|
في نقد الإشتراكية السوفياتية
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 3520 - 2011 / 10 / 19 - 19:20
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في نقد الإشتراكية السوفياتية
قبل الشروع في الكتابة عن نقد الإشتراكية السوفياتية تلزم الإشارة إلى نقطة جوهرية يتوجب أخذها بالاعتبار دائماً في سياق موضوعنا ألا وهي أن كل نقد للإشتراكية السوفياتية لا يتم دون أن يكشف منهج الناقد فيما إذا كان ليبرالياً أم ماركسياً أو مادياً أم مثالياً، كما يكشف الأغراض الذاتية للناقد. ليس من ناقد دون ذات، حتى الماركسيين الذين يتوخون دائماً الاعتماد في أبحاثهم على الحقائق والوقائع ليسوا مطهرين تماماً من الذاتية، لكنهم يبررون ذاتيتهم بأنها بروليتارية على اعتبار أن دكتاتورية البروليتاريا هي نهاية الصراع الطبقي ونهاية التاريخ كما تؤكد النظرية الماركسية. خلاصة القول في هذا السياق هي أن جميع المراجعات التي ظهرت حتى اليوم لانهيار الاشتراكية السوفياتية هي إِغْراضية وهو ما تقوله هذه المقالة؛ بل إن ندرة هذه المراجعات لحدث تاريخي وعالمي يلامس بقوة مصير البشرية جمعاء تشير إلى صعوبة ستر أغراض المراجع، لذلك يفضل أن يلوذ بالصمت المطبق على أن يفضح أغراضه التي غالباً ما تكون ذاتية بورجوازية.
فيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي شاع بين العامة مقولة " انهيار الايديولوجيات ". ليس مثل هذه المقولة ما هو تضليلي ومشبع بالذاتية والإغْراضية. العامة نقلوا هذه المقولة عمن يوصفون عادة بالمحللين الاستراتيجيين؛ وهؤلاء المحللون استحضروا مختلف الإيديولوجيات وقالوا بانهيارها لا لسبب إلا لكي يقولوا بانهيار الماركسية وهو بيت القصيد. ليس أقصر قامة وأكثر تضليلاً من هؤلاء المحللين ممن يوصفون زوراً بالمحللين الاستراتيجيين، إذ ليس من ايديولوجية قامت على وجه الأرض لتنهار. فالإيديولوجيا وبغض النظر عن أهدافها هي دائماً مثالية وليست ن نبت الأرض، تبني مشروعها في الخيال دون أن يلامس الأرض. يذكر من أصحاب الإيديولوجيات في عرض التاريخ الحشاشون في إيران قبل عشرة قرون، والنازيون في ألمانيا، والفاشيون في إيطاليا، والخمير الحمر في كمبوديا قبل عدة عقود، وهم الذين حاولوا تحقيق ايديولوجياتهم الخاصة والغريبة على عصورهم وفشلوا فشلاً ذريعاً حتى غدوا من اسوأ الأمثلة في تاريخ البشرية. أضف إلى أن النبي محمد كان قد فشل قبل أربعة عشر قرناً في بناء نظام اجتماعي يفكك القبلية البطريركية السائدة آنذاك ويقيم شبكة أمان اجمتاعية لليتامى والفقراء المساكين وهو الهدف الرئيس للدعوة الإسلامية التي لم يتعرّف عليها المسلمون بعد النبي، فكان أن استعادت قبيلة قريش سيادتها قبل أن يدفن النبي في التراب فقالت " الخلافة في قريش " وأوغل الصحابة القرشيون بعدئذٍ في نهب بيت مال المسلمين دون اعتبار ليتيم أو فقير. وهنا يحضر بقوة قول ماركس.. " نعم، الإنسان هو من يصنع التاريخ لكن ليس وفق مشيئته " ــ وهو ما يعني أن الحياة البشرية تحقق ذاتها وفق شروطها بواسطة الإنسان، وفق شروط الواقع وليس وفق أية إيديولوجيات. ثم إن هؤلاء الأدعياء في التحليل الاستراتيجي لا يعرفون شيئاً من الماركسية حيث كان ماركس قد تحاشى نهائياً أن يكتب شيئاً للتطبيق. ماركس اكتشف منهجاً للتحليل يكشف ميكانزمات تطور المجتمعات البشرية، وهو " المادية الديالكتيكية "، المنهج الذي ثبت علمياً أنه القانون العام للحركة في الطبيعة. فالقول بانهيار الماركسية لا يعني سوى أن الطبيعة لا