|
مسلسل تركي
عبد الإله السباهي
الحوار المتمدن-العدد: 3525 - 2011 / 10 / 24 - 16:57
المحور:
الادب والفن
ملسل تركي
كان الرجال في زماننا يقضون سهرات رمضان في لعب (المحيبس) في المقاهي، وتقضي النساء الأمسيات بالتزاور. أما المتدينون فيقضونها بصلاة التراويح أو قراءة في الذكر الحكيم وهم قلة. تطور الزمن وغزتنا الفضائيات ببرامجها الترفيهية، والتي أختص بها شهر رمضان من دون شهور السنة، وخاصة برامج فوازير الفنانة ( نيلي)، ثم مسلسلات الدراما السورية، فأصبح الناس يشاهدون تلك المسلسلات بإلحاح وأصبحت (باب الحارة) هاجس المشاهدين، فينتظرونها بفارغ الصبر، حتى أنهم راحوا ينتظرون رمضان من أجلها. فأفرغ الشهر من حرمته، وتحول إلى طقس كل حكمته تحمل الجوع لبضع ساعات، أما الوقت الأكثر فكان الصائم و(المفطر) يقضيه أمام جهاز التلفاز، يتنقل من مسلسل إلى آخر، فأصبح الناس يترقبون المسلسلات التلفزيونية أكثر من ترقبهم الهلال أو ترقب ليلة القدر؟ انتبه الأتراك إلى اهتمامنا نحن العرب بتلك المسلسلات، فحولوها إلى تجارة رابحة، وراحوا ينتجونها بمواصفات متطورة. وظفت في المسلسلات التركية أجمل الفتيات، وأجمل الشباب الأتراك، وهم كثر والحمد لله، و(دبلجت) تلك المسلسلات أي ترجمت نطقا إلى العربية بلهجة مميزة شدت المتفرج العربي إلى الشاشة الصغيرة، وأصبح هوس العرب بأبطال تلك المسلسلات إلى حدّ أن السياح العرب عند زيارتهم اسطنبول باتوا يهتمون ببيت (مهند ولميس أبطال واحدا من هذه المسلسلات) أكثر من اهتمامهم بمسجد آيا صوفيا، وهكذا لم تعد أيام رمضان تكفي لمشاهدة المسلسل إلى نهايته بعد أن امتدت بعض تلك المسلسلات إلى مائة وخمسين حلقة وأكثر. كنا نعيش في بغداد في بحبوحة، فبيتنا كان يغفو تحت أشجار الكمثرى فتحجب عنه أشعة الشمس المحرقة صيفا، أما في الشتاء فتتجرد تلك الأشجار من أوراقها لتفسح الطريق أمام خيوط الشمس فتدخل النوافذ بكسل لتشعرك بخدر لذيذ. حديقة الدار كبيرة جدا وكانت ملاذا لنا في أيام الحر . كنت أفضل المذاكرة في الركن القصي من تلك الحديقة حيث يفوح عطر أزهار الكردينيا، وهكذا كانت حياتنا حلوة وسهلة. لم يكن لأبي همّا في تلك الأيام غير العمل في محل صياغة الذهب في سوق الدورة، وتلك صنعة توارثها أب عن جد، فكان هذا المحل مصدر رزقه، ومكان يلتقي به مع شرائح مختلفة من الناس، وبعد ركود العمل بسبب الحرب والحصار تحول المحل إلى مكان يلتقي فيه أبي بأصدقائه الصاغة المجاورين له فيقضونا لعب في الطاولي أو الدومنو. أما أمي فلا هم لها غير شراء البط و(البشوش) وطبخها، وزيارة جاراتها، وهكذا مرت الأيام دون أن نفطن لها. أنهيت دراسة الأدب الإنجليزي في كلية الآداب بتفوق رغم ظروف الحرب الصعبة. بعد أن طال أمد الحرب مع الجارة اللدودة إيران تغيرت الحياة، وأخذت تلك الحرب تقطف أرواح الشباب بالدرجة الأساسية من كلا البلدين. ثم راحت الصواريخ تتساقط علينا كحمم من الموت والدمار في كل يوم. كان السفر إلى خارج العراق مغلق في تلك الفترة، فلم نستطع تدبر أمر الهروب من ذلك الجحيم، ثم ضاق الخناق علينا بعد أن راحت دوريات الجيش الشعبي تلاحقنا أنا وأبي من مكان إلى آخر. لا أعرف كيف انتهى كل شيء معنا على خير، هل عند أبي( خرزة تحفظ من الشرور)؟ أم أننا محظوظون فقط؟ عندما توقفت الحرب، وفتح السفر باع أبي محل الصياغة في الدورة، وصفى ما فيه من موجودات منتظرا أول فرصة للمغادرة، ثم جاءت تلك الفرصة قبل أن يغزو (الرئيس) دولة الكويت الجارة اللدودة الأخرى. لم يكن حينها مسموح لنا نحن الشباب بالسفر، ولكن غالبية المكلفين بإصدار جوازات السفر هم من ضباط الشرطة المرتشين، وهكذا حصلت على جواز سفر بعد أن دفع أبي مبلغا باهظا جدا. بعد ضياع امتد لأشهر في عمان استطعنا الوصول إلى ألمانيا بجوازات سفر بولونية مزورة. لم يبع أبي الدار التي قضينا فيها أجمل أيام حياتنا خوفا من الفشل بالوصول إلى أوربا، فيعود عندها إلى العراق خالي الوفاض، فترك الدار كطوق نجاة في حالة الفشل، واسكن فيها واحدا من أقاربه كحارس، وكتب عقدا معه على هذا الأساس، فمن عادة الوالد أخذ الحذر والحيطة في كل تصرفاته الكبيرة منها والصغيرة. لم تكن حياتنا في ألمانيا سهلة في البداية، فاللغة الألمانية صعبة والعمل بالاختصاص غير متوفر، على الرغم من أن بلدية المدينة تكفلت في سكننا وعيشنا، إلا أنني لم أتقبل تلك الطريقة في العيش، فرحت أبحث عن أي عمل، ووجدت بالفعل عملا في إحدى الأسواق المركزية الكبرى ( مترو) والقريبة من بيتنا. العمل في تلك الأسواق كان متعبا حقا(حمالة) ولكنني لم أنقطع عنه، وبذلت ما في استطاعتي من جهد، فحزت على ثقة إدارة السوق، ورغم التعب كنت مسرورا بعملي. أمي وأبي أحيلا على التقاعد بسبب بلوغهما السن التقاعدية، فعشت معهم في شقة واحدة عيشة كفاف لم نعتدها من قبل في بغداد. بعد أن سقط نظام الحكم في العراق على يد القوات الأمريكية الغازية 2003، رجع أبي إلى بغداد، وباع أملاكه هناك، ومنها بيتنا الذي أحبه جدا، وعاد إلى ألمانيا برأسمال جيد. فتح أبي محلا لبيع الذهب والمجوهرات بإسمي في أحد الشوارع التجارية في مدينة كولن، وكنت ذا خبرة في هذا المضمار، فقد كنت أساعده في محله في الدورة بعد دوام الكلية. نجحت في عملي الجديد هنا رغم اختلاف الظروف. كنت وكما ذكرت قد درست الأدب الانجليزي في كلية الآداب في بغداد، وتخرجت منها بتفوق، وقد ساعدني إتقاني للغة الإنجليزية في تعلم الألمانية كثيرا. ازدهر العمل في المحل الجديد، بعد أن أدخلت في تجارتي المصوغات الشرقية، والتي وجدت لها سوقا رائجة بين الجاليات التركية والصومالية والعربية بشكل خاص، وهكذا وجدت نفسي ناجحا في مجتمعي الجديد، وحققت جزأ من طموحي فيه، ولم يبقى لي إلا أن أكوّن أسرة وأعيش لأجلها. تعرفت على فتاة ألمانية جميلة جدا، فأحببتها بصدق وقد بادلتني هي الحب أيضا حتى إننا عشنا سوية ردحا من الزمن بسعادة، وكانت هي يدي اليمنى في إدارة عملي، إلا أن أمي أصرت على أن أرتبط بزوجة عراقية مندائية، فالمندائيون يرون أن من يرتبط بشريك من خارج المندائية يكون قد خرج من دينهم! لذا لم تتنازل أمي عن ذلك الشرط مهما كلفها الأمر، فكانت متصلبة جدا في موقفها من علاقتي ب (أنيتا)، وقد أيدها أبي في ذلك، فلم أستطع مخالفتهما، فكان علي أن أضحي بسعادتي مع ( أنيتا)، وهذا هو اسم الفتاة التي أحببتها، فتركت هي العمل معي في المحل، ولم ألتقي بها بعد ذلك. لم تحب أمي طريقة حياة