أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - قُرُنْفُلةٌ بيضاءْ قصة قصيرة














المزيد.....

قُرُنْفُلةٌ بيضاءْ قصة قصيرة


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 3525 - 2011 / 10 / 24 - 16:57
المحور: الادب والفن
    


رأيتُ الرّجُلَ يمشي تائهاً، كأنَّ قوَّةً مجهولةً تَسْحَبُهُ إلى مكانٍ مجهولْ، ثلاثُ سنواتٍ وأنا أراهُ كلَّ صباحٍ أثناءَ مشواريَ اليوميِّ إلى العملْ [لا أعرِفُ إن كانت لديهِ نفس الطقوس في أيامِ الإجازاتِ والأعياد]، لم ينقَطِعْ عن عادَتِهِ هذهِ وملحقاتِها، وردةُ قُرُنْفُلٍ بيضاء في يدِهِ، وسيجارة مشتعِلة في يدِهِ الأخرى، ويعودُ دائماً عندَ عودَتي من العملْ، وفي يدِهِ سيجارة مشتعلة أيضاً وتكونُ الوردةُ قد اختَفَتْ.

كنتُ أتساءلُ أحياناً عن المكانِ الذي يذهبُ إليهِِ، ولكنَّ الأحداثَ غالباً ما كانتْ تأخذُني فأنساهُ هو وتساؤلاتي عنهُ، فقدْ كانَ الحيُّ كلُّهُ يعرِفُ أنّهُ يملُكُ بضعَ محلاّتٍ ورِثَهَا عن أبيه، ويؤجِّرُها بمبالغَ عالية، لذا فهوَ لم يكُنْ يعملْ، فقطْ، يعيشُ من إيجارِ المحلاتِ في بيتِهِ الصغيرْ ذي الحديقةِ المزروعةِ كلِّها بالقُرُنفُلِ الأبيَضْ، وعدا ذلك، لم يكن أحد يعرفُ عنهُ الكثيرْ، فهو لا يُكلِّمُ أحداً إلاّ نادِراً، ويجيبُ إجاباتٍ مقتََضَبَةٍ تدعو مُحَدِّثَهُ إلى الاختصارْ.

وحْدَها الصُّدفَةُ أخرَجَتني ذاتَ يومٍ من مَكتَبيْ، حينَ ماتَ والِدُ إحدى زميلاتي في العملْ، كانَتْ مُنْهارةً، وطَلَبَتْ منّي أن أرافِقَها إلى المقبرةِ لتقرأَ الفاتِحةَ على روحِ والِدِها الذي دُفِنَ قبلَ أيّامٍ ولم تشارِكْ هيَ في طقوسِ دَفنِهِ، وتحتَ ضغطِ معزّتي لها، والأكثر تحتَ ضَغطِ انهيارِها، وافقتُ، فصعَدْتُ في سيّارَتِها واقتَرَحتُ عليها أن أقودَ أنا السيارةَ نظراً لحالَتِها، فوافَقَتْ دونَ كلماتْ، وبعدَ دقائق كنّا أمامَ قبرِ والِدِها، قرأنا له الفاتِحةَ، فأحسستُ بعدَها أنها تحتاجُ أن تبقى معه وحيدةً، فأخذتُ أتمشى في المقبرةِ إلى أن تنتهي من طقوسِها.

غريبةٌ هي المقابِر، حينَ تنظُرُ إليها وأنتَ غير مشغولٍ بدَفنِ أحدْ، تُنْبؤكَ بآلاف الأشياء، المقابرُ عالمٌ كامِلٌ من الحكايات التي تبدو صامتَةً، وهي تقولُ كلَّ شيء، وفيما كانت الخواطرُ تتنازعُ في رأسي، لمحتُ قبراً غريباً بلونٍ بنفسجيٍّ فاتِحٍ مما جَعَلَهُ يتميَّزُ من بعيدْ، والذي ساهمَ في تميُّزِهِ، كان القرنفلَ الأبيض الذي يغطي معظمَ سطحِه، مئاتُ القُرُنفُلاتِ يتراوحُ لونَها بينَ الأبيضِ والأصفَر، كانَ واضحاً أن كلَّ وردةٍ هي أقدَمُ من أختِها بزمنٍ محدد، لأنّ التدرُّجَ الذي يُحدِثُهُ الوقتُ في اللونِ بدا منسجماً إلى حدٍّ لا يُصَدَّقْ، وكانَ ذلكَ الجار الغريب يمسِكُ في يدِهِ كِتاباً ويقرأُ بصوتٍ منخفِضٍ جوارَ القبرِ، ظننتُهُ في البدايةِ قرآناً كعادةِ الناسِ حينَ تجلِسُ جوارَ القبورْ، ولكني اقتربتُ منه مسافةً كافيةً لأسمعَهُ يقرأ عن أميرٍ وغزالةٍ وحدائق يخوضون في الحكاية بفرحٍ لا ينسجمُ مطلقاً مع رجلٍ يجلسُ في مكانٍ كهذا.

