|
حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الأخير - بقلم: د. حياة الخياري
أديب كمال الدين
الحوار المتمدن-العدد: 3496 - 2011 / 9 / 24 - 01:23
المحور:
الادب والفن
حوار القرآن والشّعر في "نون" أديب كمال الدين - القسم الأخير
د. حياة الخياري - تونس
بخوضه في تجربة نون المياه المالحة، حفر الشّعر بعيدا، بأصابع دامية، في عمق الجانب الإنسانيّ للنّبيّ وأشبع فضول القارئ في أن يتبيّن ملامح النبيّ بعيدا عن الرّعاية الرّبانيّة لتتراءى أمامه ملامح الشّاعر ولكن منزّلا في فضاء معلّق بين السّماء والأرض، بين البحر والشّاطئ، بين المعقول واللاّمعقول، ثمّ بين نقطة النّاسوت ونقطة اللاّهوت. وهو فضاء يحقّق، دون شكّ، أريحيّة للّغة الشعريّة التي تحكي القصص القرآنيّ بوسائلها الرّمزيّة الخاصّة. والنّصّ الشّعريّ، بذلك، إنّما يرأب ثلمة في الإبداع العربي غيّبت صور الرّسل والأنبياء عن الفنون مطلقا. وقد انبنت الرّؤية الإبداعيّة على خلفيّة واعية تعمدّت تبئير الفواجع في مشهديّة نون الأنبياء وفاء لمقاصد معرفيّة وفنيّة عميقة ميّزت شعر أديب كمال الدين. إنّ حضور معاناة الأنبياء وغياب المكافأة لم يتوقّف عند احتجاب النّقطة بل تعدّاه إلى نزوح مياه الحرف، وهو المصير الفاجعيّ الذي يصيب نون الدّواة ويخشاه قلم الشّاعر، لذلك وجب ادّخار النقطة: نقطة "لذّة المعرفة" المكنوفة في جسد عيسى، ونقطة "معرفة اللّذة" المكنوفة في جسد يوسف. إنّهما النّقطتان المجهضتان شعريّا، وفاء للحاجة إلى التنويع من هويّة الموطن الكتابيّ، وهو موضع شراكة بين الشاعر والقارئ، يحتلّ فيه الجسد حيّزا هاما من لعبة المناورة القائمة على التّشفير (encodage) و"فكّ التّشفير" (décodage). وإذ يعمد الشاعر إلى مقصد "الادّخار" (L’épargne)، فإنّما لينعم القارئ بـ"لذّة اللاّمعنى" (Le plaisir du non- sens)، (59) المنسربة صدًى من صوت، ونقطةً من حرف، وقطرةً من بحر لا متناه أعلت من شأن مداده الآيةُ القرآنيّة: ﴿قُلْ لَو كان البحرُ مِدادًا لكلماتِ ربّي لَنَفِدَ البحْرُ قبْل أن تَنْفدَ كلماتُ ربّي ولو جِئْنا بمِثْله مَدَدًا.﴾ (سورة الكهف، الآية 109) من ثمّ ، يظلّ الحرف الشّعريّ، شأنه شأن الحرف القرآنيّ، شغفا بإمكان: إمكان مَدَدٍ وإمكان مِداد، إمكان كينونة وإمكان قصيدة. في بحر القصيدة قد ترتبك مياه الرّبوبيّة وقد يختلط الأمر على الأنبياء حول هويّة نقطة النّطفة أمّا الشعراء فحريصون على أن تظلّ نقاطهم تائهة في رحم النّون من دون هويّة ومن دون ولادة. يحتاج بحر الشّعر أن يُعمّد في بحر النبوّة حتّى يُخلَّد، لذلك كانت نطفة عيسى ونقطة يوسف تصريفا لنقطة دمع ونقطة مداد كثّفها حرف الشّاعر عبر أزمنته المائيّة والنّاريّة. غير أنّنا بين نقطة الدّمع ونقطة الدّمّ من جانب ثمّ نقطة النّطفة من جانب آخر، نتبيّن خلفيّة معرفيّة وجّهت رحلة الإبحار في زمن الأنبياء وكشفت عن نظرة كليّة إلى هذا الكيان الخارقيّ. فمن الواضح أنّ الشّاعر لم يأخذ بعين الاعتبار الحدود المفهوميّة الفاصلة بين مياه الرّحم ومياه البحر لذلك حمّل النّون دلالات رمزيّة