جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3502 - 2011 / 9 / 30 - 18:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يعد الأكراد بحاجة إلى من يدلهم على طريق بناء دولتهم المستقلة, أو متى وكيف يجب إعلانها, فهم أعرف من غيرها بإمكانات قيام تلك الدولة أو إدراك الشروط اللازمة لنجاحها أو فشلها.
لقد تعلم الأكراد الكثير من دروس السياسة الدولية وختموا كثيرا من أجزائها, وخاصة الجزء الخاص بتأسيس الدولة وحاجات التأسيس. وكان مما تعلموه أن القوة هي مجموعة عناصر مركبة ومتفاعلة في لحظة واحدة, وهي.. وإن احتل عنصرها الذاتي والمحلي مكانة متميزة, لكنها بدون القرار الدولي والإقليمي قد تصير طريقا إلى الهزيمة بدلا من النصر.
في عام 1975 كان الأكراد على وشك أن يعلنوا السليمانية عاصمة لدولتهم المستقلة.. لقد سجلوا وقتها انتصارات كبيرة ضد القوات العراقية ولم تتبقى سوى لحظة إعلان النصر السياسي. فيما بعد تطرق صدام حسين إلى تلك الواقعة حينما أشار إلى أن الجيش العراقي كان نفذت ذخيرته الثقيلة بحيث لم تبقى لديه سوى آخر قذيفة مدفع... هنا دخل العامل السياسي الإقليمي والدولي على الخط لكي يغير بشكل سريع معادلات الضعف والقوة..
على الجانب الكردي.. صارت القوة ضعف.
أما على الجانب العراقي.. فقد صار الضعف قوة.
إن معادلة (قوة الضعف وضعف القوة) ومعادلة (الصديق الأقوى مما يجب.. والعدو الأضعف مما يجب), هما اثنان من أقوى المعادلات التي تتحكم بمسيرة المواجهات الإقليمية وتلك التي تحدد نوع نتائجها أيضا.
ففي ذلك العام, دخل الأكراد في خانة ( الصديق الأقوى مما يجب) حينما صاروا على بعد يوم واحد من إعلان الدولة. في حين تحولت حكومة بغداد التي لم تعد تملك سوى إطلاقه مدفع واحدة إلى ( العدو الأضعف مما يجب ) الذي كان يجب إعادته إلى (العدو المعقول القوة).
قبل يوم من ذلك التاريخ كان مصدر قوة الأكراد الدولية أنهم شكلوا حينها مصدر إزعاج لحكومة بغداد التي كانت هناك خطط أمريكية لترويضها, وكان الدعم الأمريكي إيرانيا للأكراد قد تأسس, ليس على مقدار ما تحمله الحركة الكردية من حقوق مشروعة, أو مقدار ما تجسده من معايير إنسانية محقة, ولكن على أساس تناغم تلك الحركة وشروط المعادلات الإستراتيجية الدولية والإقليمية.
لقد صارت قوة الأكراد ضعفا حينما تحولوا إلى أصدقاء أقوى مما يجب, لأن ذلك كان سيؤدي إلى اختلال كبير في ميزان القوى الإقليمية مما يلحق الضرر بإيران وتركيا وسوريا. ولم يكن المجتمع الدولي أو الإقليمي آنذاك على استعداد أبدا لقبول هذا التغيير الكبير وما كان سيجره على المنطقة من متغيرات.
على الجانب الآخر كان صدام جاهزا لاقتناص الفرصة, عرف أن المعركة التي تدور عسكريا في الشمال تدور سياسيا في الجنوب, أما إيرانيو الشاه فلم يكن دعمهم للأكراد قد تأسس على نوايا إنسانية خالصة أو أنه جاء لوجه الله وإنما لأنهم كانوا الورقة الأقوى للحصول على تنازلات هامة من حكومة بغداد.