تتحرك أو لم تعد تتحرك وفق قانون المادية الديالكتيكية وهذا ما لم يقل به علماء الطبيعة من مختلف الاختصاصات؛ أو أن نقد ماركس للنظام الرأسمالي لم يستوِ مع قانون المادية الديالكتيكية وهذا ما لم يجرؤ أي من علماء الإقتصاد على قوله، ولنا أن نشير في هذا المقام إلى تهافت الأمريكان والأوروبيين على دراسة "رأس المال" لماركس لدى تفجّر الأزمة المالية مؤخراً، وإلى شهادة بابا روما إذ شهد قبل أشهر قليلة بأن كارل ماركس هو أعظم من نقد النظام الرأسمالي. ماركس لم يرسم أي مخطط لأي بناء لينهار فيما بعد. الإشتراكية السوفياتية كانت جميعها من ألفها إلى يائها من صناعة لينين. لم يوصِ ماركس صراحة بحرف منها. كل ما قاله ماركس في موضوع الإشتراكية باعتبارها الفترة التمهيدية للإنتقال إلى الشيوعية ــ وهو ما يعني أن الإشتراكية ليست نظاماً إجتماعياً مستقراً كما يُساء اعتبارها ــ هو شرطان تقريريان وهما، أن تكون هناك ثورة بروليتارية تنهي النظام الرأسمالي، ثم أن يتم تطبيق الإشتراكية في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا حصراً. حتى هذين الشرطين لم يتوفرا كاملين لمشروع لينين للثورة الاشتراكية. فما قام به البلاشفة بقيادة لينين في 25 أكتوبر(شرقي) 1917 هو انتفاضة لتصحيح مسار الثورة البورجوازية بعد أن تقاعست الحكومة البورجوازية برئاسة كيرانسكي عن التقدم في تحقيق برنامج الثورة المعلن مسبقاً قبل ثمانية شهور وأهم ما فيه هو الخروج من الحرب في حين كانت جيوش ألمانيا القيصرية تحتل أوكرانيا وبلوروسيا وتهدد باحتلال موسكو وبطرسبورغ، دون أن ننسى أن الأممية الثانية كانت قد قررت في مؤتمرها العام في بازل 1912 أن الثورة البورجوازية لن تقوم في روسيا إلا على أيدي الاشتراكيين. لكن تحويل إنتفاضة أكتوبر 1917 إلى ثورة إشتراكية في مارس 1919 كان حقيقةً بفعل البورجوازية أكثر مما هو بفعل الشيوعيين البلاشفة. فقد أصرّت البورجوازية بمختلف أطيافها، والمنشفيك منها، على شن حرب تصفية ضد البلاشفة في مارس 1918 فكانت النتيجة في مارس 1919 أن تم سحق البورجوازية وتصفيتها وبذلك سُدّت طريق التنمية البورجوازية، فكان إعلان لينين عن ثورته الاشتراكية العالمية من خلال تشكيل الأممية الثالثة. وهنا لا يجوز لأردأ المحللين الاستراتيجيين النظر للينين غير أنه قائد بروليتاري طليعي ثوري لا تلين له قناة. أما شرط ماركس الثاني فلم يتحقق إلا جزئيا عِبر لينين وتلميذه العبقري ستالين اللذين خاضا نضالاً قاسياً وصعباً وصل إلى إعدام عدد من أعضاء لجنة الحزب المركزية ومكتبه السياسي جرّاء خيانتهم أو انحراففهم عن الخط الدقيق لدكتاتورية البروليتاريا دون الوصول بعد كل ذلك إلى توطيد دكتاتورية البروليتاريا الكاملة وذلك لأسباب كثيرة لا مجال للبحث فيها وأهمها الحروب والمؤامرات المتواصلة ضد الدولة السوفيتية من تدبير الرأسمالية العالمية وحرمان الإشتراكية السوفياتية من التطور السلمي. إن آخر خطاب لستالين في الهيئة العامة للحزب في نوفمبر 1952 يطعن فيه بأهلية قيادة الحزب كاملة بقيادة العمل الشيوعي لهو برهان قاطع بأن دكتاتورية البروليتاريا لم تتحقق راسخة رغم كل الجهود العظمى بكل المقاييس التي بذلها ستالين على مختلف الأصعدة. وهكذا يمكن القول أن شَرطَي ماركس المقرِرين للإشتراكية لم يتوفرا كاملين لدى مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية؛ لكن هذا لا يعني أبداً أن مشروع لينين كان محتوماً فشله كما يزعم البعض، بل كانت فرصة نجاحه أعرض من فرصة انهياره.
