|
العقل العربي والفهم الاستبدادي للديمقراطية
غسان الشوبكي
الحوار المتمدن-العدد: 3512 - 2011 / 10 / 10 - 17:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يسود اعتقاد بأن سبب مشاكل الأمة العربية وتخلفها هو الحكام المستبدون المتخاذلون الذين يعملون لمصلحتهم الشخصية في البقاء في السلطة ويتأمرون مع الأعداء على مصالح الأمة، وأن الحل الأمثل لهذه المشاكل هو الديمقراطية التى تمكن الشعب من انتخاب قيادات شريفة عفيفة تقدم مصلحة الوطن على مصالحها الشخصية. وواقع الأمر أن هذا فهم خاطئ تماما لمعنى الديمقراطية وأن الشعب الذي يفكر بهذه الطريقة انما يبحث عن مستبدين جدد!
فالديمقراطية لا تعني استخدام صناديق الاقتراع في البحث عن القائد الشريف العفيف الزاهد في السلطة، بل تعني الادراك الواقعي أن مثل هذا القائد لا وجود له لأن من يزهد في السلطة لا يمارس السياسة أصلا. ان الديمقراطية هي فكرة في غاية الواقعية و الحكمة تقوم على الادراك الواعي أن القادة السياسيين ليسوا آلهة و لا ملائكة بل هم بشر خطاؤون خلقوا من ذات الطينة التي خلق منها سائر البشر، و البشر تحركهم مصالحهم، و كلما عظمت المصلحة كلما زادت نزعة الانسان للتعامي عن أخطائه و تبريرها في سبيل تحقيق تلك المصلحة، و لما كانت السلطة و ما تجلبه لصاحبها من مال و جاه و نفوذ هي أم المصالح، فان من الطبيعي ان يكون الساسة هم أكثر الناس تعاميا عن أخطائهم و تبريرا لها و ايهاما لأنفسهم و للآخرين بأن مصلحتهم الشخصية في السلطة هي مصلحة للأمة بأسرها. وهذه حقيقة موضوعية عرفت البشرية ثلاث طرق للتعامل معها : الطريقة الأولى هي الطريقة التقليدية الحالمة التي لا يزال أغلب الناس يؤمنون بهاحتى في الدول الديمقراطية نفسها و تقوم على تجاهل هذه الحقيقة الموضوعية و الاصرار على البحث عن ساسة زاهدين في السلطة يقدمون مصلحة الوطن على مصالحهم الشخصية. أما الطريقة الثانية فهي الاقرار بها بطريقة سلبية احتجاجية تقاطع العملية السياسية بأسرها لأن الساسة الزاهدين في السلطة لا وجود لهم. وأما الطريقة الثالثة التي يؤمن بها – بدرجات متفاوتة من الوعي- عقلاء الناس في الدو ل الديمقراطية فتقوم على مبدأ قرع الحديد بالحديد، بمعنى أنه اذا كانت شهوة السلطة هي التي تعمي الحكام عن رؤية أخطائهم وتمنعهم من الاعتراف بها فان الحل الواقعي لهذه المشكلة هو ايجاد معارضة قوية متحفزة للوثوب على السلطة تدفعها ذات الشهوة الى كشف اخطاء الفئة الحاكمة.
ان الديمقراطية هي درجة عليا من درجات الوعي تبلغها الشعوب وليست درجة عليا من درجات الفضيلة يبلغها الساسة، ووصول ساسة مثل بوش وساركوزي و برلسكوني الى قمة السلطة في ثلاث من أعظم الديمقراطيات في العالم أمثلة صا رخة على ذلك، فالديمقراطية ليست نصرا مؤزرا يحققه حزب الخير والفضيلة على حزب الشر والرذيلة بل هي نصر واقعي يحققه وعي الشعب على شهوة السلطة لدى الساسة فيسخر هذه الشهوة لخدمته بالابقاء على منافسة دائمة لا حسم فيها بين فئتين من البشر الخطائين تتبادلان الأدوار بشكل مستمر: فئة حاكمة لا تحظى بأكثر من الأغلبية البسيطة، ومعارضة بنفس القوة تقريبا تتصيد أخطاء الفئة الحاكمة طمعا في الوصول الى السلطة في الدورة الانتخابية القادمة.
