افراح لطفي عبد الله
الحوار المتمدن-العدد: 3522 - 2011 / 10 / 21 - 23:24
المحور:
الادب والفن
يقول توماس كارليل في كتابه " فلسفة الملابس " إن أول باعث للإنسان على ارتداء الملابس لم يكن طلب الدفء أو دواعي الحياء وإنما حب الزينة . .. فمن اجل الزينة والزخرف لا سبيل إلا الملبس , ويقول : انه مع الشعوب العريقة وجدنا إن الوشم والطلاء اسبق عهدا حتى من الملابس. فأول حاجة روحانية يشعر بها الإنسان المتوحش هي الزينة كما هو الحال إلى اليوم , فالزينة إذن كانت هي الأولى وبعد ذلك فطن الإنسان إلى كونها واقية ودافئة والاهم من ذلك أنها مصدر لفضيلة الحياء ..
في هذا النص ما يستوقفنا هو التعويل على الزينة في إنتاج الملابس , لأننا إذا أردنا اليوم أن نفسر الأعداد اللانهائية للموديلات سنجد ان انطلاقها من الزينة قد ترتب عليه بشكل طبيعي التفاضل بالأذواق , وهذا يستدعي بدوره تمرين الأنامل وتنشيط المخيلات, بمعنى صنع كوادر ذات لمسات فنية قادرة على الإبداع من دون ان تنسى توظيف إبداعها في المسائل الأخرى كالدفء والحياء في اطر من الزينة, فهي تحاول متفائلة خلق المواسم الإنسانية مقابل الطبيعة وتقلباتها .. وهنا سوف لن يحسد الإنسان الحيوان لما هيأته له الطبيعة من كسوة لا تبلى صامدة أمام حرارة الشمس والكوارث مهما امتد بها العمر وسوف لن يتذمر ايضا لكونه يكتسي بمقبرة الطبيعة من أصواف الأغنام وجلود الثيران وفراء ذوات الفرو من الحيوان, إضافة الى حتمية البلى الذي يلاحق ملابسه الى نهاية العمر , ذلك لأنه وعى عمق الملابس الحقيقي الذي يكمن في ان الملابس هي من يجعل الفرد إنسانا لما لها من القدرة على تشكيل الشخصيات المستقلة بمميزاتها وخصائصها التي تتفاضل بها وتتمايز ..
فللملابس رموز ودلائل تجتاحها من الشكل الى العمق أي من الألوان التي تشير الى طبيعة الذوق والمزاج والروح الى دلائل ورموز تعلن عن الكثير الخفي كالخيال المبدع والفكرة الخالقة والأيدي الصانعة التي يتميز بها المصمم والخياط ..
وربما سوف يدعونا هذا الكلام الى تأمل الخياط قليلا , فبصنعه وإبداعه للملابس يبدو إنسانا خارقا, فهو الوحيد القادر على إخراج الإنسان العاري مكتسيا, ومن ناحية اخرى فهو من يجعل للرداء بعدا اجتماعيا يتجاوز كون الرداء صوفا او قطنا, يتجاوزه الى بعد أعمق كالمجد والعلاء والسؤدد والسنا فيتشكل نسيج الهيئة الاجتماعية بما فيها من ملابس الملوك والكهنوت والعمال الذين انتشلهم الخياط من العرى ووفقا لهذا يكون المجتمع الإنساني كله مؤسس على الملابس كما يقول كارليل ..
ان دور الأزياء اليوم تبدو وكانها تسحب الهدف العميق من التاريخ ( الزينة ) لتجسده في استعراضات استوعبت الفكرة العميقة للملابس مع إضافة بعد أساسي جديد هو النجاح والتفوق ما جعل هذه الدور تتكاثر وتتنافس على طرح الأفضل وهو ما جعل الملابس الى جانب التنافس والبحث عن النجاح تغطي هدفها التاريخي ( الزينة ) أبعاد نفسية ولعب بالجسد, فخلف هذه الستارة تكمن دائرة إنسانية ذات بعد نفسي يتذبذب بين النجاح والفشل, الضياع والوجود, الغياب والحضور .. وتتوضح هذه المسالة من خلال أبعاد هذه الدائرة وهي ثلاث: المصمم, العارضة, والمقيمين, الأبعاد التي تشارك في توظيف الجسد وجعله آلة تتناوب الحضور والغياب وفي النهاية يتلاشى خلف تلك الثلاثية ..