كل ما قام في الاتحاد السوفياتي منذ السادس من نوفمبر 1917 وحتى الثاني والعشرين من يونيو 1941 (يوم العدوان الهتلري) كان من صناعة لينين. رحل لينين في يناير 1924 وخلفه تلميذه الوفي ستالين حتى مارس 1953. كل ما قام به ستالين منذ توليه قيادة الدولة 1922 وحتى بداية الحرب العظمى 1941 كان من تخطيط لينين، منه التصنيع السريع 1928 ـ 1938 أو الانتقال إلى الزراعة التعاونية 1929 ـ 1931 أو حتى الخروج من خطة لينين في العام 1926 "السياسة الاقتصادية الجديدة" ـ (النيب)، حيث أوصى لينين في تقديمه للخطة في العام 1922 أن دولة البروليتاريا تسمح بالتراجع إلى الإقتصاد البورجوازي بهدف أن يتعلم الشيوعيون إدارة المشاريع الاقتصادية شرط ألا يستغرقهم ذلك طويلاً كيلا يكون هناك خطر حقيقي على الثورة. لينين ظل حاضراً بقوة في كل سياسات تلميذه النجيب الرفيق ستالين. لولا التطبيق الأمين والدقيق لسياسات لينين لما تمّكن الإتحاد السوفياتي من رد العدوان النازي وإلحاق الهزيمة الساحقة الماحقة بألمانيا الهتلرية (1941 ـ 1945)، وما كان بنفس العزم والتصميم أن ينجز إعادة إعمار ما دمرته قطعان الوحوش الهتلرية، وهو الأفظع بكل المقاييس، خلال خمس سنوات (1945 ـ 1950) وإعادة العمران إلى أفضل مما كان عليه قبل الحرب.
خروج الاتحاد السوفياتي من الحرب كأقوى قوة في الأرض سمح لقيادة الدولة وعلى رأسها رفيق لينين وتلميذه الأمين، يوسف ستالين، أن تخطو خطوة حاسمة وتقريرية في عبور الإشتراكية ــ رغم أن الطبقة الوسطى كانت قد تقدمت بصورة محسوسة جرّاء أعمال الحرب ــ وهو الأمر الذي يجهله أو يتجاهله عمداً ناقدو الاشتراكية السوفياتية مما يُفقِدهم كل أرضية لنقدهم. في العام 1950 شرعت قيادة الحزب بمناقشة المسألة الزراعية في الإتحاد السوفياتي وبتعقيداتها المتشعبة الناجمة أصلاً عن احتفاظ الفلاحة السوفياتية (الكولخوزات) بطابعها الفردي البورجوازي. كان أي تقدم في عبور الاشتراكية يقتضي بداية التخلص من الطابع البورجوازي في الاقتصاد الزراعي وهو ما يستوجب محو طبقة الفلاحين وتحويلها إلى بروليتاريا. إذّاك جرت مناقشات حامية وطويلة في قيادة الحزب باشتراك نشط من ستالين وأعضاء من المكتب السياسي ومجموعة من المتخصصين في الاقتصاد الزراعي، وانتهت المناقشات إلى أن تخصص الدولة الجزء الأكبر من مواردها للصناعات الخفيفة بهدف تحسين مستوى حياة البروليتاريا قصراً وهو ما يدعو الفلاحين لأن يتخلوا طوعاً عن الفلاحة للإلتحاق بطبقة البروليتاريا. كان هذا هو جوهر الخطة الخمسية التي أقرها المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي البولشفي في أكتوبر/نوفمبر 1952.