الألمانيات، ولم تقتنع بأسلوب عيشهن المتحرر جدا، وفوق كل ذلك لا تعرف المرأة الألمانية شيئا عن الطبخ العراقي، ولا حتى تذوق الأطباق العراقية، ولا زالت حفظها الله تحن إلى مرقة البط، والبشوش، والذي يعيش بحرية في البحيرات هنا متحديا الجميع، هكذا فوتت الفرصة عليّ بالارتباط بالمرأة التي أحببتها بصدق(أنيتا). راحت أمي تزين لي العيش مع فتاة عراقية، تنتقيها هي بمعرفتها، وتعرف أصلها وفصلها، وحتى أنها قد رشحت أحداهن لذلك. كانت أمي معجبة جدا بسلمى تلك الفتاة التي تربطها بعائلتنا روابط قربى بعيدة، وكانت أمي على معرفة جيدة بأم سلمى جارتها ذات يوم. أخذت أمي تصف سلمى بأجمل الأوصاف، مضفية عليها أرق الخصال، وكيف لا، وهي التي كان جمالها يلفت النظر عندما كانت شابة صغيرة فكيف أصبحت الآن يا ترى؟ حصلت على الجنسية الألمانية، وعندها سافرت إلى بغداد للتعرف على سلمى حسب رغبة أمي بعد أن اقتنعت برأيها فالحياة ليست حبا فقط!، وجدت في سفري فرصة لرؤية بغداد من جديد والعودة إلى ملاعب الصبا، وهناك حتما سأجد فتيات غير سلمى إن لم ترق لي هي. بعد أن التقيت بسلمى في بيت أهلها أعجبت بها، وبادلتني هي ذات الشعور، ولكل منا دوافعه، فأنا وجدت في سلمى فتاة مناسبة، وعلى قدر جيد من الجمال والثقافة، وفوق هذا تميزت بخفة الدم وسرعة البديهة. عاشت سلمى المدللة دلوعة أهلها بطلة قصتنا في بغداد، في منطقة الدورة التي كان أغلب سكانها من المسيحيين، ولم يكن التزمت الديني كما هو اليوم يكتم الأنفاس وكأن القيامة ستقوم غدا، فكانت تقضي أيام شبابها الأولى مع صويحباتها في مرح ونشاط، والضحكة لا تفارق وجهها الصبوح. تعد سلمى من الجميلات بين أقرانها، فجسمها الرشيق الفارع الطول يذكر بممثلات السينما، وكان حلم سلمى أن تعيش الحياة الأوربية بكل مباهجها وكما تشاهدها في الأفلام. فظل هذا الحلم يعيش مع سلمى حتى جاءت ساعة اليقظة. تركت سلمى كلية الإدارة والاقتصاد وهي في الصف المنتهي في فرع المحاسبة، بعد أن جئتها من جنة الغرب خاطبا. وافقت سلمى بالعرض الذي هبط عليها من السماء فورا، بدون تردد أو جدال رغم فارق السن بيننا، فأنا أكبرها سنا بعشرة سنين على الأقل، وكان شرطها الوحيد، هو أن يتم العرس بسرعة، فالفتاة لم تعد تحتمل الحملة السلفية التي راحت تتحكم برقاب الناس في العراق وأجبرتها هي وغيرها من بنات منطقتها على ارتداء الحجاب. أصرت سلمى وبعناد بأن تسافر معي إلى مدينتي (كولن) في ألمانيا فورا بعد أن وصفت لهم المدينة وكنيستها التي تعد هي الأجمل في كل أوربا، وكم هي رائعة أمسيات كولن عندما تقضيها على ضفاف نهر الراين، وطلبت سلمى أن تتم هناك كل الإجراءات الرسمية دونما حاجة إلى الانتظار. تدخلت أم سلمى هنا، وانفردت بابنتها في المطبخ، وبختاها بشدة على تسرعها وقلة صبرها، موضحة لها أن هناك أعراف، وطرق قانونية يجب أن تأخذ مجراها، وقبل كل شيء يجب أن تتأكد هي من عواطفها تجاه الرجل الغريب الذي ستعيش معه قبل أن ترمي نفسها عليه وبهذه العجالة. رضخت الأم أمام إصرار أبنتها فوافقت على تلك الزيجة يشرط أن يعقد القران في المحكمة المختصة، على أن لا أدخل بعروستي إلا بعد أن تتم كل الموافقات الرسمية على سفرها وعندها ستلتحق