وحينما تعانق الشاه وصدام حسين في مؤتمر قمة عدم الانحياز في الجزائر, وبينما كانت الشفاه تتبادل قبلاتها السياسية فإن الأيادي وقتها راحت تتبادل الأوراق: باليمنى سلم صدام نصف شط العرب للشاه واستلم منه باليسرى الشمال الكردي العراقي.
وقتها صار ضعفه مصدر قوة له, ولهذا أدت معادلة (ضعف القوة وقوة الضعف) إلى انتصار جيش بإطلاقة مدفعية واحدة على جيش الأكراد الكثير العديد والعدة.
في عنق الزجاجة ذاك, كان مطلوبا من الأكراد, حتى لا تتحول القوة إلى ضعف, أن يوفقوا بين طرفي معادلة قوة الضعف وضعف القوة.
في عام 1991, أي بعد الهزيمة في الكويت تكرر الموقف ذاته, أصبح الأكراد مرة أخرى على أبواب عاصمتهم السليمانية. لقد صاروا صديقا أقوى مما يجب, في حين صار صدام عدوا أضعف مما يجب, ولذلك ذهب الأمريكان فورا إلى إعادة ضبط معادلة القوة والضعف.. سمحوا لصدام باستعمال الطائرات الطوافة, وإنجاز هجوم أدى هو أيضا إلى الإخلال تماما بشروط القوة والضعف حينما سار أكثر من مليون ونصف من الأكراد بإتجاه الحدود مع تركيا.
وفي تلك اللحظات التي لا تنسى تحول ضعف الأكراد العسكري إلى قوة أخلاقية إنسانية.
لقد ربح الأكراد بضعفهم ما كان خسروه بقوتهم.
بينما خسر صدام بقوته ما كان ربحه بضعفه.
إن قرار الخطوط الآمنة الذي حدد بالضبط المساحات العراقية الجديدة كان أعطى للأكراد وجودا أكثر من كيان وأقل من دولة, بتعبير آخر أعطاهم دولة اعتبارية في حين أجل مشروع دولتهم السياسية حتى إشعار آخر. في ذلك الوقت لم يكن مسموحا مطلقا لصدام أن يتجاوز حدود مساحة دولته الجديدة, وحينها فضل انتظار ظرف جديد من شأنه أن يغير ترتيب طرفي معادلة الضعف والقوة كما حدث في عام 1975.
ولنتذكر أن الصراع العسكري الذي دار بين قوات الطالباني والبرزاني في النصف الثاني من التسعينات كان أدى إلى أن تختل عملية التوازن لصالح الأول الذي كان يحظى وقتها بتأييد ودعم من إيران. في تلك اللحظة الخانقة واجهت المعادلات السياسية العسكرية التي ترتبت قبل تلك اللحظة إلى زلزال مفاجئ. اتصل البارزاني الابن بصدام العدو طالبا مساعدته لإيقاف زحف الطالباني على مدينة أربيل.
بارك الأمريكان هذا النداء وسمحوا لصدام أن يأمر قواته بالدخول إلى أربيل.
فهم صدام اللعبة وتفهم الظرف فلم يكن من صالحه أن يكون عدوه البارزاني أضعف مما يجب لصالح الطالباني الذي كانت تدعمه إيران, والذي كاد أن يصبح أقوى مما يجب.
وفي لحظة الزلزال, وفي ساحتها, سمحت أمريكا لقوى الصراع أن تتبادل المواقع: ما بين عدو أصبح صديقا وصديق أصبح عدوا, على أن تجري العودة إلى الالتزام بشكل ترتيب القوى وتعريفها كما كان قبل الزلزال. وتلك في اعتقادي لحظة شبيهة بتلك التي صار عليها صدام بعد توقف الحرب العراقية الإيرانية, حينما أصبح (عدوا أقوى مما يجب) مما حتم إعادته من خلال حرب الكويت إلى (عدو معقول الضعف ومعقول القوة).