ومن هنا فان وجود معارضة قوية تتمتع بحرية التعبير هو عنصر في غاية الأهمية من عناصر العملية الديمقراطية كثيرا ما يغفله ذوو الفهم الاستبدادي للديمقراطية الذين يحلمون بنصر ساحق ماحق يحققه حزب الوطنيين الشرفاء الذين لا يصلح شأن الأمة الا بوجودهم في السلطة على حزب الخونة العملاء المتآمرين على مصالح الأمة. ان ترصد المعارضة لأخطاء الحكومة من شأنه أن يحد من أخطاء الفئة الحاكمة ويكشف الحقائق امام الناس، ولذلك فالمواطن الذي يعي معنى الديمقراطية حقا يحرص على قوة المعارضة ويدعم حريتها في التعبير تماما كما يدعم حق الأغلبية في ممارسة الحكم لأجل مسمى. وعلى هذا فان فكرة الحكومة التي تحظى بأغلبية ساحقة او حكومة الوحدة الوطنية التي ما فتئ العقل العربي يحلم بها ليست من الديمقراطية في شئ بل هي فكرة استبدادية بامتياز لأنها – شأنها شأن الاحتكار في عالم التجارة- تقضي على المنافسة بين الساسة البشر الخطائين فتخفي اخطاءهم عن الناس حتى تتفاقم وتؤدي الى الخراب.
ومن المهم أن يدرك المواطن بنضج أنه عندما تقوم المعارضة بكشف أخطاء الحكومة فان ذلك لا يعني أن رجال المعارضة أكثر عفة وأرفع خلقا من رجال الحكومة، بل يعني أن البشر الذين يمارسون الحكم لا بد أن يخطئوا بينما البشر المعارضون المراقبون عن بعد يسهل عليهم اكتشاف الأخطاء، والمواطن الواعي يدرك تماما أن رجال المعارضة انما ينتقدون رجال الحكومة من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية في الوصول الى الحكم، وهذه قد تبدو حقيقة مؤلمة للمواطن الحالم بالقائد الشريف العفيف أما المواطن الواقعي الواعي فيدرك أن هذه حكمة من حكم الله في خلقه و صورة من صور دفعه الناس بعضهم ببعض، فهي مصلحة خاصة لفئة من الناس تصب في المصلحة العامة. فعندما كان الحزب الديمقراطي في أمريكا – مثلا – يقوم بانتقاد أخطاء الادارة الجمهورية في العراق وأفغانستان وجرائمها في غوانتانامو و"أبو غريب" وغيرهما فان ذلك لا يعني بالضرورة أن ساسة الحزب الديمقراطي أكثر رحمة وانسانية من ساسة الحزب الجمهوري بل يعني أن الديمقراطيين المتحفزين للوثوب على كرسي السلطة قد وجدوا فرصة مواتية لاضعاف خصومهم السياسيين من الجمهوريين والاجهاز عليهم في الانتخابات القادمة وقد نجحوا في ذلك بالفعل، وهذا الدافع الحقيقي لدى ساسة الحزب الديمقراطي ليس حقيقة مؤسفة كما يعتقد الحالمون بل هو حقيقة في غاية الروعة والفائدة على أرض الواقع كان من نتائجها أن اضطرت الادارة الجمهورية الى الاعتراف بكثير من اخطائها والتخلي عن جزء كبير من صلفها و عنجهيتها قبل أن تخسر السلطة كليا لمصلحة الحزب الديمقراطي، ولو كانت الادارة الجمهورية حكومة وحدة وطنية كتلك التي يحلم بها العقل العربي لكان من السهل عليها اخفاء فشلها عن الشعب الامريكي والتمادي في سياسة الغطرسة والعدوان لدرجة ربما اشعلت حربا عالمية ثالثة.
فالمواطن الواعي عندما يصوت للمعارضة في دورة انتخابية ما يدرك أنه لا يصوت للملائكة ضد الشياطين بل هو يصوت لفئة من البشر الخطائين أمضت فترة من الزمن في مراقبة أخطاء فئة أخرى من البشر الخطائين، وهو انما يصوت للفئة الأولى لأن الفئة الثانية قد تفاقمت أخطاؤها وآن الأوان لأن تعطى الفرصة لفئة أخرى من البشر الخطائين يبدؤون بتصحيح أخطاء من سبقوهم ثم يمارسون الحكم ويخطئون لبضع سنين قادمة الى أن يتم استبدالهم ثانية عندما تتفاقم أخطاؤهم. وهكذا يستمر الشعب الواعي في ترجيح الكفة في هذا الاتجاه حينا وذاك الاتجاه حينا آخر بما يكفل التقويم المتواصل لاعوجاج البشر الخطائين الأمارة نفوسهم بالسوء.
