|
الرجيمة : قصة قصيرة
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3536 - 2011 / 11 / 4 - 09:11
المحور:
الادب والفن
لم تتوقع ماحدث . التيار ينعكس . شيء مذهل ! غريب ! الأشياء .. الناس تفقد ماهيتها المألوفة . لقد فات الأوان ، والتنفيذ سيجري بصورة فظيعة .. وحشية .. شيء لايصدق .. كانوا ينتظرون القرار بفارغ الصبر ، ولكن الأمر المصرح به كان ملتبسا ، يحتمل التأويل ، وبالتالي يمنح المتربصين هامشا من الحرية ، عسى يتأملون ، يمتنعون عن الغدر والخيانة والقتل رجما ! إنها فرصة للاختيار بين الملائكة والشياطين ، بين الموت حبا والعيش كرها .. كان الأمر موحيا ، فيه الكثير من التخيير ، والتخيير يعني المسؤولية ، سيتحملون المسؤولية ، فلنر ماسيقررون ويفعلون ( هكذا كان السيد يفكر ويستشرف ) ، ولكنه لم يثق بهم ، ولا بحسن تدبيرهم وقرارهم ، ومع ذلك لابد أن تسير الأمور وفقا لناموسها الطبيعي ، وفي ذلك حكمة .. كل الحكمة .. لننتظر ونر المآل الحزين .. أو المآل ال..... صاحب الصوت الآمر فوجئ – كما سنرى بالتنفيذ العكسي لإرادته ورغبته ، جرى التنفيذ عكس مقصده وتمنياته ، لقد فهموه بطريقة خاطئة ، أو على الأغلب تعمدوا هذا ، وتظاهروا بعدم الفهم والتقاط الرسالة . صاحب الصوت الآمر كان يتمنى ويتوقع نتائج مختلفة تماما ، وكانت عباراته توحي بالرحمة والشفقة والتسامح ، كان يدرك مغزى ألفاظه وكلماته الغنية بالإشارات المشعة ، أتراه يدفعهم دون قصد إلى حيث لايرغب ؟ أم ثمة حكمة ؟ أم أنه هو الآخر يخطئ النبوءة ، ويفقد فرصة إصلاح ما أفسده بأوامره الملتبسة ؟ وأين يكمن الالتباس ؟ بكلماته أم بهم ؟ أم بوضع ثقته فيمن لايستحقها ؟ كان يتوقع من الجمهور أن يلتقطوا إرادته المتخفية في عباراته ، ولكنهم لم يفعلوا . كان يتوقع أن يحرجهم ويدفعهم للاعتراف والندم وتبكيت الضمير ، والعودة إلى جادة الصواب ، ولكنهم لم يفعلوا ، ولم يتعظوا من الأخطاء . الآمر السيد الجميل صوته .. عباراته لاتنفعه الآن ، لأن العاصفة بدأت ، والصوت يضيع هباء في زحمة الصخب والصراخ والضوضاء .. صوته القوي أصبح ضعيفا .. يكاد لايسمع وسط هدير الحقد الأعمى الممزوج بالشتائم المقززة .. تشتت الصوت وسط جلبة الجمهور ، وكان السيد يحس بالخبث والدهاء لديهم ، إنهم يخدعونه كعادتهم ، ولايرعوون ، فمن " ختم على قلوبهم ؟" فجعلهم هكذا ، لماذا ؟ واستنتج السيد أنهم مصرون على غيهم ونفاقهم ، أرادوا إيهامه ببراءتهم ، هاهم يفعلون ، يقدمون " القربان " ، الذي ألبسوه خطاياهم ، ولفقوا الحكاية بطريقتهم ، إنهم يدفعون التهمة عن أنفسهم ، إنهم مصرون على الرؤية من زاويتهم الخاطئة ، لايستطيعون تمييز الخطيئة من عدمها ، الصورة مقلوبة في أعينهم الضيقة ، يعجزون عن التخلص من الأوهام ، ورؤية قلوبهم . وهم يقدمون على قتل مافي أنفسهم من الحب والحياة والكرامة ، وإرادة التحدي ، أغبياء وجبناء .... صاحب الصوت الآمر ، السيد الجميل ، صاحب القلب الأبيض .. يبكي بصوت مرتفع حزينا متألما ، " هاهو يخطئ مثله مثل هؤلاء الشياطين الطغاة ، فما الذي يميزه عنهم ؟ " لقد تسبب السيد بالجريمة الشنعاء ، هاهم يقترفونها أمام ناظريه ، وهو عاجز عن الوقوف في وجه الناموس ، عاجز عن إنقاذ الضحية البريئة المتورطة بلاذنب . وشعر السيد أنه هو أيضا متورط فيما لم يخطط له ولايريده ولم يخطر بباله قط . أحس بنفسه ضعيفا كناموسة أمام حشد من الجزارين ، الذي ساروا على غير ما أراد ، عن وعي أو جهل .. لافرق ... إنه الناموس ، فمن يقدر أن يقف في وجه الناموس ؟ كل من حوله يفهمونه على غير مايبغي ، فهموه كما رغبوا هم وبما يتناسب مع مصالحهم وغرائزهم الوحشية . . التي كان يدعو إلى التحكم بها والسيطرة عليها ، وعدم الاستسلام لمنطقها الأرعن ، ولكنهم لم يفعلو . كانوا يتربصون ، لقد عقدوا النية والعزم ، وكان على السيد أن ينطق بما يمكن أن يحول مجرى الجريمة ، واكتشف متأخرا أنه أخطأ التعبير ، وأنه كان عليه أن يكون صريحا ودقيقا تماما ، كيلا يتيح المجال للتأويل والتزوير . هاهو يتعرض للخداع ، ويقع في مصيدة المؤامرة ، والجريمة ترتكب أما ناظريه ، تستفحل ، تتسع ، ولايمكن إيقافها .. استمر بكاء صاحب الصوت الآمر متصاعدا داخل الجلبة الهائلة للقطيع المتوحش ، ومع هذا تمكن من سماع موسيقى ضحكاتها الطاغية على زوبعة الصخب المجنون ، دخلت الضحكات سمعه بشدة متزايدة ، وانتشرت في كيانه وردا وشجرا وطيورا جميلة ، وعزف النهار في قلبه أناشيد الحب المضيء ، والتمعت عيناه بطمأنينة لايدري سببا لها ، ثمة أمل يدغدغ أعماقه ، ابتسم .. وتساءل : " هل ستهزم المؤامرة ؟ الحقيقة أقوى من أي مؤامرة ، وحدس بمعجزة من نوع ما .. معجزة تسفر عنها وقائع العدوان الآثم . كانوا يتحلقون حولها آلافا من الأفاعي والعقارب العملاقة ، وكانت تقف في الوسط كشجرة أسطورية مزهرة .. متلألئة ، كانت تبتسم .. وكانت عيناها تلتمعان بالحب ، وترسمان حلما آخر .. عالما آخر يسير على قدمية ، وليس على رأسه ، كانت تفوح وتبوح وتسطع ، تلك هي جريمتها النكراء , ولم تكترث بالكابوس المحيق بها .... لاحضت الكائنات التي تضرب حولها حلقة مغلقة ، بدت أزياؤهم مختلفة هذه المرة ، وأحست برغباتهم المتأججة لامتلاك شذاها ورحيقها السكري العسلي ، لم تستطع يوما أن تبخل أو تحجم عن العطاء ، فذلك ليس من طبعها وشرعتها ، التي هي فحوى وجودها ، إنها تستمتع بالعطاء كما يستمتعون هم بالأخذ . ولايستطيعون أن يغيروا أو يبدلوا أو يتبادلوا الأدوار ، إنه الناموس .. الناموس الذي لايمحي إلا بناموس آخر ، ليكن ، تلك وظيفتها إذن ، وتلك وظيفتهم إذن ، وهاهي الوظيفتان تتصارعان ، فكيف ستكون النهاية ؟ كيف يجرؤون ويكافئونها هكذا ، هل تحولت قلوبهم إلى حجارة؟ لماذا يجحدون نعمها ، ويلوثون الإناء الذي منه يرتشفون الحياة ؟ لماذا يصرون على اتهامها ؟ بما لايمكن أن يكون تهمة ، بما لايمكن أن يكون إثما ، إنهم يتهمونها بوقاحة بما هو فيهم ، وبما هو الحق ! يعتبرون عطاءها جريمة ! يدينون سلوكها السخي ، يتأهبون لرجمها بقذاراتهم ! متحمسون لإعدامها وإفنائها كليا ، يفعلون مايفعلون كقطيع من الغيلان .. الشر يوحدهم ، هاهم يتحفزون لمعاقبتها .. لإعدامها ، هاهم يخرجون من جلودهم ، يتخلون عن دمائهم ظنا منهم بأنهم يغسلون ذنوبهم ، وأي ذنوب؟ ! هاهم يخونون رؤوسهم ! ينتزعون قلوبهم السوداء المتحجرة .. الميتة ! تحولوا إلى ديناصورات .. شرسة جائعة ، هكذا بدأت الرجيمة تحس ، " لأول مرة أحس بهم ينظرون إلي كنعجة للذبح ، كوليمة أخيرة ، إنها إذن مأدبة الذئاب ، التي تتربص بي ، تتحفز لاقتناصي ، ونهش لحمي ، وتمزيقه بأنيابهم القاسية ، يتربصون لشرب دمي المسفوك ولعقه ، لطحن عظامي الطرية بأسنانهم الفولاذية ، ولكن كيف ؟ ولماذا؟ لماذا توحشوا ؟ ليكن .. ولتكن المعركة الفاصلة بيني وبينهم إذن : معركة بين العطاء والأخذ ، بين الطهارة والدنس الحقيقي المسيطر عليهم ، معركة بين الضوء والظلمة ، بين الحياة والموت ، لن أتخلى عن سلاحي ، إنه الحب .. سلاحي هو الحب والحب والحب ..." . إنهم هم وحدهم البؤساء التعساء الذين لايفقهون معنى الحرية والسعادة ولذة الحقيقة الحية ، حقيقة السخاء والخصب والإثمار ، والتفجر كينبوع ، والشموخ كشجرة عملاقة مزهرة ، واقفه في وسط الشر كل شيء ينذر بالذبح ، عيونهم اصطبغت باللون الأحمر ، أفواههم فاغرة ، أيديهم تحمل أشياء .. تعرفها ، وتعرف سبب حملها . جالت ببصرها فيما حولها ، أمعنت النظر في وجوههم ، كأنما تقرأها ، حملقت في وجوههم بتحد وجرأة وشجاعة ، فذعروا .. ترددوا .. قلقوا .. وحدها ظلت تبتسم ، كانوا يرتجفون ، ينتظرون قدوم السيد الجميل ذي القلب الأبيض ، ليطلق صوته الآمر ، ويعلن البدء ، وساعة الصفر ، للتخلص منها ، كانوا ينظرون إليها كرمز لحقارتهم وانحطاطهم ودونيتهم ، إنها القربان الذي يلتمسون بموته خلاصهم .. وطمس آثامهم ، كانت تقف في الوسط كشجرة من الضوء المزهر ، لم تطلب الرحمة ولا الغفران " هم من يجب عليهم أن يطلبوا الغفران منها .. هز المذنبون الخاسرون الآثمون " أما هي فليست كذلك ، ولن تكون سوى النقيض – الضد لخطاياهم ، إنها مرآتهم التي طالما عكست وجوههم .. كفرهم .. جحودهم وأنانيتهم ، هي بريئة براءة الماء والهواء والثلج وسوف تظل كذلك أبدا . صمت القوم فجأة ، ذابت الضجة والهرج والمرج ، وقفوا وكأن على رؤوسهم الطير ، تجمدت وتخشبت الألسن ، كل شيء ساكن .. ثابت .. جامد كالموت ! وبدا القوم كرهط من التماثيل الحجرية الباردة ، العيون الشفاه .. الأعضاء كلها والكائنات كلها توقفت عن الحركة ، الحياة أيضا توقفت عن الحركة ...صمت مطبق ، مترقب : إنه السيد .. السيد الجميل .. حامل الخطايا .. خطاياهم لينقذهم ويخلصهم من الحضيض الجحيمي ، هاهو قادم .. هاهو ينبثق كالفجر الساطع المبهر .. لقد انتظروه طويلا .. وبلهفة جامحة يتلهفون لسماع كلمته الحاسمة ، أوليس هو القاضي ؟ الحكم المعصوم ؟ الذي لامرد لقراره وأوامره ؟ الصمت يصغي .. يتشوق لسماع الأمر القاتل ، لسماع القرار المرتجى الذي سيحدد النتيجة ، النتيجة التي يعرفونها مسبقا ، ويتوقعونها ، إنها تحصيل حاصل ، هكذا هو الناموس كما يبدو في مراياهم ، ولم يخطر ببالهم السؤال: من سيهزم من ؟ العطاء أم الأخذ ؟ وماهي الطهارة الحقيقية ؟ أهي في ا لروح أم في الجسد ؟ وأين تكمن المعصية ؟ بالذل ؟ أم بالكرامة ؟ بالكراهية ؟ أم بالحب ؟ انشد الحشد .. حشد المخلوقات والتفت إلى السيد العظيم ، المحلق كطائر الشمس المهيب الجليل ..وكأنما انشدت عيونهم إليه بحبال متينة ، تركزت نظراتهم على عينيه الحزينتين المتألمتين .. وعلى شفتيه وثغره : إنهم ينتظرون القرار ؟! القرار وينتهي كل شيء بالنسبة لهم ، متلهفون للخلاص منها .. دفاعا عن أنفسهم منها ، كانوا يكرهونها ، إنها الشاهد الأكبر ، الذي معه أرشيف خطاياهم كما يتوهمون ، ولم يستطيعوا يوما أن يفهموا مفرداتها .. لغتها .. أبجدياتها المختلفة والمخالفة لمنطقهم الشقي البائس ، كان وجودها خطر عليهم .. لأنها الشاهد الأعظم ضدهم ، فإن لم يتخلصوا منها ، فسيظلون مهددين بالانكشاف والفضيحة ، ودفع الثمن ، وكان السيد يدرك أنهم يخدعونه ويخونونه ويكرهون تعاليمه ولا يفهمونها إلا حسب مراياهم الشقية ا لبائسة والغبية .. كل شيء له عندهم دلالات معكوسة تماما ، كان الناموس مقلوبا في أعينهم العمياء . الآن ستخلصون منها .. وعن طريق السيد ! يريدون أن يورطوا السيد ، أن يشركوه في الجريمة النكراء ، فلا يستطيع أن يتنصل من العاقبة والنتائج مهما كانت .... كانت الرجيمة تقف وسط القوم الضال تماما ، في البقعة المشؤومة المخصصة للرجم ، في المركز تماما ، إنه مركز الخطيئة الذي سيصبح مقاما يحج إليه المؤمنون العارفون . كانو يتحلقون حولها كسوار من الثعابين ، على مقربة منها ، ينتظرون الساعة ، وكانت نظرات الرجيمة تعانق نظرات السيد النور العظيم ، وعيونهما تتحاور بصمت بليغ .. بدفء وحنان وحب ، كانا يتبادلان الابتسامات الواثقة العاشقة بوله ، وكان السيد يرثي لحال ذلك الحشد من السفلة والأوباش الذين فقدوا عقولهم وآدميتهم وكراماتهم ، وغرقوا في الخطايا التي يحبونها ويكرهونها في آن واحد . كان السيد يشفق على ضعفهم واستسلامهم لطبائعهم العمياء المنحرفة ، وغياب إرادتهم الحقيقية ، أراد أن ينقذهم ويريحهم ، قدم لهم فرصة نادرة للاعتراف والعودة إلى الرشد ، السيد يدرك أهمية الاعتراف في تطهير وإراحة الذات المأزومة ، الذات الممزقة التي يسكنها خوف واهم ، من الصورة المقلوبة للأشياء التي يرونها ويعتقدونها وماهي سوى أوهام وأكاذيب وأضاليل ، الاعتراف نوع من تفريغ النفس من الشرور والضلال والأوهام والكراهية والعدوانية . كان السيد حكيما .. رحيما .. مسالما .. أراد أن يهبهم فرصة للتخفيف من مسؤوليتهم وانصياعهم لصراخ الخطايا الملح الذي لايقاوم ، كانوا يدركون أهدافه بشكل مشوه وخاطئ ، يقولونه مالم ولن يقول ، يفسرون ويأولون على هواهم ، ولم تكن الأشياء كما تراها عيونهم الضالة . كانت الكائنات من حول الرجيمة تتوجس من السيد ، ومن نواياه .. ومن عزمه الإيقاع بهم ، لن يعترفوا ، لأن الاعتراف خديعة كبرى ، إنها سيد الأدلة ضد المجرم ، فكيف ولماذا يعترفون ؟ هكذا كانوا يفكرون ويحللون ويحسبون ألف حساب ، وكل حساباتهم تؤدي إلى نفس النتيجة : رفض الاعتراف ، وحتى يحصل هذا لايسعهم أن يسامحوا الرجيمة ، كيلا يدينون أنفسهم ، والنفس غالية ، و" ياروح .. مابعدك روح " ، أنا وحسب .. أنا ومن بعدي الطوفان " ذلك هو المبدأ والبوصلة التي يهتدون بها ويتلمسون طريقهم نحو النجاة بأنفسهم ، الرجيمة يجب أن ترجم وتموت معها الأدلة والبينات كلها ، الشهادات كلها ، يجب طمس الأدلة والثبوت وطي ملف الجريمة ، وتسجيلها ضد مجهول ؟! وجود الرجيمة هو الخطر بعينه ، هو الخطر الداهم والدائم ، إنه كابوس ينغص عيشتهم الكريهة غير الآمنة ولا المطمئنة . لابد من الرجم .. لابد من الرجم ، ذلك هو الطريق الآمن للهروب الكبير من الاستحقاق الأعظم ، نعم ، لابد من تضليل الله في عرشه ، ليدخلوا الجنة ، إنهم لايستطيعون دخولها خلسة ، ولاعنوة كما يتوهمون ، فالله بالمرصاد . كانت الرجيمة تبتسم وسط القوم الهائج ، كانت تتذكر حديثها مع السيد قالت : أيها السيد .. لماذا خلقت الخطيئة ؟ أجاب : أنا؟ أنا .. هل تصدقين هذا الكلام الفارغ ؟ ردت: إذن من ؟ أهو الشيطان ؟ أجاب : الشيطان ؟ ومن هو الشيطان ؟ لم أسمع به من قبل .. ربما الناس هم الذين صنعوه واتبعوه وحاربوني به ، أنا لم أخلق الخطيئة علقت : ومن أين أتت الخطايا ؟ السيد : ومن قال إنها خطايا ؟ الناس؟ أغبياء ، ومتى كان الخير من الخطايا ؟ متى كان الخلق الجميل من الخطايا ؟ تبا لهم ، يسمون الأشياء بغير مسمياتها ، ويلصقون بي تهمة خلق تلك الأسماء المضللة . عقولهم هي الخاطئة .. وبصرهم حسير وبصيرتهم عمياء ، هم من يفهمونني بشكل خاطئ ، ماذنبي ؟ أنهم يقرأونني ويفسرون كلماتي كما يحلو لهم ، وضحل السيد .. وقهقه السيد بمرارة ، وسألته عن السبب ، وأجاب : فكرت للحظة وتساءلت من يتعلم من من ؟ من خلق من ؟ ولماذا ؟ لماذا كل هذا العذاب المتواصل مع الخلق الجاحد ، شيء ممل .. مقرف ، مثير للحنق حاولت الرجيمة تهدئته : " لابأس عليك أيها السيد الجميل النبيل ..دع الأمور تأخذ مجراها الطبيعي .. أرح نفسك ، وخذ إجازة من الحكم والتحكيم . أنت تتعذب . وأجابها السيد وكأنه يتحدث مع نفسه : " أتعرفين ؟ أحس أن على أم أحمل كل عذابات وخطايا هؤلاء ، لأكفر عن ذنبي ودوري وتسببي في وجودهم ، أود أن أصلب وأصلب وأصلب ، عسى أن يرتاحوا وأرتاح !؟ وصاحت : بعد الشر عنك أيها السيد العالي الكلي ؟ اطمئن لن يكون الأمر في النهاية إلا كما تحب وتريد ، وقال السيد : " الأغبياء .. لايفهمون مقاصدي وسري وكنهي .. ولكن لابد أن أواصل حتى أحقق الظفر الأغر . " وهتف السيد بالقوم الضالين ، وصاح بأعلى صوته الصافي القوي : من كان منكن بلا .... خطيئة .. فليرجمها بحجر . وقبل أن يكمل السيد عبارته كان الجمهور قد سبقه وانهال بالحجارة على الرجيمة التي تقف في المركز المخصص للرجم ، لقد بادروا ، وأفعالهم سبقت أقوال السيد وقراره وحكمه ، خافوا أن يتردد ويتراجع ويمتنع عن إصدار الحكم ، الحكم الذي لم يكن حكمه بل حكمهم المسبق هم ، هم من قرر وأطلق الحكم ، هم من أراد أن يفهم الأمر الصادر هكذا ، مع أنه أي الأمر كان يتضمن الإيحاء بالامتناع عن تنفيذ الأمر بالرجم والإعدام بالرجم . ولكنهم كانوا يرفضون ذلك التفسيربعناد وفجور . كان صوت السيد يدوي .. يجلجل كالرعد : " من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر .. وكان الصدى لايكف عن ترداد عبارته وصوته الصاعق ، وكانت الحجارة تنهال من كل حدب وصوب على الرجيمة ، وكانت الرجيمة تلتمع كالبرق الخاطف الباهر . كانت الحجارة تنهمر كوابل من المطر ، وكانت الرجيمة تبتسم ، وكانت ابتسامتها كالبرق الخاطف الآسر ، وكان السيد يبكي كطفل ، كان يتألم ، كان يحس ببعض العجز والقهر .. لقد خانوه .. لقد خانوها ، غدروا بها وبه معا كعادتهم وديدنهم ، لاأمل يرجى من إصلاحهم ؟ يالهم من كائنات مشوهة ، غير قابلة للحب والعطاء ، لاتعرف نكهة الحياة ، كائنات من الجحيم .. من الحضيض الأسفل الملوث المخنوق .. كان السيد يفكر ، وكانت الرجيمة تفكر ، وحدث التخاطر فيما بينهما ، وكانت الاحجار لاتكف عن السقوط والانهمار حتى تشكل جبل من الحجارة طمر الرجيمة تماما ، وحجبها عن القوم الضالين ، ولكنه لم يحجبها عن عيني السيد الباكيتين وفجأة سكن كل شيء ، ساد صمت يشبه صمت القبور ، صمت مريع ومريب .وعاد القوم ليتحول إلى أصنام وتماثيل حجرية باردة ، كانت الدهشة ترتسم على وجوههم ، والرعب يملأ قلوبهم . كانت الأحجار تتحول إلى ورود جميلة ، وأخذت الينابيع تتفجر من بين أكوام الحجارة .. تنفر بغزارة وعنفوان وألق .. هناك في المركز حيث كانت الرجيمة تقف تماما ، حدثت المعجزة ، المكان تحول إلى جنة فيحاء ، الماء يدفع الحجارة بقوة هائلة بعيدا عن الرجيمة التي تحولت إلى شجرة عملاقة مزهرة وسط فردوس مذهل .. لايزال الناس يجهلون الطريق إليه .
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسد : السكرة والفكرة
-
رحلة ماجلان : شعر
-
عن الأديب حسن حميد
-
العائم: قصة تشكيلية
-
مها عون : مغامرة الإبدع والتشكيل l
-
سوريا : السلطة اللاسياسية
-
فرح نادر: بين غيبوبة العاطفة وصحوة العقل
-
من قصائد الثورة : (6)
-
مساهمة نقدية
-
الشبح : شعر
-
عن المؤسسة الزوجية
-
من قصائد الثورة (5)
-
من قصئد الثورة (4)
-
ذلك اليوم الجميل: شعر
-
من قصائد الثورة : شعر
-
من قصائد الثورة (2) : شعر
-
من قصائد الثورة (1)
-
رحلة جليفر الجديدة : قصة قصيرة
-
أنور سالم سلوم
-
الروائي والناقد نبيل سليمان في:
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|