السؤال الأهم هل يمكن للملابس ان تؤسس لهذا النهج ؟ ان ( المصمم ) وهو في موقعة الملابس يناضل في سبيل التفاعل مع المطامح الإنسانية, فهو يطمح باستمرار لاستحداث الموديل, التحفة, القطعة الفنية الفريدة . وهذا الأمر قد يكفله الغياب لأنه في دنيا الأفكار المتلاطمة قد يجد من بين هذه الأفكار ما لا ينتمي اليها, لان أعماقه لا تنتهي عند جذر, فأفكاره هي من جذور متشظاة تراكمت, أتت بالخبرة او الاستنباط او الاستقراء او تأمل او بومضة.. ومن بين هذه الفكر عديدة الجذور قد يصطاد فكرة تثير طموحه فينميها متجاوزا التحقق عن أصلها فيسمو على جذورها, فيجسدها ويصبحان ملكا احدهما للآخر, وهنا يبدأ بالإعلان عن صيحته الجديدة التي قد لا تلبي أعماقه ويشعر إزاءها أحيانا بالغياب, لكنه يبقى شبح شعور, لأنه مؤقت, فهو يتلاشى أمام الحضور المرتقب المرهون بكيفية ملء الأعين المنتظرة, فالمصمم يعلم انه لن يحوز على الوجود بدون الآخر ( المتفرج ) ولم يستطع تحقيقه إلا بالآخر ( العارضة ) ولهذا نجده يجاهد في سبيل تقنية هذه الدائرة وإكمالها فهو يبحث عن وجود اكثر خلودا, ذلك الوجود الذي يكون مرتقبا في القدرة على ملء فضول المترقبين فيما يتعلق بالألوان والتناسق والغرابة والتهديم ..
ومن اجل الملابس ايضا يجسد حضوره ابتداءا في الموسيقى المؤثرة والحركات الإيقاعية التي يجند لها أدواته ( الأجساد ) وكلما كان التصفيق حادا والنظرات مؤطرة بالإعجاب والاندهاش كلما كان حضور المصمم واضحا لنفسه وللآخرين, بل وتعلو غبطته بعد ذلك ويصبح اكثر طموحا لخلق الجديد من تراكمات أخرى حتى وان لا ينتمي اليها, وربما يصبح هذا الخط من العمل واجبا وإلزاما بعد ان كان رغبة وهواية, فالحضور بهذه الطريقة اكثر خلودا ويجاهد المصمم من اجله .... ومن اجل الزينة قد يبدو المصمم غريبا عن مفاهيم عصره في طرح الجديد على حساب اللامفهوم مثل وضع الأسلاك التي تشبه الهوائيات على الرأس او جعل الفستان مائلا ومعوجا كاسرا رزانة الاستقامة في الحاشية السفلية للفستان .. الى آخره من الأشكال الغريبة .. لكن السؤال ربما يتخذ منحى آخر, فهل أمر هذه الأفكار متعلق بخلق الغرابة ام انه ارشاد عميق لأدلة ورموز ؟ فربما ترمز الأسلاك الى الاستكشاف او امنيات البث والشهرة نحو مساحات اوسع, وربما يرمز الاعوجاج في الفستان الى فكرة عميقة للتحرر من القيود .. وربما تختلف الأجوبة بعدد المجيبين, ويمكن ان تختلف حتى عند المصمم نفسه لان لفكرته كما قلنا انتماءات عديدة وإحصاءها يولد اجابات كثيرة, فهو ومن دون ان يدري يتلاشى خلف الأفكار المتشظية, لكن بما انه اكثر طموحا لفهم الحضور فانه لا يلبث ان يصحو بفعل التصفيق ليجد نفسه مرة اخرى قد حضر .. حضورا خالدا..