بي، وعلى حد قولها لماذا العجلة فالأيام طويلة أمامكم ، وقارورة العسل لن تنضب طوال عمركم الذي أدعو أن يمتد إلى أرذله بإذن الله، وهكذا تم الاتفاق وعقد المهر، ولبست سلمى (شبكتها كما يقولون في مصر) والتي كنت قد جلبها معي من متجرنا في ألمانيا، وكانت عبارة عن طقم من الذهب المرصع بالماس فكان محط إعجاب الجميع، أما صاحباتها اللواتي حضرن حفلة عقد القران ببهجة، فكن يقرصنها عسى أن تصببهن عدوى النصيب الذي وفقت فيه سلمى. لقد وقع أختياري على سلمى بالحقيقة دون أن أرى غيرها من فتياتنا في بغداد، على الرغم من الدعوات التي انهالت عليّ من كل صوب، فأنا بطبيعتي أخجل، وأتردد كثيرا من ولوج تلك العلاقات المفتعلة. ثم أن أسرة سلمى محترمة وتحضي برضا أمي. وقد وجدت في الدوران على العائلات التي أوصتني بها أمي من أجل معاينة بناتهم حرجا شديدا، فاكتفيت بنصيبي مع سلمى وفرحت به. أما سلمى فوجدت فيّ ربما رجلا مقبولا، والأهم من أي شيء آخر إنني أحمل الجنسية ألمانية ، فأنا إذا طوق النجاة المنتظر للخلاص من الكبت الذي غدت كل الفتيات وسلمى بالخصوص تعاني منه بقوة في الكلية، وفي الشارع، وحتى في البيت، وهذه الزيجة ستحقق لها حتما حلمها في العيش في بلد الأحلام أوربا. بعد أن تم عقد قراننا، وأصبحت سلمى زوجتي بحكم الوثيقة المصدقة في المحكمة والمترجمة إلى اللغة الألمانية، وعليها ختم السفارة ألألمانية و وزارة الخارجية العراقية، وحسب الاتفاق لم نقم عرسنا في بغداد وتركت قارورة العسل وسافرت إلى ألمانيا، وهناك أعددت كل الترتيبات اللازمة فحصلت على الموافقات المطلوبة لالتحاق زوجتي بي، وأخذ الموافقات اللازمة لدخولها الأراضي ألألمانية. التحقت سلمى بنا في ألمانيا بعد شهرين من الانتظار غير المطاق، فسافرت أولا إلى الأردن بصحبة أبيها حسب فانون ( المحرم)، وهناك أركبها على الطائرة المتجهة إلى مطار (كولن بون) وقبلها مودعا بعد أن أوصاها بأن تخلص لزوجها ولا تقطع رسائلها عن أهلها، وعاد هو إلى بغداد، وكانت سلمى خائفة ومترددة فتلك هي المرة الأولى التي تركب فيها طائرة. ذهبنا إلى المطار ننتظر سلمى قبل موعد وصول الطائرة بساعة على الأقل في مطار (كولن- بون ) القريب من مدينتنا، رافقتني أمي وأصر أبي شبه المقعد على مرافقتنا أيضا ليكون باستقبال العروس، وباقات الورد تثقل أحضاننا. وصلت عروسنا، واستقبلتها أمي بالزغاريد مما لفت أنظار المتواجدين في المطار، وسبب ذلك لي حرجا لم أعرف كيف أداريه، المهم أحاطت باقات الورد العروس من كل جانب، وبعد القبل الحارة من الجميع، أخذت حقيبتها التي رفقتها من بغداد والتي ملأتها على ما أظن بكل ما يذكرها بماضيها، وببلد اسمه العراق . عدت إلى البيت بعروستي فرحا مبتهجا، وكانت سلمى مندهشة طول الوقت من كل ما ترى. من خضرة الطبيعة التي تمتد على طول الطريق الموصلة إلى المدينة، ومن الطرق السريعة المعبدة جيدا من العمارات الشاهقة التي لاحت لها عند اقترابنا من المدينة، حتى أنها قد تسمرت إلى نافذة السيارة، فلم تترك عروستنا التطلع من نافذة السيارة طيلة المشوار الذي امتد لأقل من ساعة، فلم تعر أثناء تلك الساعة اهتماما لأحد، وكأنها وحدها في تلك السيارة الفخمة. كنا جميعا فرحين