تتشابك وتتعاضد في الصّورة الشعريّة الواحدة، فتلتبس ملوحة مياه الرّحم بملوحة مياه البحر إلى حدّ يتعسّر معه التمييز أيّهما الحاوي وأيّهما المحويّ، ثمّ أيّهما البحر وأيّهما المبحِر. هذه المخايلة البصريّة انعكست على علاقة حرف النون بنقطته التي تتماهى معه بالغة القاع حينا، وتُلفظ بعيدا عن مياهه حينا آخر، وتتمطّط وتتسع إلى درجة تصبح قادرة على تشرّب كلّ ما في الحرف من مياه حينا ثالثا. في الأثناء يجد القارئ نفسه في خضمّ عباب البحرين متعاطفا مع الحرف تارة مشفقا على حال النقطة طورا، باحثا عن منقذ من طُوفان النقاط والحروف بين متراكم المعارف وآليّات التأويل، متسائلا عمّا إذا كان قادرا على الخروج من بحر الأنبياء وبحر الشّعراء بقراءة قابلة للرّسوّ على مرفأ "المعنى" وشاطئ "الدّلالة" بعد أن جدّفت به سفينة الحرف بكلام الوحي من جانب وبوحي الكلام من جانب آخر على تيّارين متقابلين شكلا ومضمونا. فمن خلال النماذج الشعريّة المتباينة تتراءى ملامح المنافسة غير المعلنة بين الشّعر والقرآن من أجل الاستحواذ على منطقة النّفوذ على النّون: أنثى، رحما، أبجديّة ودواة بقصد اتّخاذها معبرا لبلوغ نقطة الحقيقة، وهي وإن احتكرها الوحي الإلهيّ رمزا إلى المعرفة المطلقة، فإنّ الشّعر أبى إلاّ أن يلوذ بتأصيل أصوله الأنطولوجية فيقتنص وحيه الخاصّ من مطلق معرفيّ مواز مثّله الرَّئِيُّ أو"شيطان الشّاعر"، إذ يذكر القرشي في فصل "شياطين الشّعراء": "وفي مصداق ما ذكرناه من أشعار الجنّ، وقولهم الشعر على ألسن العرب، قول الأعشى : "وما كنتُ شَاحرْدا، ولكن حسِبْتُنِي *** إذا "مِسْحَلٌ" يُسْدي لِي القولَ أعلقُ (الطّويل) شَرِيكانِ فيما بيْنَنَا مِنْ هَـوادَةٍ *** صَفِيّـانِ إنسِيٌّ وجِنٌّ موَفَّــقُ يقولُ فلا أعْيا بقوْلٍ يقولُـهُ *** كفانيَ لا عَيٌّ ، ولا هو أخرَقُ.". (60) لم تتوقّف المنافسة بين النبيّ والشّّاعر عند حد التماسّ بين وحي الله وإلهام الرّئيّ، بل تجاوزته إلى الإعجاز اللغويّ الذي نزلت فيه عديد الآيات القرآنيّة لتؤكّد على تسامي الكلام الإلهيّ على لغة الإنس والجنّ ومنها قوله تعالى:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتمَعَتِ الإنْسُ والجِنُّ عَلَى أنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِه، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.﴾ (سورة الإسراء ، الآية 88) غير أنّ مثل تلك الآيات لم تحدّ من ضراوة المنافسة بين القرآن والشّعر خصوصا مع المعارضات الشّعريّة التي عرف بها أبو الطيّب المتنبي وغيره من الشعراء. وفي هذا السّياق يُروى أنّ أبا العلاء المعرّي ألّف كتابا في معارضة القرآن سمّاه "الفصول والغايات في مجاراة السّور والآيات" ، وقد قيل له في شعره الذي عارض به القرآن: "ما هذا إلاّ جيّد غير أنّه ليس عليه طلاوة القرآن." فقال: حتّى تصقلَه الألسنُ في المحاريب أربع مائة سنة وعند ذلك أنظروا كيف يكون." (61) لا ريب أنّ الحرف الشعريّ المتنبّئ قد اقتحم مجالا محذورا فنيّا محظورا عقائديّا، ذلك أنّه واقع على تخوم كتاب تستشرفه كلّ من لغة القرآن، ولغة