يستحيل نقد الاشتراكية السوفياتية دون التوقف عند ذلك المؤتمر طويلاً ــ بل ونهائياً بمعنى من المعاني ــ لاعتبارات عديدة أهها . . (1) كان ذلك المؤتمر هو آخر مؤتمر يحضره ستالين ويقرر السياسات النوعية التي رآها ستالين بحضوره الطاغي جوهرية ولازبة للتقدم في عبور الاشتراكية عبوراً قاطعاً خاصة وقد أحس ستالين بدنو أجله بسبب التقدم بالعمر، هو ومعظم أعضاء المكتب السياسي للحزب. (2) في خطابه للمؤتمر طعن ستالين بكفاءة جميع الأعضاء في قيادة الحزب حيث حماسهم لقضية الشيوعية غدا فاتراً بسبب تقدمهم في العمر وضعفهم في التحصيل الماركسي، ولذلك أوصى باستبدالهم بمن فيهم هو نفسه في أقرب وقت خلال عشر سنوات بطواقم شابة يغمرها الحماس لقضية الشيوعية ــ اقترح ستالين إعفاءه من وظائفه مرتين للمؤتمر وتم رفض الإقتراحين بالإجماع (3) كضمانة لأهلية قيادة الحزب، طلب ستالين مضاعفة عدد أعضاء المكتب السياسي ليغدو 24 بدلاً من 12 وقد جرى المصادقة على ذلك الإقتراح ووضع خطة تفضي إلى تجديد القيادة بكوادر شابة. (4) كان القرار الأهم الذي اتخذه المؤتمر العام التاسع عشر للحزب هو الخطة الخمسية لللأعوام 1952 ـ 1956 القاضية بالتحول إلى الصناعات الخفيفة بهدف تحسين أحوال البروليتاريا قصراً ورفع مستواها المعاشي من أجل محو طبقة الفلاحين كما شرح ستالين ذلك في كتابه الهام الصادر في العام 1952 تحت عنوان " المسائل الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي ". (5) تأكيداً لأهداف الخطة الخمسية القاضية بإلغاء طبقة الفلاحين قرر المؤتمر العام للحزب حذف صفة " البولشفي " من اسم الحزب وهي الصفة التي كرسها لينين تعبيراً عن التحالف بين البروليتاريا من جهة والفلاحين من جهة أخرى. إلغاء صفة البولشفي من اسم الحزب يعني مباشرة أنه لن يكون هناك طبقة فلاحين بعدئذٍ ليتعاون معها الحزب.
لم يكن المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي السوفياتي في أكتوبر/نوفمبر 1952 هو آخر مؤتمر يحضره ستالين، ولم يكن هو آخر مؤتمر للحزب الشيوعي كحزب بولشفي، بل كان في الحقيقة آخر مؤتمر للحزب كحزب شيوعي يتنفس اللينينية ويقود مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية. الحزب الشيوعي، حزب الشيوعية، حزب لينين وستالين، انتهى بعد ذلك المؤتمر التاريخي والمفصلي بكل ما في الكلمة من معنى ورحيل ستالين بعد ثلاثة شهور.