وهكذا عاد الطالباني إلى حدوده ولم يسمح للجيش العراقي بمطاردته هناك, واستعاد البارزاني حدود منطقته السابقة, أما الثمن الذي قبضه صدام آنذاك فقد كان عبارة عن أكثر عن سبعين عنصرا من عناصر المعارضة التي كانت متواجدة في أربيل بالإضافة إلى إضعافه الطرف الكردي المتحالف والمدعوم من إيران.
في العام الذي تلا يوم الزلزال ذاك كان هناك مؤتمرا للحزب الديمقراطي الكردستاني وقد وجه فيه أحد المؤتمرين نقدا شديد اللهجة للبرزاني بشأن علاقاته "المتواطئة" مع حكومة صدام بعد هجوم أربيل, لكن البارزاني الذي أكد أن الشك بكراهيته لصدام لا محل له في العقل, فقد أكد أيضا على ضرورة أن لا تحل تلك الكراهية الشخصية محل الكراهية الوطنية أو أن تطغى عليها, لكي لا يتحول القائد من زعيم حزب أو شعب إلى قائد عشيرة مما يفقده استحقاقه القيادي وشرعيته السياسية.
بعد هذه المقدمة راح البارزاني يتحدث عن المسموح به وغير المسموح به دوليا ولم ينسى الرجوع إلى التجرية الكردية المريرة في عام 1975 حينما تخلى الحلفاء الدوليين والإقليمين عن الأكراد يوم لم يحسنوا التعامل مع معادلات القوة والضعف في المنطقة, وبعد أن صاروا على أبواب الانتقال من مساحة المواجهة مع صدام إلى مساحة المواجهة مع الدول المجاورة.
نفس المشهد كان تكرر في عام 2006, لكن مع الطالباني هذه المرة. ففي اللقاء الذي عقده مع بعض من وجوه الجالية العراقية في واشنطن هاجم صحفي كردي أمريكي الزعماء الكورد متهما إياهم بالتهاون بشأن إعلان الدولة الكردية المستقلة. لقد كنت على مسافة قليلة من الطالباني بما سمح لي برؤية ملامح الغضب التي سكنت وجهه والهزات التي انتابت جسده وهو يرد على ذلك الصحفي, ولم يكن حينها في وارد نفي تلك التهمة عن طريق تأكيد تمسك القيادات الكردية بالدولة المستقلة وإنما هو أكد على العكس من ذلك, إذ أعلن تمسك الأكراد بفدراليتهم ضمن الدولة العراقية الواحدة.
إن الزعيمين الكرديين كانا تعلما من التجارب الكثيرة التي مرت بهما شروط انتصار قضيتهما. وهما يعلمان الآن كيف يمكن أن يتحول الصديق الأقوى مما يجب إلى عدو ينبغي إضعافه وإعادته إلى خانة الصديق المعقول.
كما أنهما تعلما من دروسهما السابقة كيف أن يمكن أن يتحول النصر العسكري إلى هزيمة سياسية حينما يتخطى اشتراطات القوة والضعف في هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة التي قد تجري برمجة مواقع القوة فيها في اللحظة التي تخرج بها تلك القوى عن حجمها ومكانها في خارطة الصراع.
وأجزم أن القيادات الكردية, وقد عركتها معارك أكثر من نصف قرن من الزمن هي أكثر من غيرها خبرة ومعرفة بقيمة اللحظات التاريخية الفاعلة, وهي ليست بحاجة إلى نصائح سياسي أو إعلامي عراقي مثل الأستاذ حسن العلوي, ينسى على طريق استمالته لأصدقائه الكورد, أو حتى على طريق محبته الخالصة, أن الأكراد يعرفون تماما أن بعض الحب ما قتل.
وأنا معهم في الاعتقاد أن هذه المرحلة السياسية التي يعيشوها في عراق اليوم هي من أفضل لحظاتهم على الإطلاق, وإن إغرائهم بالدولة المستقلة قد ينقلهم مجددا من مساحة (قوة الضعف) إلى مساحة (ضعف القوة).
وبالنصيحة الخاطئة يكون بعض الأصدقاء أعداء حتى ولو لم يشعروا.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