علال البسيط
الحوار المتمدن-العدد: 3493 - 2011 / 9 / 21 - 23:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا بد لنا ونحن نستعرض ما جاء في المنشور القرآني من معاني وأحكام, أن نجرده تماما من الشحنات اللاهوتية التي سرعان ما تستحوذ على وعينا عندما نتحدث عن القرآن, فالقداسة اللاهوتية الهائلة التي تحيط بهذه المدونة الدينية منذ قرون وما رسخته بعدها القراءات التفسيرية الكلاسيكية تمنعنا من ان نراه كما هو في حقيقته, اي كنص بشري لغوي مؤلف من كلمات وحروف وتراكيب لغوية ونحوية وبلاغية, ومنطوقة أدبية قابلة لأن نخضعها للفكر النقدي, الذي يعلن القطيعة مع الخط التبجيلي التقليدي للاهوتيين المسلمين (فقهاء مفسرين رواة أصوليين...) وكان أولى بالماركسيين الشرقيين بما يمتلكونه من آلياة ومناهج عقلانية معتبرة وخلاقة, ان يوظفوها هنا على مستوى الفهم والنظر في ما يخص المنشور القرآني, وعدم الاكتفاء بالقطيعة الفعلية والممارسة العملية, دون احداث اية اختراقات نظرية للمسلمات الايمانية التقليدية, مما اعطى الفرصة للايديولوجيا الاصولية السلفية لتنتشر في مفاصل الفكر العربي الاسلامي, وتبث خدرها في عروقه, ورغم ان مجهودات الاستاذ الكبير محمد عابد الجابري في هذا الصدد في محل تقديرنا واعتبارنا, الا انها بقيت رهينة ما يعرف اليوم بالدائرة التأويلية أو تلازمية (الفهم –الايمان), طردا وعكسا, بمعنى: انه ينبغي عليك ان تؤمن أولا لكي تفهم المنطوق القرآني, وأن تفهمه لكي تؤمن فهما زوجان متلازمان داخل هذه الدائرة التأويلية.
ونحن لا نريد التقيد بأية دائرة من الدوائر, وأن نعمد الى النص فنديره على نحو متحرر تماما من الثوابت والمسلمات الدوغمائية, التي تناولت الوضعية العامة للخطاب المحمدي كحقيقة مطلقة, مطبوعة على التقديس والتنزيه والمعصومية, فهو بهذا الاعتبار لا تُناقَشُ مبادئه ولا تستشكل نواقصه, ويتلقى بالتسليم والاذعان. اننا بتعبير آخر نحاول الخروج من ضيق الميثوس واسطورانيته, الى سعة اللغوس وعقلانيته. و نستعير في الواقع نظرية العالم الابستمولوجي( توماس كون) المعروفة ب (البارادايم) من حيث خروجنا عن النظام أو النموذج الفكري التبجيلي العام الذي يقدمه التراث الاسلامي, و ساد منذ تبلور العلم الاسلامي في القرون الاولى من ظهور الاسلام الى اليوم. إنه نوع من التفكير خارج الصندوق، الذي يقابله التفكير داخل الصندوق أي العلم المعتاد, وهو هنا النموذج التقليدي الدوغمائي السائد.
نتناول في هذا المبحث نصا أحمر من منشورات القرآن, تترامى فيه الأشلاء الممزقة على صدور الكلمات, وتترائ لعينك فيه أشباح المعذبين مصلوبة على ألواح المشانق, وتنطق فيه الحروف من أفواه الجروح, فتقرأ وياللعجب- أحكام الشريعة الغراء!! مدونة في صفائح السيوف, فتخلد في عقلك صورة رجال مقطعة أطرافهم، مبتورة مفاصلهم, منشورين على الصلبان في الطرق العامة والمجازات المغشية, في مشهد وحشي تقشعر له الابدان, ويحار لبشاعته الانسان. آية معجزة تنشر الرحمة بين الناس؟ أم آلة مزعجة تملأ الدنيا جيفا مبعثرة, وجثثا مثجّرة, وتلقي من وحي أحكامها, صورا لشر أعمالها وقبائح اوضاعها, وما هو الا العذاب الرفيع اذ يلحقه بعد في ضيافة الله العذاب المريع, بين اشجار الزقوم, طلعها كطلع الشياطين, وانهار من حميم لذة للشاربين.