الشّعر، ولغة الجسد. وهي تخوم قصيّة عصيّة لطالما كانت مثار جدل نقديّ وعقائديّ منذ حداثة عهد العرب بالإسلام. غير أنّ بوّابات الحوار التي نراها موصَدَة في زماننا بشعارات التّكفير والقصاص وإقامة الحدود، كانت مشرعة على مصراعيها في عصر الخلفاء الرّاشدين، فلا يتفاجأنّ القارئ بأنّ بعض الفِرَق الإسلاميّة كانت السبّاقة إلى "جسْدنة" القرآن مجازيّا ورمزيّا، لا من منظور أدبيّ بيانيّ كما يفعل الشعراء عادة، ولا من منظور إشراقيّ عرفانيّ كما يفعل الصوفيّة أحيانا ، بل من منظور عقلي برهاني، إذ يرى "الجاحظيّة" أنّ "القرآن جَسَدٌ يَنقلب تارة رَجُلا وتارة امرأة." (62) بين تجسيد الإلهيّ، وتأليه الجسديّ، يتردّد الرّمز الشعري. وبين السّتر والكشف تتأرجح الصّور الشعريّة، لكنّ حركة الإبداع تلك لا تحدث إلاّ تحت عباءة الأبجديّة التي يتحاور في نسيجها القرآنيُّ والصوفيّ والشعريّ، ولولا ذاك الحوار لاهترأت منذ زمن. وهو قبل هذا وذاك حوار وجوديّ يبتغي استكناه جوهر الحقيقة عبر الاستبصار في "نون الوجود ونقطة الإنسانيّة." على حدّ عبارة ابن عربي. فمن أين لنقطة القُدُس أن تبقى بمنْأى عن شائبة نقطة الغواية؟ وكيف للحرف القرآنيّ أن يَسْلَم من معانقة الحرف الشّعريّ، والحال أنّ القرآنَ أفقُ اللّغة العربيّة وسماءها، كما أنّ الشّعر جذرها الثقافيّ الأعمق؟ فلا غرابة والحال تلك، أن يكون "الحرف الشّعريّ المتنبّئ من بين الثّمرات الأكثر نضوجا في لغة هي ﴿كشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابتٌ وفرْعُها في السّمَاء.﴾(سورة إبراهيم، آية 24). لعلّنا لا نجانب الصّواب إذا ذهبنا إلى أنّ الإبداع الأدبيّ بروافده المعرفيّة المختلفة كان في عصر الإسلام الأوّل أكثر تحرّرا ممّا هو عليه في عصرنا، فلم يكن صوت الشّاعر يُلجم باسم الدين، وهذا ما أدركه النقّاد القدامى الذين استنفروا أقلامهم للذّبّ عنه، فكان موقف القاضي الجرجاني الأشد جرأة في تحرير الشِّعر من الأحكام المعياريّة، الأخلاقيّة منها والدينيّة، إذ قال: "فلو كانت الدّيانة عارا على الشّعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخّر الشّاعر، لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدّواوين ويحذف ذكره إذا عدّت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهليّة ومن تشهد الأمّة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزّبعري وأضرابهما ممّن تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاب أصحابه، بُكْما خرسا مفحمين. لكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشِّعر." (63) إنّ أهمّ ما يمكن أن نخلص إليه من النّون النبويّة "القرآ-شعريّة" قابليّةُ الحرف القرآني للتّجدّد والتّوالد لا بتعدّدية التّفاسير وأوجه القراءات فحسب، بل بتعدّدية التوظيف الإنشائيّ أيضا كتابة وقراءة بما يراعي خصوصيّة "المُتناصّ" (Intertexte)، الكامن حسب "جرار جنيت" (G.Genette ) "ليس في النصّ ذاته بل في عمليّات التّواصل الكامنة في شروط إنتاج النصّ وشروط تلقّيه." (64) بمعنى أن لا يغفل المبدع والنّاقد