عدتُ، مذهولاً قليلاً، كانت زميلَتي قد انتهت من طقسِها، مع بعض الدموعِ في عينيها، وأنفاساً أكثرَ هدوءاً من لحظةِ قدومِنا، وعلى الفورِ لاحَظَتْ أن عينيَّ ما زالتا معلَّقَتَين بالرجلِ الجالسِ جوارَ القبرِ، فسألتني إن كنتُ أعرِفُهُ، فأومأتُ بلا، فقالت: أنا على استعدادٍ للموتِ غداً لو أنَّ رجلاً مثلَهُ أعطاني وعداً كوَعْدِهِ!!

بالطبعِ أثارَتْ فضولي، أنا غيرُ الفضولي بطبعي، ورفعتُ حاجبيَّ حاثَّاً إياها على أن تكملْ، فأكْمَلَت: في الحربِ، أصيبَت ابنَتُهُ، كانتْ صديقةَ أختي في المدرسة، وقبلَ أن تموتَ وهي ترتجِفُ بينَ يديه، قالت له: يا أبي أنا أخافُ عتمةَ القبرِ، فإذا متُّ فلا تتركني هناكَ وحدي، كلُّ من حضَرَ المشهدَ بكى وهو يسمعُهُ يعِدُها بأنَّهُ سيظلُّ إلى جوارِها يوماً بيوم إلى أن يموتَ هو، ومنذ ذلك اليوم وهو يأتي كلَّ صباحٍ ويغادِرُ في المساءِ بعدَ أن يقرأ لها قصصاً من كتابِهِ الذي تراه في يدِهِ.

لم أسألْها كيفَ عَرِفَتْ هذه الحكاية بتفاصيلِها، كنتُ أعرِفُ أن القصَّةَ يمكنُ لها أن تكونَ قد تحوَّرَتْ بانتقالِها من فمٍ إلى فم، لكنَّ الأمرَ الخارجَ عن الشكِّ، أنني أصبحتُ أذهبُ يوميّاً لأراقبَ هذا الرجلَ من بعيد، وهو إلى اليوم، يضعُ قرُنفُلَةً على القبرِ البنفسجيِّ، ويبدأُ بقراءة القصصِ من كِتابِهِ، كمن يقرأ كي يجعلَ طفلاً يخلُدُ للنّومْ.

الرابع والعشرون من تشرين أول 2011



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الحبُّ؟
- كلامُ الغريبْ... كلامٌ للغريب
- إنتَظِرِيْنا قصة قصيرة
- سمَّيتُها بلادي ونمتُ
- فِتْنَةُ الرّاوِي الّذي عاشَ أكْثَرَ ممّا يجِبْ
- كبلادٍ مهزومةٍ وجميلةْ
- الحسن والحسين، أخطاء تاريخية بالجملة
- في حضرة الغياب، إنتاج هزيل وغير مدروس
- الوقتُ في الثلاّجة
- آتٍ لا يأتي
- أَشْهَدُ
- عليّْ قصة قصيرة
- رجلٌ بفصولٍ لا تُعَدٌّ
- لم يَعُدْ لي ما كانَ لي
- وفي آخِرِ اللَّيْلْ
- حينَ جَرَحْتَ السُّنْبُلَةْ
- هكذا سيقولُ نايٌ لشهيقِ العازِفِ:
- رفح... أو بعبارةٍ أخرى، عن حبيبتي عليها اللعنةُ
- ساذجون ويحاولون استسذاج الآخرين
- الأدب الفلسطيني بخير ردا على مقالة د. فيصل درّاج: لماذا لم ...


المزيد.....




- مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق ...
- مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على ...
- مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح ...
- كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو ...
- ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
- الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا ...
- بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب ...
- مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب ...
- فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
- من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - قُرُنْفُلةٌ بيضاءْ قصة قصيرة