|
من يصنع ذاكرة الشعوب؟
محمد عبد المجيد
صحفي/كاتب
(Mohammad Abdelmaguid)
الحوار المتمدن-العدد: 3549 - 2011 / 11 / 17 - 17:43
المحور:
حقوق الانسان
من الصناعات الثقيلة التي تمتلكها السلطــة والإعلام والقوىَ الخارجية والشركات متعددة الجنسيات ورجال الدين، فضلا عن قوىَ خفية تتحرك في الظـلام، وتهمس لانعاش حدث، ثم تــُسدل الستار مؤقتا على حدث آخر. في صناعة الذاكرة سباقٌ محموم بين قوىَ تريد أن تنعشه في ذهنك، وأخرى تبحث عن إهالة التراب عليه، وأنت حائر بين الاثنين: لا تعرف من يمسك السلسلة المعقودة حول رقبتك! تــُطيع، مثلا، حشودٌ جماهيرية يقدر عددها بمئات الآلاف دعوةً للخروج منددين بالدولة المدنية، ويبحثون عن هويتهم في الدستور، وعن منهجهم في مواده وليس المادة الثانية فقط، فتسري الدعوة بين الجماهيري المغيــَّبة وتمسح في طريقها عشرات الأشياء الأخرى المهمة والعاجلة جداً والتي لا تحتمل تأجيلا، وعلى رأسها الانتهاء من محاكمة الرجل الذي آذاهم، وقتل من اخوانهم المئات، وأمر بالاغتصاب وانتهاك كرامتهم، ودفع لأقبية السجون منهم أعداداً غير معروفة في عالم النسيان. تنسى، مثلا، العبــّارة وحريق مسرح بني سويف ومصرع 33 خبيرا عسكريا مصريا ومئات من الحوادث المفجعة، لكن الإعلام يعيد حدثاً قديما، ثم يلقي به إلى السطــح فيطفو، ولا ترى الجماهيرُ غيره فتتمسك به، فهو الشيء الوحيد المسيطر، مؤقتا على الذاكرة، وتلعب القوى الخفية لعبتها الساحرة، فتخفي ثعباناً في صدرك، وتخرج لك حمامة تطير أمامك! يصغر الحدث الأكبر، ومصارف الدنيا تلطم وجهها فالمصريون غير معنيين باسترداد أموال لو عادت إليهم لوضعت حلولا فورية لنصف أزماتهم الاقتصادية، وينام الجوعى على بطون خاوية فيحلمون بأموالهم المنهوبة تــُخرج لهم لسانــًها، فإذا استيقظوا شغلتهم السلطــة والإعلام بقضايا أخرى. في الأيام الأولى للثورة المجيدة كانت صور الشهداء الصغار تطارد أعيننا الدامعة عليهم، فينتفض الجهاز العصبي مثيرا رغبة التمرد والتظاهر والاعتصام، لكن صانعي الذاكرة يخفونها رويدا .. رويدا وراء ظــهورهم، وبعد أقل من عام لا يستطيع أيٌّ مــِنــّا، باستثناء الأقارب والأصدقاء، استدعاء صور الشهداء الشباب لعلنا نقوم بشحن أفئدتنا بمشاعر الحزن والغضب والأسف و .. الرغبة في القصاص لهم من قاتليهم. القوى الكبرى التي تزعم أنها مناهضة، وقد حصلت على الثمن مسبقا، لا تنسى أن في اللعبة قواعد وأصولا ينبغي احترامها، فتعلن أن نزولها المظاهرات لا يعني قبولها الاعتصام، فهي ساعات قليلة يجب أن يتحملها المجلس العسكري والحكومة والشرطــة والجيش فهي ستعود إلى مكاتبها بعد صلاة العشاء لتمارس الدور المطلوب منها. صورة الطاغية المخلوع تتلون، فتكون فاتحة تارة، وغامقة تارة أخرى، يضعون لها رتوشاً فيبدو كأنه حقا في السجن أو في مستشفى مزرعة طره، ثم يعيدون رسم الصورة فيبدو كأنه مخلوع برغبته، ومخدوع بحساباته، لكنه يتحكم من فراشه كما كان يتحكم من منتجعه، فيتبادل السجن والمنتجع الأدوار لكي تظل ذاكرة المصريين بين اصبعين من أصابع الطاغية مخلوعا أو .. غير مخلوع. المواطن لا يبحث عن الحدث ليعيد استخراجه بقوة إيمانه وحبه لوطنه، لكنه يترك الكبار يعبثون في جمجمته، فيتبادلون الأدوار في وضع اهتمامات المواطن وهو مستكين إليهم كما يفرش المريض الفقير جسده أمام جزاري الطب وهم يسرقون من أعضائه تحت التخدير ما تحتاج إليه أجسام أسيادنا. أهم أربعة أحدث تهز الكون كله لو تم عرضها على محكمة الضمير الدولي، لو كان لها وجود: أموال شعب فقير تنتظر في الخارج سلطــة الشعب تطالب باستردادها. جبال من القمامة تغطــي شوارع