كلاهما عن حساسيّة النّص المقدّس ومكانته في ضمير المتقبّل المسلم وفي ذاكرته الثّقافيّة تماشيا مع ما حدّ به النّبيّ تعدّدية الحرف القرآنيّ. فعن أبي هريرة "أنّ رسول الله (ص) قال: "إنّ هذا القرآنَ أُنْزِلَ على سبعةِ أحرف، فاقرأوا ولا حرج، ولكنْ لا تختموا ذِكْرَ رحمةٍ بعذاب، ولا ذِكْرَ عذابٍ برَحْمةٍ." (65) أن يرفع النبيّ الحرج عن حرّية القراءة في الحدود المنصوص عليها، فلكي يكتم الأصوات التي تدّعي امتلاك الحقيقة الكليّة حتّى تسوّغ لنفسها احتكار نصّ نزّله الله للبشريّة جمعاء، وتمارسَ الوصاية على لغة وُجدت، أصلا، قبل وجود الشّعر وقبل جود القرآن. من المنطلق ذاته، حرص النقّاد القدامى على التعامل مع الاقتباس اعتمادا على معايير فنيّة جماليّة، ولم يجد علماء القرآن حرجا في أن يسوقوا نماذج من الآيات القرآنيّة التي ضمّنها الشّعراء قصائدهم حتّى الخمريّة منها، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿ودَانِيَةً علَيْهِم ظِلاَلُها وذُلِّلَتْ قطوفُها تَذْلِيلاً.﴾ (سورة الإنسان، الآية 14) ، فالتناسب بين وزن الكلام القرآني و الكلام الشعريّ كثيرا ما شجّع الشعراء على الاقتباس والتضمين، وقد "ذكر عن أبي نواس أنّه ضمّن ذلك شعرا وهو قوله: " وَفِتْيَة في مَجْلسٍ وُجُوهُهم * * * ريحانُهم قد عَدَمُوا التّثـْقيلاَ (الرّجز) "ودانيــةً عَلَيْهم ظلالُـها *** وذُلِّـلَتْ قُطوفُـها تذْلِـيلاَ"." (66) وبالعودة إلى السّورة القرآنيّة يبرز التعاضد الدّلاليّ واضحا بينها وبين الخمريّة في بعض ما يسم الجنّة من نِعم، خصوصا في ما أحاط بالآية موضوع التضمين، ونصّها: ﴿ويُسْقُونَ فِيها كَأْسًا كان مِزَاجُها زَنْجَبِيلاً.﴾ (سورة الإنسان، الآية 17) انطلاقا من المعايير الأرضيّة تبيّن الشّعراء الجنّة السّماويّة، بل إنّ عمليّة الإسقاط تلك قد طالت حتّى أرباب الأدب الصوفيّ، ولعلّ الخلف أولى من السّلف بما خاطب به الحلاّج المسلمين في زمانه: " وأيُّ الأرْضِ تَخْلو مِنكَ حتَـى *** تَعالَوْا يَطْلبُونَـكَ في السّمَـاءِ (الوافر) نَراهُم يَنْظُــرُون إلَيكَ جَهْـرًا *** وهُمْ لا يُبصِرُون مِنَ العَمـاء." [67] ولأنّ الحقائق الكلّية أوسع الشّعراء والأنبياء، تتقاطع الرّؤى الوجوديّة إلى موقع الكينونة الإنسانيّة من الأرض. فالعميان الذين استخفّ بهم الحلاّج هم "المبشّرّون بالعالم الآخر" وفيهم قال "زرادشت": "صدّقوني أيّها الإخوة، الجسد الذي يئس من الجسد هو من تلمّس بأصابع عقل مسحور تلك الأسوار الأخيرة. صدّقوني أيّها الإخوة، الجسد الذي يئس من الأرض هو الذي سمع بطن الأرض يخاطبه. حينها أراد أن يرتمي ورأسه إلى الأمام، عبر الأسوار الأخيرة ليمرّ ، بجسده كلّه وليس فقط برأسه، إلى "العالم الآخر"..." (68) قد تتعدّد الأديان وتختلف التصوّرات المعرفيّة لكنّها تجمع على أنّ الأرض هي الرّحم الحاضن لجوهر الكينونة ونقطة الإنسانيّة. لذلك يختلج الجسد كلّما دقّت الخيوط التي تصله بأنوثة الكون فيهرع مستغيثا بالمطلق الإلهيّ عساه يقرّب ما بين المخلوق وأصله: " جسدي خِرْقةٌ تُخاطُ إلى الأرض ، فيا خائط