وقد يقول قائل ان هذه النظرة تتجاهل الفروق بين الساسة، والجواب على ذلك أن الصراع على السلطة في اي بلد من العالم يكون دائما بين تيارين رئيسين: الأول وسطي يميل الى اليمين قليلا والثاني وسطي يميل الى اليسار قليلا، أما التيارات اليمينية المتطرفة واليسارية المتطرفة فاتباعها قلة وليس لها أي فرصة واقعية في الوصول الى السلطة وان وصلت فان وصولها يكون سحابة صيف عابرة سرعان ما تنقشع، هذا مع مراعاة أن مفهوم اليمين واليسار والوسطية والتطرف يختلف باختلاف الزمان والمكان، فكثير مما يعتبر وسطيا بمقاييس مشرقنا العربي يعتبر يمينيا متطرفا بمقاييس الغرب عامة وبعض ما يعتبر يساريا معتدلا بالمقاييس الاوروبية يعتبر يساريا متطرفا بالمقاييس الأمريكية ، وكل فكر نعده اليوم فكرايمينيا محافظا كان يعد في أول ظهوره فكرا يساريا متطرفا يخالف المعتقدات الراسخة لدى أغلب الناس وهكذا. ورغم ضآلة الفروقات بين التيارات الوسطية المتصارعة على السلطة، نجد الساسة في صراعهم المحموم يعمدون الى تضخيم هذه الفروقات باطلاق الشعارات الرنانة وتراشق التهم القاسية كالخيانة والعمالة والتخلف والرجعية وما الى ذلك. وهنا يأتي دور الوعي الشعبي في التعامل مع هذا الصراع، فالشعب الواعي يتجاهل شعارات الساسة والتهم التي يتبادلونها وينظر في البرامج السياسية الحقيقية وبناء عليها يرجح كفة احد التيارات المتصارعة على السلطة، فاذا نجح هذا التيار في التعامل مع القضايا المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها، أعاد الشعب انتخابه في الدورة الانتخابية القادمة، وان فشل أعطى الشعب الفرصة لتيار آخر، فالديمقراطية بذلك هي تجسيد لجدلية البحث عن الحقيقة عن طريق التجربة والخطأ.
وأما الشعب الحالم الداعم –دون أن يدري- للاستبداد فتنطلي عليه شعارات الساسة والتهم التي يتراشقونها فينقسم على نفسه شيعا واحزابا يدعم كل منها التيار السياسي الذي يعتقد انه الوحيد الذي يعمل لمصلحة الأمة وأن خصومه السياسيين هم خونة متآمرون على مصالح الأمة. ان هذا النظرة الحادة الواهمة القاصرة عن ادراك ضآلة الفروق الحقيقية بين الساسة هي الحاجز الحقيقي بين الشعب والديمقراطية، فهي التي تؤدي بالشعب الى أن يجعل من نفسه وقودا لنار الصراع على السلطة التي يشعل الساسة شرارتها، فالسياسي لايستطيع أن يحرك ساكنا دون قاعدة شعبية تدعمه في صراعه مع خصومه، وهذه الحقيقة يبدو أنها – للاسف الشديد- غائبة عن اذهان الكثيرين. فالنظام الاستبدادي لايمكن أن يستمر في الحكم يوما واحدا دون ان تكون له قاعدة شعبية يجند منها اجهزته الامنية ويبني آلته العسكرية، و صناديق الاقتراع بحد ذاتها ليست حلا للمشكلة لان الطرف الخاسر اذا وجد قاعدة شعبية قوية تدعم رفضه القبول بنتائج الانتخابات فان شهوة السلطة ستجعله لا يتوانى عن ادخال البلاد في صراع دموي على السلطة، وقد حدث هذا بالفعل في اكثر من بلد عربي كفلسطين و لبنان وغيرهما. فالقرار الفعلي اذن – على عكس الاعتقاد السائد- هو دائما بيد الشعب سواء كان هناك صناديق اقتراع او لم يكن. ولو نظرنا الى الشعوب الواعية لوجدنا اغلب المواطنين فيها يدركون ضآلة الفروق الحقيقية بين الساسة ولهذا فان الواحد منهم يفضل ان تكون السلطة بيد الفريق الذي لا يرغب به على أن تدخل البلاد في دوامة الصراع على السلطة.
وخلاصة القول ان هناك نوعا واحدا من الساسة ونوعين من الشعوب. فكل ساسة العالم هدفهم الوصول الى السلطة والاحتفاظ بها اطول فترة ممكنة وان اوهموا أنفسهم وأنصارهم بغير ذلك. أما الشعوب فنوعان: شعب واقعي واع يدرك انه ليس هناك سوى نوع واحد من الساسة فيسخر شهوة السلطة لدى هؤلاء الساسة لخدمته بالابقاء على منافسة دائمة غير هدامة بينهم، وشعب حالم داعم –دون أن يدري- للاستبداد يسخر نفسه لاشباع شهوة السلطة لدى الساسة ظنا منه ان بعض الساسة وطنيون شرفاء والبعض الآخر خونة عملاء. وعلى هذا فلن تكون هناك ديمقراطية في عالمنا العربي حتى تتحول الشعوب العربية الى شعوب من النوع الأول.
د. غسان الشوبكي جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا
#غسان_الشوبكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|