بعد ثلاثة شهور فقط وتحديداً في الخامس من مارس 1953 رحل ستالين ــ وكل الدلائل تشير إلى أن لافرنتي بيريا، وزير أمن الدولة، كان قد دس السم في شراب ستالين أثناء تناول العشاء معه في عشية الأول من مارس في منزل، ستالين ولذلك حوكم بسريّة مطلقة خلافاً للأنظمة المرعية وأعدم ــ بعد رحيل ستالين أصيبت القيادة بالإرباك مما أكد تقييم ستالين لأعضائها بأنهم ليسوا على قدر المسؤولية مما أتاح الفرصة عريضة للقيادة العسكرية بالتدخل وتقرير سياسات البلاد بدل الحزب، ويذكر هنا أن ستالين كان شديد الحرص على إبعاد العسكر عن دوائر الحزب العليا وتأثيرهم على قراراته. بضغط من العسكر وتعاون من خروشتشوف وميكويان وآخرين اجتمع المكتب السياسي للحزب في سبتمبر 1953 واتخذ قراراً في غاية الغرابة ومخالفاً للأعراف والأنظمة والقوانين، وقرر إلغاء كل أعمال وقرارات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب جملة وتفصيلاً !! ما الداعي لأن تقترف القيادة مثل هذه المخالفة الصارخة ؟ كيف للقيادة المنتخبة لتنفيذ برنامج الحزب تقرر إلغاء البرنامج وهو ما يعني إلغاء أسباب وجودها، إذ لا يحق لأي جهة حتى تعديل أي تفصيل في البرنامج غير المؤتمر العام ؟ مثل هذه التساؤلات الحدية يمكن للباحث الجاد تعليلها وتفسيرها، لكن ثمة تساؤلات حديّة أخرى يصعب تفسيرها وأولها .. لماذا لا يتوقف إطلاقاً أي من الباحثين في أسباب إنهيار الإتحاد السوفياتي أمام ذلك القرار وتلك المخالفة غير الشرعية لقيادة الحزب مع أنها أدت إلى استقالة مالنكوف الذي حل محل ستالين في قيادة الحزب والدولة ليحل محله خروشتشوف الذي جاء موضع ترحاب دوائر الرأسمالية العالمية والتصفيق له عاليا، لماذا ؟ً
إن أي مقاربة نقدية للإشتراكية السوفياتية لا تنطلق من إجابات صحيحة لكل هذه التساؤلات تكون حكماً فاسدة. المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي قام بثورة مضادة في اجتماعه في سبتمبر 1953 ــ كيف له أن يلغي أعمال ومقررات المؤتمر العام للحزب بما فيها الخطة الخمسية؟ لا يلغي قرارات المؤتمر العام للحزب إلا مؤتمر عام آخر وليس اللجنة المركزية، أو ممثلها المكتب السياسي، وهم الذين أُنتدبوا لتنفيذ قرارات المؤتمر !! إذاً ما حدث في خريف 1953 وإزاحة مالنكوف من الأمانة العامة للحزب إنما كان انقلاباً على الحزب ، على نهجه اللينيني الذي كرسه ستالين؛ كان انقلاباً على الإشتراكية. أشار ستالين في الجزء الأول من كتابه الهام والمركزي في مقاربة الاشتراكية السوفياتية " المسائل الاقتصادية للاشتراكية في الإتحاد السوفياتي " ــ الجزء الثاني لم ينشر بأثر الإنقلاب ــ أشار إلى أن الخطة الاقتصادية القادمة ستشكل قفزة نوعية على طريق الاشتراكية تتضمن محو طبقة الفلاحين. ليس ثمة أدنى شك في أنه لو تم تطبيق الخطة الخماسية (1952 ـ 1956) التي أقرها مؤتمر الحزب التاسع عشر لتعذر على الطبقة البورجوازية الوضيعة بقيادة العسكر القيام بثورة مضادة أو أية إجراءات معاكسة. أن تنعم البروليتاريا برغد العيش كما كان مقرراً في الخطة فذلك من شأنه أن يوطد دكتاتورية البروليتاريا راسخة حتى النهاية في الاشتراكية اللينينية. لذلك، ولذلك فقط، عجّل العسكر بالقيام بانقلاب ضد الإشتراكية. استعمل العسكر خروشتشوف، الذي تملكته الرغبة في السلطة وكان مسؤولاً عن التنظيم في الحزب، وجعلوا المكتب السياسي يقوم بثورة مضادة مخالفة للدستور وللمبادئ، وليس أدل على خيانية تلك الثورة المضادة من أن قيادة الثورة وضعت كامل أعمال مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في السرية المطبقة لا يطلع عليها إلا رئيس الدولة !!! استكمالاً لتلك الثورة المضادة وقف خروشتشوف في جلسة إضافية للمؤتمر العشرين فبراير 56، ومن تقرير شخصي وسري لم يطلع عليه المكتب السياسي كما يقتضي النظام، وقف يندد بستالين باتهامات أقل ما يقال فيها أنها مضحكة مثل ممارسة طقوس العبادة الذاتية (!!)، وفي السنة التالية يونيو 57 قام بانقلاب صريح هذه المرة توطيداً لانقلاب 53 وسلطة الطبقة البورجوازية الوضيعة، فبإثْر اتخاذ الكتب السياسي قراراً بسحب الثقة من خروشتشوف وبدل أن يتنحى عن الأمانة العامة للحزب ورئاسة مجلس الوزراء، كما تقضي الأصول، طلب من المارشال جوكوف معالجة الأمر فبادر هذا وكان مرشحاً لعضوية المكتب السياسي إلى إحضار اللجنة المركزية بالطائرات العسكرية من أقاصي الإتحاد السوفياتي بحجة أن عصابة في المكتب السياسي تتآمر على الدولة والحزب. جمع اللجنة المركزية خلال 24 ساعة فقط وكان معظم أعضائها من زلم خروشتشوف وقررت باجتماعها إلغاء قرار المكتب السياسي المتعلق بسحب الثقة من خروشتشوف كما قررت فصل أربعة أعضاء من المكتب السياسي وهم الذين كانوا وراء سحب الثقة وجميعهم أقدم من خروشتشوف في الحزب. يتوجب التنويه هنا إلى أن إجتماع اللجنة المركزية غير شرعي فاللجنة المركزية لا تجتمع إلا بدعوة من المكتب السياسي والمكتب السياسي لم يدْعُها. ثم لا تملك اللجنة المركزية أن تلغي قراراً للمكتب السياسي. وكانت حجة الفصل الرسمية هي معارضة المفصولين لخطة خروشتشوف القاضية، وفق اسمها، " إحياء الأراضي البكر والبور " التي تضمنت دعم طبقة الفلاحين ومضاعفة أعدادها وتوسيع استقلاليتها من خلال تمليكها ماكنات الدولة الزراعية، بينما كانت خطة الحزب قبل خروشتشوف هي إلغاء طبقة الفلاحين ومحوها نهائياً من المجتمع الاشتراكي. وأخيراً لم يخجل خروشتشوف، يدعمه العسكر، من إعلان إدارته معادية للإشتراكية اللينينية الستالينية فأعلن رسمياً في المؤتمر العام للحزب عام 59 عدم إيمانه بالصراع الطبقي وإلغاء دكتاتورية البروليتاريا وبقاء الاتحاد السوفياتي بعيداً عن ثورة التحرر الوطني، التي يقودها مغامرون كما وصف، من أجل التصالح مع دول الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة وقد زارها بهذا المنحى.
السؤال الكبير والفيصل الذي يوجّه إلى كل المرجفين بفشل الاشتراكية وسقوط الماركسية هو .. ما وجه الشبه بين اشتراكية لينين ـ ستالين (1917 – 1953) واشتراكية خروشتشوف ـ العسكر (1954 – 1991)؟ ـ لا شيء على الإطلاق اللهمّ إلا الإسم فكلتاهما احتفظت باسم " إتحاد الجهوريات السوفياتية الاشتراكية ". اشتراكية لينين كان يقودها العمال بينما اشتركية خروشتشوف كان يقودها العسكر باعتراف خروشتشوف نفسه في مذكراته، وأنه هو نفسه لم يكن إلا صنيعة العسكر. اشتراكية لينين كانت تقوم أساساً على تطوير الصراع الطبقي بينما اشتراكية خروشتشوف كانت تقوم على سياسة التصالح الطبقي كما أكد خروشتشوف نفسه في مؤتمر الحزب العام الحادي والعشرين. اشتراكية لينين كانت تعتمد على إنتاج حاجيات البروليتاريا المتمثلة بمنتوجات الصناعات الخفيفة كما في الخطة