ، وأحاور نفسي : هذا الرجل كان يحكي لي أشياء لايمكن أن يعرفها سوى أصحابها ، أشياء يمكن أن تحدث ، وأشياء لاتصدق . ومازلت مندهشا مما سمعت ، أيعقل هذا كله ؟ ياسين البدين يدخل من خرم الإبرة ؟ ! فارت القهوة ، وأطفأت النار من تحتها ، وأنا أفكر في خرم الإبرة ، وكيفية العبور منها ، تركت الركوة ، وتلمست النافذة المغلقة بإحكام ، ثم اتجهت نحو الباب ، أوصدته ، وحاولت أن أدخل من الشق الفاصل مابين الباب والأرض ، بدأ الشق يتسع ويتسع وأنا أنظر إليه بدهشة ، انحنيت ، وكبر الشق لدرجة أنني أستطيع عبوره بسهولة ، وجربت ، وعبرت الشق ، مع أني أحمل صينية القهوة ، ودخلت الغرفة ، التي أستقبل فيها صديقي ياسين ، وضعت الصينية ، وذهبت مفتشا عن إبرة ، ولم أعثر على إبرة لكي أجرب العبور من ثقبها الضئيل ، ثم تذكرت صديقي ياسين ، التفت حيث كان يجلس ، وينتظر القهوة ، ولكنني لم أجده ، كان قد اختفى ، مع أن كل النوافذ والأبواب كانت موصدة بإحكام ، هل تراه عبر من شق ما من الشقوق التي تتكاثر في كل مكان ، وتوجد في أصغر الأشياء ؟ ربما .. ربما .. ربما ..... ولكن سوف أجد إبرة ، وسأعبر من ثقبها إلى عالم آخر مليء بالأسرار والمشاهد المثيرة . الجمعة في 18/4/1997
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بوادر حرب عالمية
-
من عينيك : شعر نثري
-
حول البرنامج السياسي للمجلس الوطني السوري
-
من قصائد الثورة (8)
-
الدنس : شعر نثري
-
آية الحب : شعر نثري
-
الشغف: شعر نثري
-
سقوط الخط العروبي الشوفيني الشمولي
-
العثور: شعر نثري
-
من قصائد الثورة (7)
-
وفي عينيك موج الحب: شعر
-
النظام السوري: على نفسها جنت -براقش-
-
الحضور
-
الأنانية
-
الحمار والوردة
-
الأديب محسن يوسف في: التجاوز
-
الصوت والدمية : شعر
-
الثورة السورية المتخلقة
-
الثورة السورية : من يمثلها؟
-
الشاعر خضر الحمصي في :
المزيد.....
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|