|
رجع الوجع / رواية بحلقات / 15
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3521 - 2011 / 10 / 20 - 22:34
المحور:
الادب والفن
ينفذ كريم خطته بنجاح تام ، و يرسل القاتل إلى مكانه اللائق الذي ينتظره منذ زمن طويل في جهنم و بئس المصير ، و يصل فجر اليوم التالي تكريت . يرمي المسدس في نهر دجلة ، يشتري كبشاً سميناً ، و يقف مبتسماً أمام دار فرحان شيخ عشيرته بصحبة الكبش . يسلمه للشيخ ، و يشرب الشاي في داره ، و يبلغه بأنه قادم إليه من كركوك ، و يعقد معه صفقة لبيعه عشرين كبشاً سميناً يسلمها للشيخ فرحان في مرآب السيارات لقرية مرعي صباح يوم الغد ! بعد كتابة عقد البيع و توقيعه و تأرخته ، يودّع الشيخ ، يكتري سيارة أجرة صغيرة من تكريت لقرية مرعي مباشرة . و حالما يدخل داره ، يحرق كل ملابسه بالتنور ، و يغتسل . يرتدي بذلة العيد الجديدة : الزبون و السترة ، و يعتمر شماغه و العقال ، و يتمنطق ببندقيته ، و يركب حصانه ، و يأخذ عدته التي أعدها لهذه المناسبة من قبل ، و يذهب للمقبرة . يقرأ الفاتحة عند رأس قبر القتيل ، و يسكب ماء الجود على القبر ، و يوقد شمعتين ، و يصلي ركعتين . ثم يخاطب أخاه و الدموع تترقرق في عينيه : - فلترقد روحك الحلوة بسلام الآن يا عمران ، فقد وفق الله أخاك بأخذ ثأرك من الغادر حسب الأصول . نم قرير العين يا شهيد الغدر ، و إلى الملتقى في يوم قد يكتب الله لنا فيه أن نتعانق من جديد ! ينتحب و ينتحب و ينتحب ! ثم يمسح دموعه ، و يتفقّد جوانب القبر : يعجب لوجود ساقي زنبقتين ، أحدهما ينبع من جانب قبر أخيه ، و الثاني من القبر المجاور له . و بسبب ثقل الوردتين ، ينطرح كل ساق منهما على التراب زاحفاً باتجاه الآخر ، فتتلامس الوردتان في عناق فاتن بهيج . يبتسم ، و يؤدي التحية للقبر ، و يعود لداره ، فينام مرتاحاً لأول مرة منذ اليوم المشؤوم لمقتل أخيه ذاك ! بعد حوالي ستة شهور ، يزور المختار الحاج جاسم هبلو دار كريم عصراً . يستقبله عبعوب عند باب الدار بقفزاته المشرئبة أولاً ، و بهمهماته الحميمة عند قدميه و هو يهز ذيله ثانيأً ، فيربت له المختار على رأسه كما يربت على رأس طفل لامع جميل . يبتسم له عبعوب ، ثم يجلس عند باب الدار مستقراً برأسه الممدود على الأرض كمن يتشمم شيئاً بعيداً . يدخل جاسم الدار ، فيجد كريماً واقفاً في رواق الحوش ليشرف على قيام إبنه محمد بحلب نعاجه . يرحب كريم بالضيف أجمل ترحيب ، و يجلسان معاً في غرفة الإستقبال . يلاحظ كريم أن جاسماً لا تفارق الإبتسامة العريضة فمه ، و مقلتاه تتلألآن كالدر الأسود الشفاف ، و تنتفخ أوداجه السمر بحمرة خمرية غير معهودة . يستوجف خيفة من زيارته المفاجئة هذه ، و إبتسامته العريضة ، و يلفه دثار سميك من القلق . يا ترى ما وراءه ؟ - جئت أبشرك يا ولدي كريم : الحمد لله ! لقد إنتقم الله لك من قاتل أخيك المرحوم عمران ! هل سمعت بالخبر ؟ - لا ! أي خبر تقصد ؟ - لقد قُتل حمود الأعور ، و إلى جهنم و بئس المصير ! أحمد الله أنك لم توسخ يديك بدمه النجس ! - و من قُتله ؟ - قتله فهمي منير : عشيق البعيدة زوجته ! بدأت كتل الخوف المتراكم في ذهنه تنصهر ، ثم تبخرت كلها دفعة واحدة . الحمد لله مخزي الغدّارين ! - صحيح ؟ - نعم ، و لقد إعترفت البعيدة عليه . - و لماذا قتله ؟ - ضبطه حمود الحايف داخل داره ليلاً ، فخاف فهمي منه ، و سحب مسدسه "البراوننغ" ، و أصابه بين عينيه بالضبط . اخترقت الرصاصة جمجمته من الخلف ، فسقط حمود الحايف قتيلاً غير مأسوف عليه ! - و من هو فهمي هذا ؟ - ألا تعرف فهمي منير ؟ - لا ! - كيف لا تعرفه ؟ خاله هو زيدان ! - صحيح ؟ - لقد ظهر للشرطة أن فهمي هذا مجرم خطير : قاتل ، و سارق ، و تاجر أسلحة ! كما أنه إعترف للشرطة بقيامه بابتزاز عدة عشيقات له من أزواج الشيبة الأغنياء ، و بضمنهم الزوجة الجديدة للحاج سالم ! - أستغفر الله ! - للأسف الشديد ، نعم . نلك هي الحقيقة الصارخة و المؤلمة : شيب و عيب ! قل للحاج سالم : " ما الذي يجعلك تترك دارك التي كنت تعيش فيها معززا مكرماً هنا ، و زوجتك القديمة أم أولادك ، و أنت شيخ مريض ، فتتزوج ممن هي بعمر حفيداتك ؟" ألم تفكر لحظة بأن مثل هذه الزوجة الشابة لرجل عجوز مثلك ستضع عينها على شاب وسيم مثلها ؟ أنظر يا كريم الفرق بين رجالنا و الرجال ببغداد : المرحوم أخوك كان يدخل و يخرج من دار الحاج سالم و هو يقدس زوجته المرحومة ! لم يكن يسمح لها حتى أن تشيّعه لباب الدار حرصاً عليها من عيون الناس ! أما في بغداد ، فقد إعترفت الزوجة الجديدة للحاج سالم للشرطة بأنها كانت تبيت عشيقها في غرفة ثانية بدارها ، و تلتحق به في الليل بعد نيام زوجها ! مسكين ! صدق من قال : من ترك داره ، قلَّ مقداره ! - و كيف تم إلقاء القبض على القاتل ؟ - بفضل الزوجة ! عندما شاهدت البعيدة زوجها حمود الحايف ساقطاً على الأرض و الدم ينبع من رأسه ، و عشيقها في الدار ، صرخت بصوت رهيب : "يبووو ، يبووو ، حرامي ! حرامي ! حرامي ! " كي تُبعد عن نفسها الشبهة ، فأسرع الجيران بدخول الدار ، و ألقوا القبض على القاتل و بحوزته سلاح الجريمة : مسدس "براوننغ" ! - و هل عرفت أين قبضوا عليه ؟ - داخل الدار ؛ مختبئاً في بيتونة السلم المؤدي لباب سطح الدار ! - و هل إعترف بجريمته ؟ - الغريب أنه أنكر أول الأمر . فقد إعترف للشرطة بإقترافه جريمتي قتل سابقتين لإمرأتين عجوزين بقصد السرقة ، غير أنّه لم يعترف بقتل الحايف ! و بعد ورود تقرير فحص الدلالة من مديرية الأدلة الجنائية و الذي أثبت أن الرصاصة التي إخترقت رأس الحايف تتطابق مع عيار ذخيرة المسدس "البراوننغ" المضبوط بحوزته ، إنهار و أعترف بجريمته ! - و أين هو الآن ؟ - في قاطع الأحكام الثقيلة بأبي غريب : حكمت عليه المحكمة بالسجن خمسة عشر سنة مع الأشغال الشاقة ! كما أن عشيرة العوجان قد أرسلت رسولاً يطالب عشيرة الدليم بديّة حمود ! - و ما ذا حصل لزوجة البعيد حمود ؟ - تم توقيفها أسبوعين ، ثم أطلق سراحها بعد أن شهد كل الجيران على أن صراخها هو الذي أدى إلى إلقاء القبض على القاتل ، الذي عمد إلى ضربها ضرباً مبرحاً كي تكف عن الصراخ حتى لا تنكشف جريمته . و لم يثبت للشرطة وجود علاقة لها بترسانة الأسلحة التي عثروا عليها في دارها ! - ترسانة الأسلحة ؟ - نعم ! لقد عثرت الشرطة في دار حمود الحايف على مائتي رشاشة "بورسعيد" جديدة مكتوب عليها : "هدية الجمهورية العربية المتحدة للجمهورية العراقية" مع عتادها ، و ثمان و تسعون بندقية "سمنوف" مع عتادها ، و خمسين مسدس "برواننغ" مع العتاد ، و قنابل يدوية هجومية و دفاعية ! أنت تعلم أن البعثيين يتاجرون بالأسلحة المسروقة من مخازن الجيش العراقي منذ يوم تأسيس حزبهم ! و عندما سألت الشرطة زوجة الحايف عن مصدر كل تلك الأسلحة ، أجابتهم بأنها من بقايا أسلحة الحرس القومي الضرورية لإبادة الشيوعيين و أعوانهم تنفيذاً لبيان العقيلي الذي ينص على ذلك و بالحرف الواحد ! - أكيد أن الأسلحة المذكورة كانت معدة للقيام بإنقلاب دموي جديد ! - نعم ! فبعد العثور على مخزن الأسلحة في دار حمود الحايف ، جاءت إستخبارات الجيش للمنطقة ، و داست مفارزها الأمنية كل بيوت محلة البيجية ، فعثرت فيها على كميات مهولة من الأسلحة ملئت ثلاث شاحنات "زيل" عسكرية كاملة . كما ألقت القبض على أكثر من عشرين رجلاً من سلابات الحرس القومي القديم ، و بضمنهم زيدان و زوج أخته منير ! - زيدان و منير ؟ - نعم ! لقد ثبت أنهما كانا يتاجران بالأسلحة المسروقة من الجيش ، و أن الذي كان يجهزهما بها هو حمود الحايف ! - و ما ذا حصل لزيدان و منير ! - حكم عليهما بالسجن سبع سنين لكل واحد منهما ! - كل هذا يحصل و أنا لا أعلم به ! و من أخبرك بكل هذه المعلومات ؟ - إبن أخي الطيار عدنان الذي يسكن في محلة البيجية أيضاً . - لا حول و لا قوة إلا بالله ! - مستحقون و أكثر ! خصوصاً حمود الحايف . و بشّر القاتل بالقتل و لو بعد حين ! مات ميتة الخنزير في عقر داره ، و فوقها فضيحة تشيب الرؤوس ! و تلك هي حوبة المرحوم عمران ! أما الزبد فيذهب جفاءً ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . ألف رحمة الله عليك يا عمران ، يا نجيب يا إبن النجباء ! ينحب الرجلان ، ثم يقبل أحدهما الآخر ، و يتوادعان ، و يغادر المختار الدار و هو يمسح عينيه بشماغه الأحمر . بعد خروج المختار ، يسترجع كريم شريط أحداث ليلة مقتل حمود الحايف . عندما تسلل للدار ليلاً قبل عودة القاتل من سهرته ، وجد الباب الخارجي الخلفي للدار غير مغلق تماماً ، مثلما كان عليه في الليلة السابقة ، ربما للسماح للعشيق بالدخول و الخرج من الدار بيسر . و سمع حواراً يدور بين زوجة حمود و عشيقها في غرفة النوم ، إتفقا خلاله على أن يبقى العشيق في الدار لحين مجيء زوجها ، و إستغراقة في النوم ، كي يتسنى لها أخذ مفتاح مخزن الأسلحة في الطابق العلوي من جيب سترته ، و فتح المخزن ، و إعطائه بندقية "سمنوف" ، ليبيعها بمعرفته ، و يتصرف بثمنها . و طلبت منه الاختباء بدون الإتيان بأية حركة خلف كدس الفراش و البطانيات في البيتونة لحين مجيئها إليه في الوقت المناسب و مناداته همساً . عندها قرر كريم تعديل خطته بحيث يفاجئ القاتل داخل داره و ذلك بالدخول عليه من الباب الخلفي غير المغلق تماماً كي لا يعطيه الفرصة لإستخدام أي سلاح لديه ضده . بعد عودته للدار ، يتوجه القاتل حمود الحايف إلى غرفة النوم مباشرة ، و ينادي على زوجته . و حالما تلتحق به ، يغلق عليها باب الغرفة ، و يتهمها بكونها تسرق الأسلحة من مخزنه ، بدليل وجود نقص بندقيتين "سمنوف" لديه ، حيث أنه قد تأكد من عددها الصحيح بنفسه من مجهزه هذا المساء ، و يطلب منها التصريح له بإسم من تعطيها له فوراً . تنكر زوجته وجود أي علم لها بهذا الموضوع ، فيضربها ضرباً رهيباً بحزامه . تصرخ ، و تشتبك به تريد عضه ؛ فيوثق فمهما ، و يشد قدميها بسرير النوم ، و يبدأ بضربها من جديد ضربات سريعة متلاحقة و كأن ذراعه ماكنة ضرب بقوة عشرين حصان ! ثم يفتح وثاق فمها و هي تشخر من حدة الألم ، و يطلب منها مرة أخرى الإعتراف ، و يهددها بأنه سيخرجها عارية للشارع لتصبح فرجة للناس إن لم تعترف له باسم من أعطته البنادق فوراً ! يهتبل كريم أصوات الصراخ و الضرب بالحزام ، فيدخل الدار بسرعة من الباب الخارجي الخلفي . و حالما يتوقف الضرب ، و ينهي القاتل جملته الأخيرة ، يطرق كريم بجمع يديه على الباب الخشبي لغرفة النوم ثلاث نقرات قوية متتالية ، ثم يصدر الهمسات التي حفظها عن ظهر قلب و هو يصوب المسدس بيديه نحو الباب ، و ما أن يخرج له حمود ، حتى يرديه قتيلاً و هو يسمّر عينيه بعينيه ، و ينسحب بخفة الفهد . يتبع ، لطفاً !
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 14
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 11
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 8
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 7
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 6
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 5
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 4
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 3
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 2
-
رجع الوجع / رواية بحلقات
-
كتاب الدرر البهية في حِكَمْ الإمبريالية الأمريكية
-
رسالة من طفل عراقي إلى الرئيس بوش
-
ملاحظات شخصية في الترجمة
-
الحدّاد و القوّاد
-
سيّد خوصة : المناضل سابقاً و المجاهد لاحقاً
-
آخر أحكام رب العالمين في أهل العراق
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|