الخلائق خِطْني.." لا شكّ أنّ مكابدة أبي العلاء المعرّي نابعة من تضخّم وعيه بحقائق الوجود، لكنّ البعد الفلسفي لا يقصي عنصرا نسج خيوط المعاناة في تجربة الشّاعر الفيلسوف ألا وهو الضّيق بالجسد المعتلّ. أمّا لو غيّرنا من زاوية التقاطنا للجسد فإنّ اعتلاله يستحيل نتيجة لعدم مصالحته مع الأرض وليس سببا. وضمانا لتواصله مع الأرضيّ، يدعو "زرادشت" إلى تنقية الجسد من جميع الشّوائب، قائلا: ".. "أنصتوا بالأحرى، أيّها الإخوة، إلى صوت الجسد السّليم، لأنّ صوته أصدق وأنقى. يتكلّم الجسد السّليم بمزيد من النّقاء والصّدق، فهو جسد كامل ذو بنية واضحة منتظمة، وهو الذي يحَدِّث عن معنى الأرض." هكذا حدّث زرادشت." (69) لو بحثنا عن بؤرة للدّلالة الرّمزيّة لنون الشّاعر لما وجدنا أقرب من الجسد حاضنا، لكنّه الجسد الحيّ المبحر المترحّل في رحلة بحث إنسانيّة لا تنتهي. وبملامسته للمدارات النبويّة والصوفيّة والفلسفيّة، معرفيّا وفنّيّا، يكون الشّاعر قد استوطن مدار التّيه مصوّرا حال التردّد ما بين قوسي البحر والشّاطئ في قصيدة "قاف": " أيّتها النّون .. خذيني إلى السّاحل أو إلى البحر إلى الصّمتِ أو إلى الكلام إلى اللغة أو إلى الطمأنينة. خذيني .. فجلوسي في المابين أفسد روحي ومزّقَ حاءَ طفولتي المجنونة." (70) من البيّن أنّ الشعر يقع على مشارف القوس الأعسر للنّون حيث البحر رديف للصّمت وللغة قبالة القوس الآخر الأكثر أمانا لأنّ فيه الساحل والكلام والطمأنينة، وفي الصّورة مقابلة بين حميميّة الحرف الحاضن للّغة الشّعريّة، وشيوع سائر وسائل التّواصل المعبّرة عن "الكلام" الجمعي. وإذا كانت اللغة نقيض الطمأنينة فإنّ تلبّس الشاعر بنقطة المابين هو تكثيف لكلّ ما في نون الوجود من ارتباك وتقلّب. لكنّهما في حقيقة الأمر انعكاس لمدّ البحر وجزره ولولاهما ما كانت للوجود حياة. * * خـاتمة : في فضاء الشّعر يتصالح السماويّ مع الأرضيّ، والتصوّف مع الشّبق، ويمتزج التألّه بالنبوّة والجنون. غير أنّ هذا الحِراك الرّمزي لم يثْرَ ويتخصّب إلاّ في رحم أنثى: امرأة وأرضا ودواة، سورة وقصيدة ولغة، فيه نقطة التّلاقي ومنه نطفة التّلاقح. من ثمّ عُدّ إبحار الأدب الصّوفيّ في مياه الأنوثة سَفَرا إلى الله بما ليس فيه. إنّها رحلة حنين الإنسان إلى أمومة الكون. في سدرة المنتهى حيث الزّمن السّرمديّ المنفلت من تقويمات العالم وأشيائه، تولد القصيدة الحروفيّة كتابة وقراءة في أقرب المقامات إلى الله: مقام المحبّة، "وحقيقة المَحَبّة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك." (71) حينئذ، لا بدّ للقلم أن يستبعد المرافئ، إذ لا شاطئ لبحر الأبديّة. إنّ البحر الذي سبحت فيه حروف الشّعر أشبه بـ " البحر المسجور" (72)، بمعنى: "العلم المصُون والسرّ المكنون الّذي هو بين الكاف والنّون وفيه قال الشّبلي بحري بلا شاطئ." وحيث تسبح كلمة البعث "كن" فإنّما الحديث يُترَك لإقامة طقس الخلق بين النّون ونقطتها وبين البحر والشّمس في فضاء شعريّ احتضنته قصيدة "غروب النقطة": " أنا النّقطة أنا اللّغز الخرافيُّ أنا رحلةُ المجهول أنا قُرْصُ السّلامِ والحُبّ والشَّوْقِ. وأنتَ البحر ، أيّها الحرف ، يا مَن تَقرأ لَوحَ حياتي، أعني قصيدتي. هكذا أخْتفِي فيكَ وبكَ ومعكَ لأكون لانهائيّةً فيكَ وبكَ ومعكَ وأنتَ تَمْتصُّني لتَبتهجَ بأسْرَارِي أو لتَضيعَ فِيَّ أوْ بِي أوْ مَعِي." (73 ) الحرف الشّعريّ المتنبّئ وِقفةٌ على تخوم الحقيقة في ظِلّ المعرفة، بين النور والعتمة، قاب قوسي السّماء والأرض، بين ذراعي البحر والشّاطئ ، تقتضي سباحة مع النّفري على العرش المائيّ في "موقف المحضر والحرف" يجلّيها قوله: "كذلك أوقفني الربّ و قال لي: قل للشمس أيتها المكتوبة بقلم الرب أَخْرِجي وجهكِ وابسطي من أعطافك وسيري حيث ترين فرحك على همّك وارسلي القمر بين يديك ولتحدق بك النجوم الثابتة وسيري تحت السحاب واطلعي على قعور المياه ولا تغْربي في المغرب ولا تطلعي في المشرق وقفي للظلّ ..." (74) توحي العناصر الكونيّة المُستنفَرة للرؤية بتمازج بين مائيّة البحر وناريّة الشّمس، منهما تُعتصَر "كيمياء المعرفة" في عمليّتي تشرّب فتصريف تحيطان بالسّماويّ والأرضيّ وتوقّّعان نبض الكون حائيّا، ترجيعا لصدى النّفح العيسويّ. فـ"حَهْ" هي التي اعتلتْ كرسيّ العرش في عالم الحروف المبحرة المشمسة، ومجّد مقامَها العارفون، إذ قال فيها ابن عربي: "حَـهْ: سلطان حاء الهاء وأخواتها في عالم الأنوار... كلّ ما في العالم بكلّ حرف منها قد انعقد وارتبط." (75) وليستْ نون الأنبياء المبحرة في كيمياء الحرف الشّعريّ سوى لفحة متوهّجة من نفخات الحاء. لقد كان الشّعر وسيَبقى الصّرخة الأعمق التي تطلقها اللّغة في وجه العدم. أمّا الحرف فصداها الطبيعيّ الإنسانيّ الأبعد. ولأنّه يعي بكونه رسالة وجود وليس رسالة كتابة فحسب، سيظلّ الشّعر الحقيقيّ سابحا في أعمق بحار المعرفة: قرآنيّةً وصوفيّة وإنسانيّة، ولكن من دون أن يضلّ مياهه الذاتيّة، لأنّ كينونة القصيدة عنده تتجدّد بتجدّد أمواج اللّغة وتدفّق حروفها الزّائغة المنفلتة من كلّ محاصرة. طَرْق باب الشّعر، أوبلوغ خيط القصيدة، ذاك هو المقصد الفنّي الذي من أجله ركب الشّاعر بحر الأنبياء وتحسّس أعمّتهم واكتسى قمصانهم وتاه في رموز نوناتهم المشمسة المعتمة. وهي ولا شك عمليّة استشراف رؤيويّ تقتضي من القراءة التحرّر من جمود النظريّات النقدية الجاهزة القائمة على ضوابط ومقايسات معيارية غريبة عن روح النصّ الحروفيّ، لعلّها تُسلم القلم لانسيابية روحية تغوص في نون النفس قبل نون الدّواة. إنّ العمق المعرفيّ والفنيّ الحافّ برحلة "ذوي النّونات" من شعرائنا ينمّ عن حرص على تأصيل الموطن الكتابيّ بين مُنْجَز القرآن وممكن الشّعر، يوازيه تأصيل لموطن وجوديّ "آخر" يتحسّسه القارئ التماسا لكينونة "أخرى" تستشرف الأفق البرزخيّ المكنوف ما بين الحرف والنّقطة، وما بين الحاء والهاء.. حيث ﴿مَرَجُ البحْرَيْن يَلْتَقِيَــــانْ..﴾..