بسلمى وبتلك الزيجة، فقد مهدت طريق السعادة للجميع، فالعجائز راحوا يحلمون بمداعبة الأحفاد، وأنا رحت أتخيل السعادة والحب الذي ينتظرني وقوارير العسل التي ستنسكب على رأسي مع تلك الفتاة الحلوة المرحة كما قالت أم سلمى. أما سلمى فكانت منبهرة بكل ما يحيط بها، وغرقت في حلم متعة التسوق، واللهو، والمراقص. أخذت عروستي برحلة عسل على ظهر باخرة تشق نهر الراين على أنغام الموسيقى، وانتهت بسرعة رحلة العرس هذه والتي أعددت لها بعناية لتكون أيام لا تنسى، فعدت بقارورة العسل إلى بيتنا، وتركتها مع أمي لأبدأ حياة الكفاح والعمل من جديد. بعد الانتهاء من المقابلات الضرورية في بلدية المدينة، وبعد أن تعرفت سلمى على المدينة ومتاجرها، لم يبقى لها سوى أن ترافقني في الذهاب إلى العمل، فأصبحت تذهب معي كل يوم حتى جاء وقت التحاقها بمدرسة اللغة، وهناك وجدت جوا جديدا أعادها إلى أيام الكلية، ولكنها لم تترك مرافقتي إلى المحل، فكانت في البداية تجد متعة كبيرة وهي تعرض كل تلك المجوهرات الجميلة في معارضها، ثم راحت تنظم حسابات المحل وتدير شؤونه، فتفرغت أنا إلى تجديد بضاعتنا ورحت أبحث عن مصادر جديدة لها فتحسن دخلنا بشكل ملحوظ والفضل في ذلك يعود لسلمى. أخذ النجاح يشد سلمى إلى المحل أكثر فأكثر فكانت تتجه رأسا إلى المحل بعد ساعات الدرس، لتظل معي حتى نقفله ونعود سوية إلى البيت فرحين مستبشرين بمستقبل أفضل. كنا نتناول طعام الغداء سوية في أحد المطاعم التركية القريبة. قبل أن نكتشف المطعم الإيراني وطبق( الشبزي) الشهي الذي يقدمه والذي راح يتكرر كل يوم، وهكذا أخذت الحياة تسير بسهولة وفرح لم تكن سلمى تتوقعه. مرّت الأيام تجري بسرعة ويسر مع سلمى دون مشاكل، وخاصة بعد أن تخلصت من عقدة اللغة، وأنجبت سلمى طفلنا الأول في مستشفى المدينة، وكان ولد معافى كبير الوزن، أصرت أمي على أنه يشبهني كثيرا رغم أن معالمه لم تتبين بعد، وكان الطفل فرحة لنا جميعا ما بعدها فرحة، وخاصة لأمي، والتي راحت تربيه، وكأنها هي التي ولدته. توقفت سلمى عن الذهاب إلى العمل في متجرنا بعد الولادة، وظلت حبيسة البيت، لا تخرج منه إلا ما ندر، وخاصة بعد أن حل الشتاء وراحت الثلوج تتساقط بكثافة، والتي لم تعتدها بعد. انتهت سنة حضانة الطفل، وعادت سلمى إلى نشاطها الدائب، وبهمة أكثر هذه المرة، ولكنها اعتادت أثناء جلوسها في البيت على متابعة المسلسلات التي تبثها الفضائيات العربية، وخاصة التركية منها. أعجبت سلمى كثير بمسلسل ( الحب الممنوع) وراحت تقلد بطلة المسلسل اللعوب ( سمر) بكل حركاتها، وملابسها، وهامت حبا ببطل المسلسل (مهند) حتى أنها راحت تعامل زبائن المحل الأتراك معاملة متميزة لفرط حبها بالحياة التركية التي عرضتها ذلك المسلسل. الظاهر أن كل أسباب السعادة التي وفرتها لسلمى لم تكن كافية، وظلت تشعر أن شيئا ينقصها، عزيت ذلك إلى فراقها لأهلها وحنينها لأيام بغداد، وتلك مرحلة مررنا بها جميعنا. شعرت أن زوجتي لم تتمكن من حبي بعمق كما كنت أشتهي. رغم أنها لم تظهر ذلك ولم تقصر بواجباتها الزوجية، فكانت تكن لي ولأسرتنا كل الاحترام، ولكن هل يكفي الرجل الاحترام فقط؟ تمنيت لو كانت تحبني بعنف كما فعلت (أنيتا). أصبحت حياة العمل والالتزام بمواعيده صعبة على سلمى، فكانت تحرمها من شغف النوم حتى الظهر، ولم تجد حياتها صاخبة ومليئة بالمغامرات كالتي عاشتها بطلة المسلسل (سمر). فراح الملل يدخل روح سلمى ببطء، ويجعلها تبحث عن نقلة تغير روتين الحياة وتبدل حياتها. كنت أستغرب كيف أن سلمى لم تكن كثيرة التعلق بطفلها، وكأنها ولدته خصيصا لأمي التي غدت تسهر عليه، وتعتني به ليل نهار، حتى أن رضاعة الطفل اعتمدت على حليب الصيدليات بعد أن رفضت سلمى إرضاع طفلها بحجة أن الرضاعة تشوه نهديها الحريصة عليهما كثيرا. شروط شركات التأمين صارمة على محلات بيع الذهب والمجوهرات، وقد قامت سلمى بدراستها جيدا قبل أن نوقع عليها مع شركة تأمين كبرى في المدينة لنضمن مستقبلنا ونعيش بطمأنينة، من أهم تلك الشروط التي اشترطتها شركة التأمين أن تكون خزائن المحل بمواصفات معينة تحددها هي، وأن تجمع كل المجوهرات يوميا في تلك الخزائن قبل غلق المحل، ولا يجوز ترك المجوهرات في معارضها إلا نسبة قليلة منها، والتي لا تمثل قيمة كبيرة، وكانت تلك مهمة شاقة تتكرر كل يوم، ويقع عبئها الأكبر بالدرجة الأولى على سلمى. كنت أترك سلمى لوحدها في المحل أحيانا لأنصرف إلى تجهيز البضاعة وسافرت ذات يوم إلى مدينة أمستردام عاصمة هولندا فتركت المحل، وبقيت سلمى وحدها في المحل كالعادة. وقد اعتادت هي على ذلك وكل شيء كان طبيعي يومها ولكن عندما حل وقت إغلاق المحل تركت سلمى كل المعروضات في مكانها على غير ما جرت عليه العادة، وأغلقت المحل على عجل لتلحق مشاهدة الحلقة الأخيرة لمسلسل ( العشق الممنوع)، في اليوم التالي ذهبنا أنا وهي سوية إلى المحل فوجدنا أن اللصوص قد اقتحموا المحل بعد أن فتحوا طريقا إليه من الجهة الخلفية، ولم يبقوا فيه قطعة واحدة من بضاعتنا التي هي كل ما نملك، فقد سرقوا كل شيء حتى المسائل الصغيرة التي كانت تزين المحل. كاد يغمى عليّ لولا شعوري بأن شركة التأمين ستعوضني، وعنفت زوجتي بشدة لإهمالها وتركها الحلي دون أن تودعها في الخزانة كالعادة، ورحنا نتدارس كيفية معالجة الأمر وما هي القوائم التي سنقدمها إلى شركة التأمين، وبأي مبالغ سوف نطالب. اتصلت فورا بالشرطة، وأخبرتهم عن السرقة، فجاءت سيارات الشرطة إلى المحل بسرعة تفوق التصور، وكأنهم كانوا يقفون مسبقا بجواره. بدأ تحقيق الشرطة الروتيني بالسؤال عن كمية المصوغات، وأنواعها وأثمانها، وأين كانت عند سرقتها، وعندما سألوا سلمى عن سبب تركها البضاعة خارج الخزنة كما يجب، راحت تتحجج بأن صداع حاد ألم بها، فلم تستطع القيام بتلك المهمة. لم يكن جواب سلمى مقنعا لذلك المحقق المتمرس، والذي درس علم النفس قبل أن يدرس القانون. طلب المحقق من سلمى أن تعطيه هاتفها النقال، وكان طلبه مفاجئا لها فمدت يدها بطريقة لا إرادية إلى حقيبتها، وأخرجت هاتفها النقال وأعطته إليه. أخذ المحقق الهاتف وراح يعبث بأزراره، وعلامات الجّد بادية على محياه، وهنا أمر المحقق الحرس الذين معه أن يقتادوا سلمى إلى سيارة الشرطة، ولم يستمع لاعتراضاتها، واعتراضاتي وكنت ممتعضا جدا من هذا التصرف غير المبرر. ذهبنا جميع إلى قسم الشرطة، وهناك أودعوا سلمى في إحدى الزنزانات، وأنا في حالة ذهول فلم أرى مبررا واحدا لهذا التصرف