وأزقة وحواري وطرق أم الدنيا، وتنذر بطاعون وكوليرا وملاريا وأمراض أخرى تفتك بربع أو خــُمس سكان الوطن المسكين. قاتل ومجرم وجبان وطاغية وسفاك للدماء والأب الروحي لكل لصوص مصر تحميه السلطتان التنفيذية والقضائية، وتؤجل في صدور الحـُكم، وتترك كل رجاله وكلابه لمدة عام بعد نجاح الثورة. والأمر الرابع انفلات أمني متعمد، وعشرات الآلاف من القتلة واللصوص والبلطجية والمسجلين كأخطر أصحاب السوابق، تعرفهم الحكومة والمجلس والأمن والجيش والشعب، يثيرون الفزع، ويروعون الآمنين، ويغتصبون أمة صامتة على من تركهم يرتعون، ويحيلون حياة المواطن إلى جحيم. تلك أربع كوارث لو تحولت السماء والأرض ومن فيهن إلى ضمير يحكم على الصامتين عليهم لما بقيت للمصريين حجة واحدة للمكوث في بيوتهم منتظرين كلمة السماء التي سمعوها عشرات المرات ووضعوا أصابعهم في آذانهم. أربع كوارث تصغر بجانبها كل مصائب الوطن، ومنها الانتخابات والمظاهرات والأوزمات الاقتصادية والفقر ومياه النيل وقناة السويس والسياحة والتعليم وغيرها. أربع كوارث لو لمست ضمائر حية لايقظتها أو سحقتها، ومع ذلك فذاكرتنا بين أيدي كبارنا، فيحددون لنا مع كل صباح كان يمكن أن يشرق ويكون جميلا على أصحاب أطــهر ثورات مصر في كل عصورها، ماذا نفعل، ولماذا نتظاهر، وما هي أولوياتنا؟ كيف تقنع القرد ميمون بأنه لا يضحك على المتفرجين، إنما يحصل صاحبه على ثمن اضحاكهم عليه؟ كيف نتحرر من قيود العابثين بذاكرتنا، والمحددين أولوياتنا، والذين يخفون وراء ظــهورهم همومنا الحقيقية، وفواجعنا القاتلة، وأمراضنا الوبائية؟ كيف نعرف الأهم .. فالمهم؟ إذا عرفنا فربما نضع أقدامنا على الطريق الصحيح!
محمد عبد المجيد طائر الشمال أوسلو في 17 نوفمبر 2011 [email protected]
#محمد_عبد_المجيد (هاشتاغ)
Mohammad_Abdelmaguid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تحاول أن تفهم المشهد المصري!
-
الثورة بين مصيدة المليونية و .. عبقرية الاعتصام!
-
رسالة مفتوحة إلى المشير طنطاوي!
-
الانتخابات التشريعية ثورة مضادة
-
محاولة لفهم وحشية الليبيين!
-
رسالة مفتوحة من الرئيس غير المخلوع
-
مقتل الأسد .. أقصد عبد الله صالح .. أعني القذافي!
-
الإصلاح يبدأ من نزع القداسة
-
لماذا لا نتخلص من الأقباط و .. نستريح؟
-
أفكار في استرجاع ثورة مسروقة
-
الحمد لله .. كان كابوساً!
-
لماذا لا نرقص فوق جثث السوريين؟
-
رسالة مفتوحة إلى المستشار أحمد رفعت
-
أيها العراقيون: انتفضوا، يرحمكم الله!
-
المطالب العادلة لتجديد الثورة في 9 سبتمبر 2011
-
أيها السوريون: دعوني أقَبِّل رؤوسَكُم
-
حوار بين علماني و .. سلفي!
-
أيها الجزائريون .. انتفضوا يرحمكم الله!
-
نهاية الطاغية البلياتشو
-
26 أغسطس .. جمعة تحرير سورية من أنياب الأسد
المزيد.....
-
الأمم المتحدة: الدعم السريع احتجزت شاحنات إغاثة في دارفور
-
RT ترصد خروج الأسرى من معتقلات إسرائيل
-
جماعة حقوقية في بنغلاديش تتهم الحكومة بالفشل في حماية الأقلي
...
-
وسط تواجد مكثف للجيش الإسرائيلي.. لحظة وصول الدفعة الثالثة م
...
-
-القسام- تبث مشاهد تسليم الدفعة الثالثة من الأسرى الإسرائيلي
...
-
الأمم المتحدة: الدعم السريع احتجزت شاحنات إغاثة في دارفور
-
مبعوث ترامب: صفقة الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة يتقدمان بشك
...
-
وصول 9 معتقلين أفرج عنهم الاحتلال إلى قطاع غزة
-
نتنياهو يطالب الوسطاء بضمان سلامة الأسرى
-
أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين.. ماذا تغيّر في غياب محمد فلنة؟
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|