الخمسية 1952 – 1956 التي ألغاها خروشتشوف، بينما اشتراكية خروشتشوف إعتمدت على تصنيع الأسلحة بحجة الصناعات الثقيلة التي حلّت محل الصناعات الخفيفة وكانت هدف انقلاب سبتمبر 53. الاشتراكية اللينينية اعتمدت على التخطيط المركزي وتعاون مؤسسات الإنتاج في التطوير الإقتصادي بينما اعتمدت اشتراكية خروشتشوف على الاستقلال المالي لكل مؤسسة بمنهج الربح والخسارة الرأسمالي. اشتراكية لينين اعتمدت على الوحدة العضوية بين الثورة الاشتراكية وثورة التحرر الوطني وقد تجلى ذلن بإنذار بولغانين الرهيب لحماية الثورة المصرية من العدوان الثلاثي نوفمبر 56 وإنذار شبيلوف للولايات التحدة وبريطانيا لحاية الثورة العراقية في يوليو 58 بينما اعتمدت اشتراكية خروشتشوف على الفصل بين الثورتين كما أكد في مؤتر الحزب منتقداً بقوة الإنذارين سالفي الذكر وقد تجلت سياسة خروشتشوف في موقف القيادة السوفياتية الشائن في هزيمة مصر 67 . هؤلاء المرجفون ذوو الأغراض الدنيئة يقفزون عن المناحي الأخرى لتقرير خروشتشوف السري باستثناء جرائم ستالين المزعومة ويتجاهلون رفض خروشتشوف لاشتراكية "ستالين" التي قامت على الدكتاتورية الفردية والطغيان والجرائم الدموية كما وصفها واعداً باستبدالها باشتراكية ديموقراطية ذات وجه إنساني، وقد أثبت ذلك عندما قام بانقلاب عسكري في السنة التالية، في يونيو 1957!
ليس ما هو غبي كمثل إعلان خروشتشوف عدم إيمانه بالصراع الطبقي، فالحقائق الفيزيائية تتواجد دون أن يؤمن بها أحد، وليس ما يثبت إحتدام الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي كمثل إعلان خروشتشوف هذا. اشتراكية البورجوازية الوضيعة طردت من الساحة السوفياتية اشتراكية البروليتاريا. وكان هذا أحدّ صراع طبقي ظهر في التاريخ. المرجفون وبكل وقاحة لا يعترفون بهذا الصراع وبهذا الانقلاب وهو أشبة بوقاحة خروشتشوف منكراً للصراع الطبقي في المجتمع الاشتراكي على الأقل. ينكرون هذا الانقلاب لأن إعترافهم به سيفضح أراجيفهم فيما يخص سقوط الاشتراكية وفشل الماركسية. لدى هؤلاء المرجفين أجراء البورجوازية، بل هم أنفسهم من البورجوازية الوضيعة، تشكل دعوى سقوط الاشتراكية وفشل الماركسية قضية مركزية كبرى يجب الدفاع عنها بكل السبل المتاحة ظناً منهم أن نجاحهم في هذا السياق من شأنه أن يحمي نظامهم الطبقوسطي، نظام البورجوازية الوضيعة المعتمد على دوام استنزاف الطبقة العاملة حتى النفس الأخير.
هؤلاء المرجفون من أجراء وعملاء البورجوازية لا يعلمون بأن القشّة أوهى من أن تنقذ الغريق، وأفكارهم السقيمة أوهى من أن تحمي نظامهم الوحشي الذي يتغذى على دماء البشر والبروليتاريا تحديداً. بعد ثلاثين عاماً من تعميد الاقتصاد الاستهلاكي خلفاً للإقتصاد الرأسمالي وعوضاً عن النظام الاشتراكي لم تعد البروليتاريا قادرة على احتمال علق البورجوازية الوضيعة، لم يعد لديها دماء أكثر ليمتصها علق البورجوازية الوضيعة. بغض النظر عن شتى الحقائق التي تفري عيون المرجفين والتي تؤكد أن الانهيار لحق باشتراكية خروشتشوف البورجوازية المعاكسة تماماً للاشتراكية العلمية، اشتراكية لينين التي صنعت العجائب منذ انتفاضة أكتوبر 1917 وحتى رحيل ستالين مارس 1953 حين وصلت الثورة الاشتراكية العالمية أعلى درجاتها في مختلف أصقاع المعمورة وأخذت تدق أبواب الرأسمالية في أوروبا وحتى في الولايات المتحدة