الغريب، ولم أجد تفسيرا مقنعا له غير أنه سلوك عنصري لرجل الشرطة هذا يمارس علينا بتعسف. لم أستطع العودة إلى البيت طبعا بل بقيت في قسم البوليس مستعطفا المحقق تارة وتارة طالب منه تفسيرا مقنعا لمثل هذا الأجراء، ولكن المحقق لم يتعاطف معي وأمرني بالذهاب إلى البيت، وفي الغد سوف يظهر التفسير المقنع لهذا التصرف. لم أستسلم طبعا لأوامر البوليس، ورحت أصرخ على طريقة العراقيين الانفعالية، مطالبا بإطلاق سراح زوجتي لتعود إلى طفلها، ولكن البوليس أبعدوني خارجا بالقوة، فذهبت إلى أحد المحامين الذين اعرفهم وشرحت له الوضع، ثم وكلته بمتابعة القضية، والعمل على إطلاق سراح زوجته حالا، فلابد أن هناك سوء فهم. ورفع دعوى على المحقق لتصرفه العنصري وغير المبرر إطلاقا. عدت إلى البيت وأخبرت أهلي بما جرى فنزل الخبر عليهم كالصاعقة، فراحت أمي تحتضن الطفل النائم أصلا لتطمأن عليه وراح أبي يقلب الأمر معي مستعرضا تجاربه التي لا تنفع هنا، وقضيت ليلتي سهرانا حتى ساعات الفجر. اتصلت بالمحامي أول الصباح مستفسرا عما آلت إليه جهوده، فهو لم يتصل بي كما وعد وبقيت أنتظر مكالمته إلى وقت متأخر من الليل. لم يستطع المحامي عمل شيئا بالأمس، وقد حاول إطلاق سراح سلمى بكفالة دون جدوى مبررا ذلك بأن الموضوع أكثر تعقيدا، ولكنه سيتم ذلك اليوم وأنه في طريقه إلى قاضي التحقيق الآن. انتهى التحقيق بسرعة فائقة، وكشفت أبعاد الجريمة وتم إٌلقاء القبض على العصابة التي سطت على المحل وسرقت الموجودات. عندما أخذ المحقق هاتف سلمى النقال وجد فيه مكالمات ورسائل مع أحد الشباب المراقبين أصلا من قبل الشرطة، وإن هناك اتصالات وتنسيق مسبق بين سلمى وبين ذلك الشاب منذ وقت سابق للحادثة، وعندما واجه المحقق سلمى بالحقيقة اعترفت بكل شيء وراحت تجهش بالبكاء. المسألة وما فيها، وحسب اعتراف سلمى، أن متابعتها للمسلسلات التركية أثرت على سلوكها، فعشقت بطل مسلسل ( العشق الممنوع) وتأثرت بشخصية البطلة، وصادف أن جاءهم للمحل بغياب كريم شاب تركي يشبه ( مهند) اسمه مراد، وراح يغازلها بطريقة أثارت عواطفها فسايرته بتلك اللعبة في البداية حتى تطورت العلاقة بينهم إلى الحد الذي كان يختلي بها أثناء غياب الزوج، ثم غدت العلاقة بينهم حميمة جدا فأسلمت نفسها إليه، وأصبحت تكره زوجها كريم بعد أن رسم لها مراد مستقبلا كله إثارة، فتعاونت معه على سرقة المحل، والهرب معه ومع ابنها إلى تركيا للعيش هناك بكل تلك الأموال بسعادة وحب. خططت سلمى مع عشيقها مراد لعملية السطو في تلك الليلة التي سافرت، فيها وكان دورها أن تترك المجوهرات في مكانها بشكل طبيعي، والباقي سوف يدبره عشيقها بمعرفته. تدبر مراد الباقي فعلا، وبشكل متقن بالتعاون مع شاب تركي آخر، ورجل من المهاجرين الرومانيين يقود مجموعة الشباب هذه في السطو على المخازن. بعد القبض على مراد اعترف هذا على شريكيه ووصف خطة السطو بكل تفاصيلها وتم القبض على باقي أفراد العصابة، وأقروا بالذنب ولكن لم تعثر الشرطة على البضاعة التي هربت على عجل لدولة أخرى. كشف الجاني علاقته بسلمى وادعى بأنه يحب سلمى فعلا وكان ينوي الهرب معها إلى تركيا. أحيلت القضية إلى المحكمة، وتم الحكم على أفراد العصابة بأحكام لا