مع البعد الثاني ( عارضة الأزياء ) يتجسد هدف فن الأزياء, وتبدو الأزياء هنا اقسى صياغات الفن تجاه الجسد حيث ندرك طابع تجنيد الجسد وجعله الوسيلة لتحقيق الطموحات .. ففي هذا البعد بالكاد ما نجد ذلك التفرد الذي يشكل حضور العارضة لأنها من ناحية تخضع لنظام صارم من التحركات والقولبة الذي يغيبها عن الخط العادي للإنسانية .. فهي منذ البدء تجاهد في حبس الجسد وتطويعه لنظام غذائي معين واخضاعه لقواعد وتحركات وانظمة دقيقة تعمل على انتفاء فعاليته وتجعله آلة تحقق من خلاله الطموح والرغبة, فتخضع لذلك السيل المتراكم من التعديلات والترميمات الشكلية ومن الالزامات الداخلية ومن توجيه الإرادة في قالب يخضع لقواعد صارمة, الذي لن تعمل العارضة يوما ولا حتى تفكر في ان تكسر هذه القواعد لأنها طوبات مجدها ومن ناحية أخرى فإنها تتلاشى وسط ذلك الحشد من الوجوه الجميلة والألوان الزاهية والحركات الرشيقة وتلك الأجساد الممشوقة التي تشكل الجوقة التي تتشابه فيها الإمكانات والمواهب والوظائف والوجوه فيجعلنا امام باقة من الزهور الملونة التي يحار المرء في اختيار الأجمل, حيث تختفي الفردانية ويضيع الحضور الخاص بكل عارضة وتتلاشى كانسان وتبدو كآلة تعمل على رسم الحركات لتكمل حلقة المجموعة كونها عنصر من عناصرها, فتتلاشى ضمن الجوقة, وحضورها يتجسد فقط من خلال ما تشكله مع أدوات الجوقة الأخرى من نجاح وكمال, بمعنى ان حضورها جماعي وليس فرديا...ويبدو الأمر شبيها بما رآه زوربا من بوبولينا الهرمة, عندما رآها متجسدة بالمرأة التي تختفي خلفها الفردية وينمحي أمامها الوجه سواء كانت شابة ام هرمة, جميلة ام قبيحة معلنا ان وراء كل امرأة ينتصب وجه افروديت صارما مليئا بالأسرار, قريبا من هذا يبدو الأمر الذي تتلاشى به الفردانية الشخصية تحت اسم العارضة, تلك المرأة الآلة التي تخفي كل الأسرار..
ولكن في سلبية الغياب والتلاشي هذا يولد نقيض الايجابي وهو الحضور المتمثل بالمجد, فالعارضة من خلال جسدها قد بنت طوبات مجدها الذي تقاس معه صلابتها وعظمتها في مدى قدرتها على التقولب وتجسيد النظام والذكاء في بسط ورشاقة الحركات والقدرة على الاستسلام للماكير والمصمم في إلباسها وتجميلها وتجهيزها كتحفة فنية ثمينة, كوسيلة, كأداة لتحقيق النجاح والتفوق..
هنا يجدر بنا ان نسال عارضة الأزياء ان كانت تعي عمق الزينة هدف الملابس التاريخي الأول أمام نجاحها؟
ربما هذا الوعي يلمحه البعد الثالث ( المقيم ) كونه هو من يصنع الحضور والغياب, فمع المقيمين يتحرر للإنسان داخل العارضة ذلك عندما يفاضلونها ويمايزونها بتقييمهم للباسها او لطريقة عرضها او لجمالها او لرشاقتها, فتفتح نوافذ عالمها الذي يشاركها به المصمم, وخلف هذه الشراكة تبدأ النوافذ الأخرى بالتجسد وهي نوافذ أكثر خصوصية تمثل عالمها الخفي, الفرداني الذي ربما تكون هي لا تعرفه ايضا لأنه قد ضاع منها.. ونكتشف في هذا المجال بان مسالة اكتشاف الفردانية مرهونة بالآخرين وبمدى قدرتها على تطويع حواجزها لخصوصياتها..
وبالنتيجة عندما دخل بعدا النجاح والتفوق في صنع الملابس بات الأمر مع تطويع الملابس يمثل سر هذا العمل والجهد المضني .. ولكن بعيدا عن هذه الدائرة فإننا كثيرا ما نطوع الملابس لتلاؤمنا ومع إننا أوفياء للهدف التاريخي (الزينة) فان الأمر معنا تعدى هذا الهدف فنحن لا نستطيع الاستمرار بدون ملابس التي تشكل المجتمع بأنواعه من ناحية ومن ناحية اخرى اننا قد اصبحنا نفكر بالدفء, وربما البرد جعلنا نفكر بالحياء الذي غطانا بالملابس حتى في اشد الأيام حرارة, وقد يكون لدينا هدف خفي هو الانتصار على ألبسة الحيوان الخالدة التي قد تشكل اكثر القيود ضراوة من تلك التي عرفها الإنسان (الملابس).
#افراح_لطفي_عبد_الله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