|
رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3514 - 2011 / 10 / 12 - 11:56
المحور:
الادب والفن
بعد حوالي تسعة شهور ، و في صباح يوم شتوي قارص البرد أنزلت فيه السماء كل مخزون السنين من ثلجها القاسي الغاضب على المنطقة ، لبث عمران في بيت معزبه المختار جاسم هبلو دون أن يستطيع الخروج بالغنم للمرعى ، و راح يعلف القطيع بالتبن و الشعير . ثم ناداه المعزب إلى غرفة الإستقبال ليفطرا معاً قرب المدفأة النفطية . بعد فراغهما من طعام الإفطار ، و احتساء الشاي ، قال جاسم لعمران . - علينا الذهاب اليوم لزيارة جارنا الراعي زيدان . بالأمس ، رزقه الله بولدٍ و الحمد لله ، و لكن حرمته توفيت مع الأسف بحمى النفاس ، يرحمها الله . علينا أن نعزيه ، و نقرأ القرآن في داره لأنه رجل أمي ، و نعاونه في دفن الجنازة . صُعق من هول الخبر . و سرعان ما ومض السواد العميق لعينيه بدمع رقراق يرفض الهمل . إذن فقد حصلت المسكينة على الضنا الذي كانت تريد ، و لكنها دفعت حياتها ثمناً له . تريدون شيئاً ، و هو شرٌّ لكم ! ولادة تجلب الموت . أم أن الموت يجلب الولادة ؟ تلك هي لعبة الحياة . مسكينة منيرة : بالكاد بلغت العشرين من العمر . لعلها غضبت من شدة وقاحة الحياة و بردها ، فطردتها من عمرها . غير أنها لم تنس خلق حياة جديدة كي تعُبِّ من المخزون الدائم من الوقاحة و البرد فلا ينقص الطابور المتمدد أبداً حيزاً لقدمين . و الطفل الرضيع الذي ولد يتيم الأم ، من الذي سيرعاه ؟ إنه إبنه ! كلا ، إنه ليس بإبنه ! أمسك شاربه ، و قرصه بقوة ، حتى سقط الهمل العصي . - صار ، أبو ناظم . و لكن ما ذا عن الوليد الجديد ؟ - ما به ؟ - أقصد : كيف هي صحته ؟ - بخير ، و الحمد لله . البارحة أختك ، زوجة ناظم ، قصت له حبل السرّة ، و أرضعته الرضعة الأولى من صدرها . - و هل ستتولى زوجة ناظم رضاعته حتى الفطام ؟ - لا أظن ذلك ! أنت تعلم أن أختك زوجة ناظم مرضعة لحامد و حمود , و دِرّها لا يكاد يكفي لإشباع إبنيها التوأم . - نعم ، نعم ! إذن سيتوجب على زيدان أن يستأجر مرضعة مناسبة لوليده اليتيم ! - لا أظن ذلك ! أنت تعرف زيدان : إنه بخيل كَزّ ، و لا أظن أنه سيقبل دفع أجرة المرضعة . مسكين الطفل الذي يولد يتيماً لأبٍ جِلدةٍ مثل زيدان : شخص لا يتوانى عن محاولة عصر الدهن من النخالة ! سيحاول تلصيقه بمرضعة مجانية من أقاربه أو جيرانه ! أستغفر الله ! - لا حول و لا قوة إلا بالله ! و لكن الراعي زيدان رجل وحيد . لا أم و لا أب و لا إخوان ! - لديه أخت وحيدة متزوجة في بيجي . و قد تضم إبن أخيها إليها . - و لكن الطفل سيتيتّم هناك من كلا الأبوين ، بدلاً من يتم الأم فقط . ما ذنب هذا الطفل البريء ؟ - لا تخف عليه . سيحيا ليرث أباه . و من يدري ، فقد يصبح نسخة طبق الأصل من أبيه ؛ و من شابه أباه فما ظلم ! - و ممن أخته متزوجة هناك ؟ - من أخي زوجته المرحومة منيرة . أنت تعلم : إنها ذات المأساة البدوية إياها منذ عهد الجاهلية ، زواج الشغار : گصة بگصة ! و لا حول و لا قوة إلا بالله ! يرافق عمران الحاج جاسم في زيارته دار زيدان صبيحة ذلك النهار القطبي الليلي المشؤوم . و هناك ينضم إليهما كل من ناظم و فاضل أبني الحاج جاسم . كانت غرفة الإستقبال باردة أكثر من برودة الأرض الفضاء بسبب إنحباس الرطوبة فيها . كما و يغيب عنها النور ، و تبكي على مدفأة . يستكشف عمران بنيان الغرفة : جدران من اللبن غير الملبوخ و المتآكل ؛ سقف متهدل من أغصان الأشجار غير المهندمة بدلايات تنز بقطرات المطر ؛ شباك واحد مربع صغير عند السقف يحار من غياب إطاره و الزجاج . أرضية متماوجة من حصى الجلمود غير المتلابس الرصف . إنها قفر سجين . وهي فارغة من الأثاث تماماً إلا من حصير صغير . يسدون عليهم باب الغرفة الصفيحي لإتقاء عصف الريح المتجمدة ، فلا يعود بمستطاع أحد رؤية أحد . ينادى الحاج جاسم إبنيه ، و يهمس بإذنيهما شيئاً ما، فيومئا له برأسيهما ، و يخرجان . يجلس الحاج جاسم متربعاً على الحصير ، و يبدأ بتجويد سورة يس . أما زيدان و عمران ، فيجلسان على الأرضية الجلمودية التي تصلّ برداً ، و زيدان متمنطق بفروة معزبه . تصدح الآيات بصوت رخيم جليل ، يقطر بالحنين ، و يشوبه رجع حزين . دقائق و تنفرج الباب ، و يدخل ناظم و فاضل : الأول يحمل الزرابي و الثاني المدفأة و البرقي . ينهي الحاج جاسم تلاوته ، و يشترك الجميع بفرش الأرضية . يعلق ناظم البرقي الوهاج وسط سقف الغرفة المتدلي فيهرب الظلام . - الفاتحة على روح المرحومة أم عبد الله . يقرأ الجميع سورة الفاتحة ، يغمرهم مزاج حزين كسير . - رحم الله معيد الفاتحة ! يهم عمران بإعادة تلاوة سورة الفاتحة ، و لكنه ينتبه لزيدان الجالس بجنبه آخر الناس . فاتحته هي : "واحد ، أثنين ، ثلاث "00 إلى "عشرة" يحسبها بأصابع يديه الممتدتين على فخذيه بخشوع ! يقرص عمران شفتيه بجمع أصابع العشرة كي يمنع إنفجار فمه بضحكة مدوّية ! تنفرج الباب الصفيحية ، ليدخل المعلم نوري ، و الحاج خضير . يصافحون الموجودين ، و يجلسون : - الفاتحة على روح المرحومة ! يسارع عمران إلى الخروج كي لا يفسد مجلس العزاء باطلاق ضحكة مجلجلة . يسد باب الغرفة بسرعة ، و يخرج من الدار ، ليبدأ بالضحك و هو يعب الهواء البارد عباً . يسعل ، ثم يجلس على الدكة الكائنة إلى جانب جدار الدار ، و يبدأ بالبكاء ! تقترب منه قطة صغيرة بيضاء . ينظر إليها : إن عيونها دامعة من البرد ، و هي ترتجف رجيف الطيور بريشها المتماوج بفعل الريح . يحملها برفق ، يضعها تحت سترته ليدفئها . تغفو القطة ببراءة على إيقاع دقات ناقوس قلبه . ينشج و ينشج و ينشج بدمع لم يجرؤ الهواء الثلجي على تجميده . تغسل الدموع حرقة قلبه ، و تبلسم وجع جروحه ، فيحس بالراحة ، و يغمره السلام ، فيغلق عينيه ، و يسند رأسه على الحائط خلفه في شبه إغفاءة وهو يضم القطة النائمة . يفكر : بم تحلم هذه القطة الآن ؟ و لكن ، هل بوسع القطط أن تحلم ؟ نعم بالتأكيد ! إن خاصرته تتحسس تنمل التحركات الخفيفة ليديها و هي غافية . نعم . يعدل رأسه ، و يسترق النظر إليها : نعم ، لا بد إنها تحلم بالتأكيد ! ها هي أذانها تهتزان و هي نائمة . بم تحلم : بغيمة غضوب ، أم ديمة سكوب ، أم مزنة لحوب ؟ بحضن حارٍّ أم عارٍ أم محجوب ؟ بطعام طائر أم راكن أم مسلوب ! - يا عمران : علينا الذهاب للمقبرة الآن ، لتهيئة قبر للمرحومة ! يرفع رأسه ليتبين كليمه : أنه ناظم ، و خلفه زيدان ! - دقيقة و ألتحق بكما . يتوجه عمران نحو دار الحاج جاسم المقابل لدار زيدان ، فيدخله ، و يخرج القطة من عبه , و يرقدها برفق تحت صدر كلبه عبعبوب النائم ماداً ذراعيه . يفتح الكلب الراقد عيناً واحدة ، و ينظر إلى سيده ، و يبتسم له إبتسامة حالمة ، و هو يضم جذع القطة عند إبطه . يبتسم عمران و يخرج . عند باب تلة المقبرة المسيّجة للقرية ، يقابلهم ملتزم المقبرة و حارسها : سعيد . يخاطبه زيدان : - أريد قبراً للمرحومة أم عبد الله . - و من هي أم عبد الله ؟ - حرمتي ! لقد توفيت بعد الوضع ليلة البارحة ! - الله يرحمها ! و كيف هو إبنها ؟ - عايش ! - الحمد لله ! شُف زيدان – - قل "أبو عبد الله " ! - ما شاء الله ! شُف أبو عبد الله : لدي ثلاثة أنواع من الأماكن للقبور في هذه المقبرة . مكان ممتاز في أعلى التلة بثلاثين ديناراً مع تكاليف الحفر ، و الدفن ، و البناء ، و الشاهد ؛ و بخمسة و عشرين ديناراً في سفح التلة ، و بعشرين ديناراً في أسفل التلة . - هذه الأسعار غالية جداً ، بل هي غير معقولة مطلقاً ! - بل هي متهاودة جداً ؛ فهي ربع الأسعار السائدة في كركوك ! - و كم هي تكلفة القبر في أسفل التلة إذا تكفّلت أنا بالحفر و الدفن و البناء و الشاهد ؟ - عشرة دنانير . - مستحيل ! عشرة دنانير تبتاع كبشين سمينين ! - تسعة دنانير ، أكراما للمرحومة ! - كثير ! - ثمانية دنانير، إكراماً لك ! - كثير ! - سبعة دنانير ، إكراماً لرفيقيك المحترمين : السيد ناظم و السيد عمران ! - كثير ! - ستة دنانير ، لوجه الله الواحد القهّار ! - لا ، لا ، لا ! كثير ! كثير جداً ! مستحيل ! - قل لي : كم تريد أن تدفع ؟ - ربع دينار ، و هذا مبلغ لا يستهان به ، خمسة دراهم : درهماً ينطح درهماً ! - هل أنت جاد في كلامك هذا ، أم تريد الإستهزاء بي ؟ - جاد و نصف ! نعم ! فالدراهم الخمسة مبلغ ليس بالقليل ! - و لكن سعر الكيلو من لحم الضأن هو بستة دراهم ! هاها ! هل زوجتك و أم إبنك الوحيد أرخص عندك من كيلو لحم ضأن ! - و لكنها لم تعد زوجتي ؛ لقد أصبحت الآن جنازة ! خذ الربع دينار ، و لنتوكل على الله ، فإكرام الميت دفنه ، و لك الأجر و الثواب ! - ستة دنانير هي أقل سعر ممكن للقبر . و هو أقل من سعره هنا قبل عشر من السنين ! و إذا كنت لا تملك المال ، فدع الدفع يكون على حسابي أنا ! - إسمع : هل تقبل بربع دينار ، أم أدفن الجنازة فوق التلة البعيدة هناك مجاناً ؟ - إفعل ما يروق لك . ستة دنانير هو أقل مبلغ ممكن . - حسناً . إذن سأدفن الجنازة أعلى تلك التلة هناك ، فأحرمك من الدراهم الخمسة عقاباً لك على جشعك ! - أستغفر الله ! يتدخل عمران ، فيقول لزيدان ، و هو يرتجف غيضا : - أرجوك . دعني أنا أدفع عنك الدنانير الستة من جيبي ، و لنتوكل على الله ! - تالله هذا لن يكون أبداً .هل تريد أن يعيّرني أهل القرية بكونك قد دفعت ثمن قبر زوجتي لهذا الحارس الحقير الغشاش ! - إلزم حدودك يا زيدان ، و احترم نفسك ! - أنت الذي من يجب عليه لزوم حدوده ، و لا تنس أن إسمي هو أبو عبد الله ! - هاهاهاع ! أبو عبد الله ! هههه ! أبو عبد الله ! رُح إسأل المرحومة من هو أبو عبد الله الصحيح ! - سأقص لسانك ، يا سافل ! يهم أبو عبد الله الأعزل القميء بمهاجمة الحارس العملاق و المسلح سعيد ، فيصده عمران ، و يخاطب سعيداً بنبرة حزينة هادئة : - أخي سعيد : أنت رجل محترم ، و هذا الكلام عيب ! المرحومة كانت إمرأة شريفة ، و المقام لا يليق بمثل هذا الكلام ! أذكروا محاسن موتاكم ! - ألم تسمع هذا الجاحد و هو يشتمني حتى بعد أن تبرعت له بالدفع على حسابي الشخصي ؟ ها ؟ ثم ، ألا تلاحظ مقدار بخله ؟ قبر بربع دينار ! أنظر إليه : إن عبادته للدينار ، لا بل للفلس ، قد سلبت منه كل عقله ! أنظر إلى أين أوصله سوء أدبه و بخله . لقد كان يخرج للرعي تاركاً زوجته المسكينة الجائعة دون حتى كسرة خبز واحدة في الدار . أما هو ، فيملأ كرشه من طعام المعازيب . فهل يستطيع أحد أن يلومها عندما تُجبر على ولوج بيوت الجيران كي لا تموت من الجوع ، فيجري لها هناك ما يجري ؟ ها ؟ كلب ! لا و الله حتى الكلب أوفى و أشرف منك ! ألا تستحي من نفسك ، تجوّع حرمتك ؟ من أية طينة من الرجال أنت ، ها ؟ لو كنت قد جنيت معزى في بيتك ، ألا يلزمك الشرع و العرف أن تُشبع بطنها ؟ ها ؟ فقط تعرف كيف تركب عليها ؟ ها ؟ حقير ! قبر بربع دينار ! ألم تستحي من نفسك و أنت تتفوه بكلمة "ربع دينار" ! إن الميتة المستحقة هي لك أنت أيها العار على البشر ، و ليست لها . لو كنت تملك ذرة من الإحساس لذهبتَ الآن و دفنتَ نفسك حياً في بالوعة بيتك فهي قبرك المستحق بجدارة ، يا خسيس ! قبر بربع دينار ! - أسكت يا سافل ! أنا أغنى منك و من أبيك ! و بوسعي أن أشتريك بمالي ! - صحيح ! مثلما إشتريت قبراً يستر حرمتك ! ربع دينار ! ما دمت غنياً فلماذا لم تشتر شرفك ؟ ها ؟ تفو . - أنا أشرف منك ، و من أبيك ، يا حقير ! - شُف سيد ناظم ، و أنت يا سيد عمران : أرجوكما أبعدا هذا الجرو القذر عن عينيًّ حالاً لئلا أنجس نفسي بثقب رأسه العفن الآن بطلقة أم العشرة فلوس ، و أدفنه هنا بيدي هاتين ! تفو ! يسحب ناظم و عمران زيدان عن باب المقبرة ، ويسيران به موليين وجهما نحو التلة البعيدة . يخوض الثلاثة بالطين المكسو بالجليد حتى يبلغوا قمة التلة البعيدة . كان الهواء البارد يجلد وجوههم جلداً ، و أديم الأرض قد تحول إلى رصاص لامع حارق من مزيج الثلج و الطين . يستكشف زيدان المكان ، فيما يجلس ناظم و عمران على صخرة ناتئة ، فيلهب تجلدها قدميهما . يقف ناظم ، و يتقدم من زيدان ، و ينزع عنه فروته ، و يضعها على الصخرة ، و يجلس عليها . أما عمران ، فانه يتماسك في جلسته على قدميه رغم لفح الزمهرير ! - ما ذا تفعل ؟ ها ؟ لماذا أخذت فروتي مني ؟ إنها جديدة ، و غالية جداً ! و كيف تجلس عليها فوق الصخرة ، و هناك إحتمال قوي في أن تنخرم أو تنفتق تحت ثقلك ! - إسمع زيدان : لقد بلغ حنقي عليك أرنبة أنفي ؛ و أي كلام زائد منك سيجعلني أزعل عليك ، و أتركك هنا كالكلب الأجرب لوحدك ، و لن أكلمك بعد أبداً ، فهمت ! صِر مفيداً ، و رح لدارنا الآن ، و إجلب لنا منها مسحاتين و قزمة . ضعهما في خرج بغلنا ، و عد به إلينا بسرعة . لديك نصف ساعة فقط ، و ألا باتت جنازتك ! هرول ! يهرول زيدان بإتجاه القرية . يخرج ناظم سيجارة "غازي" من العلبة ، و يقدمها لعمران : - شكراُ ! أنت تعلم أنني لا أدخن . البرد رهيب هذا اليوم ، و السماء مسودة . و قد يسقط الثلج من جديد ! يحاول ناظم إشعال سيجارته عدة مرات فيفشل بسبب الريح العاصفة . يقوم عمران من مكانه ، و يقف أمام ناظم . يأخذ منه علبة عيدان الثقاب ، و يولع له . يجر ناظم نفساً طويلاً من السيجارة ، و يزفر الدخان من صدره كالمرجل . ثم يقوم ، فيفرش الفروة على الصخرة ، و يدعو عمران لمشاركته الجلوس عليها . - أقعد هنا حتى يعود هذا الجلف الحقير ! السالفة مخالفة ، و لكنه وعدٌ مكتوب ! - هذه الأرض صخرية قاسية ، و البرد هنا لا يطاق ! - حقير ! لو كنت أعلم أنه لن يدفع ثمن القبر ، لاشتريته أنا محفوراً ليلة وفاة المرحومة حسب الأصول ، و لوضعته أمام الأمر الواقع إكراماً لها ! - الله يرحمها ! - الله يرحمها ! - و لكن ما هذا الكلام البذيء الذي تفوّه به سعيد عن المرحومة ؟ أحمد الله أنني إستطعت كظم غيضي ، و أمسكت عن ملاحاته ! - لا تؤاخذه يا عمران ! أن كلامه صحيح ! بل هو أقل من الصحيح ! - إستغفر الله ! و لكن كيف ! - لقد كانت المرحومة تأتي لدارنا ، و تشكو لوالدتي خلو دارها من طعام تسد رمقها به ، و هي ما تزال في بدلة العرس ! سوّد الله وجهه ! و لم تكن الوالدة تقصّر عليها في أي شيء ! - أكيد . و لكن أي حق له في أن يطيل لسانه ، فيطعن بشرفها أمام زوجها و أمامنا ؟ الله يرحمها ! يجر ناظم نفساً طويلاً ثانياً ، و ينكس رأسه . - مالك ؟ أراك سكتَّ ؟ - إسمع يا عمران . أنت مثل أخي ، و بيننا زاد و ملح ، و لا أستطيع أن أخدعك بالكذب عليك . إن كل الكلام الذي قاله سعيد صحيح ! - لا حول ولا قوة إلا بالله ! - لقد كانت تزورنا في دارنا ، فتعطيها أمي صرة الزاد . فتأخذها ، و تأتي إلى غرفتي ، و تقول لي : أنا عائدة الآن لداري ، و يجب عليك أن تلتحق بي خلال خمسة دقائق . إياك و أن تتأخر علي ! - و هل كنت تذ- تذهب لـ - لدارها ؟ - مع الأسف ، نعم ! كنت أذهب مسرعاً لدارها كل يوم كمن يسير وهو نائم ! كل يوم ، و لسنة كاملة ! - ألست نادماً على ذلك الآن ؟ - نادم بعدد شعرات رأسي ! لقد أفقدتني ليس فقط عقلي ، بل و حتى إرادتي . كنت أتبعها راكضاً لدارها ركض الخروف خلف صاحبه و هو لا يدري أين يريد الذهاب به : للمسلخ ، أم للمرج ، أم للماء ! - وكيف إنقطعت هذه العلاقة ؟ - عَلِمَ والدي بالموضوع ، فأسرع بتزويجي ، و أسكنني داراً بعيدة لوحدي مع زوجتي ، و ذلك بعد أن أخذ مني عهداً قاطعاً بعدم الإقتراب منها إلى الأبد . - الخير فيما فعل أبوك ، أطال الله في عمره ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . - بعد تركي لها ، أبلغتني أختي بأن المعلم نوري صار يزوردارها يومياً بعد خروج زوجها للرعي ظهراً . أستغفر الله ! - عجيب ، غريب ! - لا غريب إلا الشيطان ! و لقد تواصلت زياراته اليومية لها ستة شهور حتى ألم المرض بزوجها ، و رقد في المستشفى بكركوك . - و هل كان يجلب لها صرة الزاد معه ؟ - كلا . أنت تعرف أنه رجل من أهل الحويجة غريب ، و هو أعزب ، و يتناول وجباته بالمطاعم . أعتقد أنه كان يدفع لها نقداً ! - و كيف استنتجت ذلك ؟ - لكونها أقلعت عن زيارة دارنا ، أو أي دار آخر ؛ و لأن زوجها كان وما زال يزداد بخلاً يوماً بعد يوم ! - أنني مندهش من كل هذا ! هذا الكلام أسمعه لأول مرة ! - و كيف يتسنى لك أن تسمع به و أنت في الخدمة العسكرية ؟ - و ما ذا حصل في حينها ؟ أقصد عند مرض زوجها ؟ - تولت هي رعي غنم معزبها ، وحصل ما حصل مع المعزب ! - الحاج خضير ؟ - بدمه و لحمه ! و استمرت علاقتها به حتى بعد شفاء زوجها ! - و لكنه شيخ هرم ، و حاج متقي ! - إن سلطان الحب أقوى من أحكام السن و الدين ! بل أنه هو قبلة الصلاة بحد ذاتها عند بعض كبار السن و المتدينين ! - أستغفر الله ! و ماذا حصل بعدئذ ؟ - قامت أم عباس - زوجة الحاج خضير - بإبلاغ زيدان بقصة زوجته مع بعلها . - صحيح ؟ و ماذا كانت ردة فعل زيدان . - طردها من داره ؛ فذهبت لبيت أخيها في بيجي ! - مسكينة ! و ما الذي فعله أخوها ؟ - جاء إليه من بيجي إلى هنا ، و هدده إما بإعادة زوجته الحامل إليه حالاً ، أو أنه سيطرد گصتها شقيقته . عندها ، أعاد زيدان زوجته إليه ، و إبتلع الموضوع . يرحمها الله ! - لقد رحلت الآن لدار حقها ، و الله أرحم الراحمين ! - هل تعلم من هو المسؤول الحقيقي عن مأساة هذه المرأة المسكينة ؟ ها ؟ إنه زوجها الحقير هذا . الله كم هو حقير في كل شيء ! و لقد سببت خسته موت زوجته المسكينة و هي ما تزال في ريعان الشباب . - بل قل أن السبب هو عادة زواج الشغار الكريهة التي تسمح لشخص دميم مثل زيدان الزواج بشابة جميلة مثل منيرة ! - صحيح ! - لقد تأخر علينا زيدان ، و ادلهمّت الدنيا علينا أكثر من ذي قبل ! هل سيسقط الثلج من جديد ، فيمنعنا من الرعي بكرة أيضاً ! - نعم ، بالتأكيد ! - أين في رأيك البقعة المناسبة لحفر القبر ؟ الأرض صخرية هنا ! - ورائنا على السفح الأشد انحداراً ، إلى الأدنى بحوالي خمسة أمتار أو ستة أمتار ! - و لماذا ليس هنا ؟ - هنا قمة الصخرة ، و المكان الملائم لجلوس الرعاة و عبثهم ، و هو كائن في مهب الريح . - هل تعتقد أن زيداناً سيبني القبر ، و يضع عليه الشاهد ؟ - كلا بالطبع ! - إذن ، سأتولى ذلك بنفسي ! - حيّاك ! بل نتولاه نحن الاثنين معاً ! تعال لنحدد مكانه بالضبط . يثبّت الشابان حدود القبر بحجر . و بعد مقدم زيدان ، يقومان بالحفر سوية ، و هو جالس كالقرد يتفرج عليهما . و بعد انجازهما بجهد جهيد حفر القبر بعمق قامة و رفعة ذراع ، يستقل ثلاثتهما البغل ، و يقفلون راجعين لدار زيدان لتشييع الجنازة بعد ترك أحد المساحي راكزاً على تراب القبر ! يتولى جاسم المختار ، و أبنه فاضل - الذي يأتي بدلاً من أخيه ناظم الذي يصاب بنزلة برد محمومة - و المعلم نوري ، و الحاج خضير ، و عمران ، و زيدان تشييع الجنازة في عربة يجرها جحش يشق طريقه بصعوبة على الأرض الموحلة ، و تحت وابل الجليد الذي بدأ يتساقط بكثافة مريعة مخيفة لم تشهدها المنطقة من قبل قط . عند بلوغ الجنازة القبر ، تعقد الدهشة ألسنة الجميع وهم يشاهدون القبر المحفور يمتلئ نصفه بالجليد . ينزع عمران سترته ، و يتحزّم بأطراف دشداشته ، و ينزل بمسحاته ثانية للقبر . يشدف الجليد بالمسحات بحركات سريعة . و بعد حوالي ربع ساعة من الجرف السريع المتواصل ، يبلغ قاع القبر . يرى الوحل الطيني المتجمع فيه جراء ذوبان الجليد ، فيواصل الحفر للوصول إلى طبقة الطين المتماسك . يحفر و يحفر و يحفر و كأنما قد تملكه شيطان الحفر حتى يبلغ طبقة الطين القوي . ثم يبدأ بتسوية جوانب أرضية القبر . و عند الضلع الطولي الأيمن للقبر ، يكتشف هيكلاً عظميا بشريا مدفونا على الجانب منذ ما شاء الله من السنين . يدقق في عظم الحوض: إنه هيكل عظمي لرجل . يقرر مواصلة الحفر في الحائط الجانبي الأيمن لتهيئة كوة لركن الهيكل العظمي فيها ، فيخرج له هيكل عظمي ثان لطفل ! يحفر باستقامة قاعدة الجدار الأيسر المقابل ، و يركن الهيكل العظمي للطفل فيه ، فيما يركن الهيكل العظمي للرجل إلى الجانب الأيمن . يكمل تسوية أرضية القاعدة ، ثم ينادي بالمشيعين لمناولته الجثمان . يتقابل المعلم نوري و الحاج خضير في رفع الجثمان من التابوت ، و إنزاله من الحبلين عند طرفيه لعمران . يتلقف الأخير الجثة ، و يوسدها الثرى برفق ، وسط الهيكلين العظميين . ثم يخاطبها بهمس دامع عند رأسها : "السلام عليك يا من أنت أشرف من كل الرجال الذين عرفوك ! أرقدي بسلام فلقد باركك الله ، فأكرمك في قبرك قبل جنتك بأعز ما تحلم به كل امرأة شابة مثلك : ضجيع و رضيع ؛ أولهما رفيق سميع ، و الثاني رقيق وديع . أما أنا ، فقد وفيت بعهدي لك ، و أنا باق عليه إلى الموت ، فابرئي لي الذمة . و تقبلي مني أخلص السلام ، و أبلغ الإحترام ، و مع السلامة ، و في أمان الله !" يرفع عمران المسحاة إلى أعلى ، فيتلقفها منه فاضل . ثم يتسلق الجدارين القريبين مراوحاً بساقيه و ذراعيه حتى يبلغ سطح القبر ، فيشبك فاضل يده بيده ، و يسحبه خارج القبر . يقرأ الجميع الفاتحة ، ثم يهيلون التراب و الحصى في القبر ، و يعودون للقرية بخطى متثاقلة ، وسط تساقط الثلوج ، و عواء الريح . يتبع ، لطفاً .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 8
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 7
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 6
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 5
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 4
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 3
-
رجع الوجع / رواية بحلقات / 2
-
رجع الوجع / رواية بحلقات
-
كتاب الدرر البهية في حِكَمْ الإمبريالية الأمريكية
-
رسالة من طفل عراقي إلى الرئيس بوش
-
ملاحظات شخصية في الترجمة
-
الحدّاد و القوّاد
-
سيّد خوصة : المناضل سابقاً و المجاهد لاحقاً
-
آخر أحكام رب العالمين في أهل العراق
-
من أخبار شيخ الشط
-
قوانين التاريخ و جرائم الرأسمالية : أجوبة للأستاذ الفاضل رعد
...
-
قوانين التاريخ ، و جرائم الرأسمالية وقادة الأحزاب الإشتراكية
...
-
دفاعاً عن المفهوم المادي للتاريخ : الأستاذ نعيم إيليا متمنطق
...
-
موجز لقوانين التاريخ : جواب محدد لسؤال محدد للأستاذ الفاضل ر
...
المزيد.....
-
منصات الإنترنت: نسبة المخرجات السينمائيات تزداد باطراد
-
فيديو.. الفنانة نور علي تروي شهادتها على أحداث الساحل السوري
...
-
توقيف نائب يوناني إثر انتقاده أعمالا في متحف بأثينا بحجة مكا
...
-
ألغاز معقدة تسبب بها تغيير التوقيت في التقويمات القديمة
-
أسئلة النسوية العربية وكتابة الذات في قصص أمل بوشارب
-
فنانون سوريون ينددون بالعنف ويطالبون بوقف الانتهاكات عبر وسا
...
-
محللان: إسرائيل تخشى المخرجات السياسية لمفاوضات واشنطن وحماس
...
-
الجريمة السياسية.. كيف تناول أسعد طه ملفاتها الشائكة؟
-
-الرقصات الشعبية تنشر البهجة في الأجواء-.. الهند تحتضن مهرجا
...
-
الممثل الدائم لروسيا يصف قرارا للوكالة الدولية للطاقة الذرية
...
المزيد.....
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
المزيد.....
|