تتجاوز السنتين، وحكم على سلمى لمدة ثلاثة أشهر تحرم بعدها من تمديد إقامتها في البلد وترحل. كما أصدر القاضي حكما بأن تكون حضانة الطفل من مسؤوليتي خلال مدة السجن. عندما غادرت سلمى بغداد لم يبقى لواديها ما يخشون عليه هناك فتركوا العراق وسافروا إلى سوريا بأمل توطينهم قريب من ابنتهم، دام انتظارهم لأكثر من ستة عشر شهر قضوها في ناحية جرمانا الفقيرة والقريبة من دمشق. ولم أبخل عليهم بالدعم المادي المتواصل طيلة تلك الأشهر الصعبة. حصلت العائلة على توطين في مدينة درزدن شرق ألمانيا، وكان وصولهم في فترة الأحداث وقد سمعوا بعضا منها، ولكنهم كانوا مقيدين بقوانين البلد فلم يستطيعوا مغادرة المدينة ليلتقوا بابنتهم. بعد ثلاثة أشهر أخلي سبيل سلمى على أن لا تجدد لها الإقامة في البلد إلا بعد طلب خطي مني وتعهد بحسن السلوك. عادت سلمى إلى بيتنا بعد أن قضت مدة حكمها محطمة المعنويات تماما، فقد اختفت البسمة من على وجهها وغارت عيونها من كثرة البكاء والندم. انكبت على أقدام أمي وراحت تقبلها طالبة المغفرة، ولكن أمي طردتها، ورفضتها أنا كذلك وبحزم، فلما يئست من مساعدتنا أنكبت على يدي أبي تقبلها ودموعها تنهمر، فرق لها أبي ولم يرضى لنا أن نتسبب في طردها من البلد. فأعطيتها ذلك التعهد الشخصي بالبقاء على شرط أن تظل موافقتي تلك شكلية، ولا يترتب عليها أي التزام، وتذهب هي للعيش مع أهلها في دريزدن. احتضنت سلمى ابنها، وراحت تقبله بجنون، وكأنها سوف لن تراه ثانية، والغريب أنها لم تأخذه معها، بل تركته عند جدته، فلم يحظى الطفل منها إلا بتلك القبل، وبوعد غير محدد للعودة إليه ثانية. عادت ( قارورة العسل) إلى بيت أبيها من جديد لتعيش معهم منطوية على نفسها تندب خيبتها وتشتم كل ما هو تركي. أصبحت أنا خالي الوفاض تماما، فشركة التأمين رفضت تعويضي عن السرقة، فبعت المحل، و رجعت أعمل كالسابق (حمال) في أسواق ( مترو ) القريبة من بيتنا، أشقى لأسدد ديون المحل، فجل بضعتنا كانت لتجار الجملة، ولم يغطي ثمن بيع المحل إلا جزأ يسيرا من تلك الديون، ولم يخفف عني مصيبتي سوى ضحكات ابني ( رام)، والتي كانت تذكرني بمصيبتي أيضا. لم تمضي مدة طويلة على رحيل سلمى، حتى سمعنا بأنها رمت بنفسها تحت القطار الذاهب إلى برلين والذي كان يسير بسرعة كبيرة، وهو خارج من المدينة ففارقت الحياة على الفور، لتنهي بذلك حلمها الوردي، حلم العيش الباذخ في أوربا. حزنا كثيرا لموتها، ولكن بعد فوات الأوان.
عبد الإله السباهي
#عبد_الإله_السباهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة الكنز المفقود
-
الباص رقم واحد
-
شجرة التفاح الأحمر
-
المخرز والجمل
-
نصائح منسية
-
تموز وسيف الدين
-
أبيت اللعن
-
الحب في زمن طغرل بيك
-
لطلاطة سلمان
-
الصدفة
-
خروف البنجة
-
جذور واهية...قصة قصيرة
-
الخل والخمرة والصديق
-
دردشة عجائز مغتربات
-
كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(4)
-
كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(3)
-
كشف الأسرار عن سحر الأحجار *(2)
-
كشف الأسرار عن سحر الأحجار
-
أولاد المهرجان
-
هكذا تسقط الأنظمة
المزيد.....
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|