بعد أن قامت الجيوش السوفياتية بسحق ألمانيا النازية التي هزمت فرنسا وبريطانيا، بينما اشتراكية خروشتشوف أخذت ومنذ البداية تعاني من الهزائم، بالانقسام الصيني السوفياتي الحاد بداية الذي وصل إلى المواجهات المسلحة على الحدود، وبفشل مشروع خروشتشوف الزراعي الذي تم طرد البلاشفة من المكتب السياسي بحجة معارضته وكانت نتيجته خسارة الاتحاد السوفياتي 30 مليار روبل أو 45 مليار دولار، ثم فشل مشروع التنمية السباعي 1959 ـ 65، ومجابهة أميركا بالصواريخ في كوبا، ثم سلسلة الانقلابات الرجعية العسكرية الطويلة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية خلال الستينيات وأخيراً وليس أخراً هزيمة مصر 67 التي لم يتردد القائد عبد الناصر في أن يواجه بريجينيف في فبراير 70 حين قال له هزيمتنا ونحن مسؤولون عنها هي هزيمة لكم، بل انتم المقصودون بالهزيمة قبلنا، ونحن دافعنا عنكم، وتساءل القائد التاريخي العالمي لثورة التحرر الوطني عبد الناصر .. لماذا لا تواجهون الإمبريالية مثلنا !؟ ـ كان ذلك أقوى صفعة توجه إلى دعي بالشيوعية. الثورة الاشتراكية لا تمت بأية صلة للعسكر والإنقلابات العسكرية، لكن اشتراكية البورجوازية الوضيعة التي قادها خروشتشوف قامت بأربع إنقلابات عسكرية. أولها الإنقلاب الفيصل، إنقلاب سبتمبر 53 والذي ألغى أعمال المؤتمر التاسع عشر وحول موارد الدولة إلى الصناعات العسكرية؛ الإنقلاب الثاني كان في يونيو57 والذي أعاد خروشتشوف إلى وظيفته بعد أن أقاله المكتب السياسي وانتهي إلى طرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي والإنقلاب الثالث في أكتوبر 64 والذي أطاح بخروشتشوف لصالح تلميذه في الخيانة بريجينيف بعد أن ألح طالباً بتخفيض النفقات العسكرية أما الانقلاب الرابع فوقع في آب حيث قام الجيش بطرد بواقي الحزب الشيوعي من السلطة وإعلانه خارج القانون.
الفول الفصل أخيراً هو أن الإنهيار لحق بالإشتراكية البورجوازية التي قامت بها الطبقة الوسطى بقيادة خروشتشوف لتنقض الاشتراكية اللينينية التي أسس لها لينين بقراءة عبقرية لماركس. لذلك على الأقل فإن مختلف حقائق التاريخ تؤكد أن الاشتراكية اللينينية القائمة على القراءة العبقرية لماركس هي قصراً النظام المستقبلي للبشرية جمعاء توطئة للشيوعية وأن مختلف الأراجيف عن سقوط الإشتراكية وفشل الماركسية إنما هي قبض الريح.
www.fuadnimri.yolasite.com
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الديموقراطية إلى الشيوعية
-
خيانة الاشتراكية وانهيار الإتحاد السوفياتي
-
دور النقد في انهيار الرأسمالية
-
المثقفون وسقوط التاريخ
-
اللغو البغو تلغيه وقائع التاريخ
-
نذر الكارثة الإقتصادية تقرع طبولها
-
الإفساد بالأدلجة
-
نقد فظ لشيوعي ناعم
-
ماذا عن وحدة اليسار
-
الإشتراكية والديموقراطية
-
لن تكون رأسمالية في روسيا
-
إنتهت الرأسمالية إلى الإنحلال وليس إلى الثورة !!
-
حاجة العالم للينين مرة أخرى
-
ماركسيون بلا ماركس
-
لماذا الأول من أيار !؟
-
المتلفعون باليسار واليسارويّة
-
العقبة الكبرى أمام استئناف العمل الشيوعي
-
الحرية ليست إلاّ شرطاً ظرفياً يستوجبه فقر أدوات الإنتاج
-
فؤاد النمري في حوار مفتوح حول: القراءة اللينينية لماركس المت
...
-
ماذا في مصر وفي تونس
المزيد.....
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|