(سورة الرّحمان ، الآية 19) ******************************************************************** المصادر والمراجع Todorov, Recherche sur le symbolisme linguistique ; Poétique , N18, Paris 59 - 1974 (L’ épargne et le non- sens; p 233- 235) 60 - أبو زيد القرشي ، جمهرة أشعار العرب ، ص 54، "شاحردا" : لفظة فارسيّة معناها التّلميذ المتعلّم، أما "مسحل" فرئيّ الأعشى، كما أنّ "لافظ" رئيّ امرئ القيس حسب ما أورد القرشي في باب "شياطين الشّعراء". 61 - مصطفى صادق الرّافعي ، إعجاز القرآن ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1990 ، ص 185. 62 - أبو الحسن بن محمّد بن عليّ الجرجاني، التعريفات، الدار التونسيّة للنشر، ط1 تونس 1971، ص 40. و"الجاحظيّة" هم أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ. 63- القاضي الجرجاني، الوساطة بين المتنبّي وخصومه ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي ، القاهرة 1966، ص 64. 64 - Gérard Genette , Palimpsestes ( La Littérature au second degré) – Seuil, Paris 1982 , p10. 65 - بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي ، البرهان في علوم القرآن- تحقيق د. يوسف عبد الرّحمان المرعشي والشيخ جمال حمدي الذهبي والشيخ إبراهيم عبد الله الكردي ، دار المعرفة، ط1 بيروت 1990 ، ج1 ص 303. 66 - القاضي أبو بكر الباقلاّني ، إعجاز القرآن ، ص 44 . 67 - الحسين بن منصور الحلاّج ، الديوان يليه كتاب الطّواسين ، منشورات الجمل، ط1 بيروت 1997 ، ص 26 68 - Frédérique Nietzsche , Ainsi parlait Zarathoustra , (Des prêcheurs d’arrière- monde ) P38 69 -Frédérique Nietzsche , Ainsi parlait Zarathoustra , (Des contempteurs du corps) , p41 70 - نون ، ص 15 71 - عبد الكريم القشيري ، الرّسالة القشيريّة ، ط1 القاهرة1957 ، ص145. 72 - د. جورج متري عبد المسيح ، معجم المصطلحات الصّوفيّة ، ص 18 73 - شجرة الحروف ، ص 111 74 - محمد بن عبد الجبّار النفّري ، المواقف والمخاطبات، تحقيق آرثر يوحنا أربر، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب – د.ت، ص 215 75 - محيي الدين بن عربي، رسالة المقنع في إيضاح السّهل الممتنَع، مخطوط بمكتبة "يوسف آغا" بقونية (تركيا)، تحت رقم ( 7838)، ص 75 ******************************************* لقراءة الدراسة كاملة يرجى استخدام الرابط : http://www.adeebk.com/plaz/223.htm د. حياة الخياري - تونس
#أديب_كمال_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الرابع
-
حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الثالث
-
حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدّين - القسم الثاني
-
حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدّين- القسم الأول
-
موقف البياض
-
موقف دُعاء كُمَيْل
-
موقف قَسوة القلب
-
موقف الأنا
-
موقف الجسد
-
ملكة؟ عارفة؟ ساحرة؟
-
موقف السجن
-
موقف الشوق
-
قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (أقول الحرف وأعني أصابعي): ش
...
-
موقف الحجاب
-
موقف المطر
-
موقف الدائرة
-
كتاب جديد للدكتور الناقد صالح الرزوق عن تجربة أديب كمال الدي
...
-
موقف عيسى
-
موقف العِزّة
-
موقف الخوف
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|