يقول المنشور في الاية الثالثة والثلاثين من سورة المائدة :> هذه الاحكام ثقيلة على روح بادية السادية بالغة الوحشية, اختلف في سبب اصطناعها (نزولها) على مذاهب شتى, فذهب اكثر المفسرين وجملة الفقهاء الى انها في حق اللصوص وقطاع الطرق, ويحتجون برواية البخاري في صحيحه وفيها: أن قوما من عرينة - قدموا على محمد فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم محمد بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي واستاقوا النعم؛ فبلغ محمد خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم؛ فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون, وفي رواية مسلم انهم كانوا قد ارتدوا قبل ان يوقع بهم محمد هذا العذاب. وفي رواية: فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم, وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم!!. وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا. وفي البخاري ايضا قال جرير بن عبد الله في حديثه: فبعثني محمد في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى محمد. قال جرير: فكانوا يقولون الماء، ويقول محمد: (النار).
لكن ابا الزناد وهو من شيوخ الرواية وحافظ جامع لم يذكر انهم قتلوا الراعي واشار فقط الى انهم سرقوا لقاح محمد قال : إن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله في ذلك؛ فأنزل الله في ذلك "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا" الآية. أخرجه أبو داود. قال أبو الزناد: فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد!! قلت: اذا لم يكن ما في الاية من اشد انواع التمثيل فما المثلة اذا؟
وهذا الذي قاله ابو الزناد ذهب اليه اكثر المفسرين عندما شرحوا الاحكام التي اشتمل عليها النص فقد اجمعوا على ان ذلك في اللصوصية وقطع الطريق والسرقة حتى وان بلغت عشرة دراهم ولم يشترطوا في الحرابة وجود قتل, وهذا مضمون النص فليس فيه تعليق الحرابة بقتل, ويقوي هذا القول (اي ان القوم العرنيين لم يصيبوا دما) ما رواه عبد الرزاق في مسنده عن أبي هريرة، قال:( قدم على محمد رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلاً، فأمرهم محمد إلى لقاحه، فشربوا منها حتى صحوا، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها، فطلبوا , فأتي بهم الى محمد فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال أبو هريرة ففيهم نزلت هذه الآية) فليس فيه انهم قتلوا الراعي . وذهب قوم منهم الليث بن سعد الى انها في طائفة من المرتدين الذين تركوا دين الاسلام سنة سة للهجرة.اه وهم هؤلاء العرنيين الذين ذكرناهم اعلاه, فمثل بهم محمد شر مثلة حتى يكونوا عبرة لمن يتجاسر بعدهم على ترك الاسلام. وكان أنس يقول: أحرقهم (اي محمد) بالنار بعد ما قتلهم كما ذكره ابن كثير.
وسواء كانت في اللصوص وقطاع الطرق او في المرتدين عن الاسلام او فيهما معا فان اللاهوتيين المسلمين اتفقوا على الاحكام والعقوبات بحق هؤلاء وهي على النحو التالي:
1- ان الحكم عام وان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الواقعة فهي عامة سارية في كل عصر كما قرره الالوسي في تفسير القران دون نزاع. ولابد ان اشير هنا الى ان معنى الحرب في الاية يعود الى اصله اللغوي بمعنى السلب وليس الحرب بالمعنى الشائع المتبادر. وهو ما اتفقوا عليه, فهذه الاحكام القاسية من قتل وصلب وتقطيع اطراف وما زاد عليه محمد من سمل الاعين وتركهم في الحر ينزفون دون حسم يستسقون ولا يسقون انما كان من اجل سلبهم لقاحه واخذهم نعاجه, كما نقلناه ايضا عن ابي الزناد, وابي هريرة عند عبد الرزاق. ولا يزال المسلمون من الولاة وخلفاء الاسلام يتخذون مما اقدم عليه محمد من فظاعات والحقه بالمخالفين من مهلكات اسوة في قمع الثائرين وسنة لابادة المستضعفين وقد عبر انس بن مالك بكلام نادرا ما تجده في كتب القدماء عن ندمه بالتحديث بما فعله محمد بالعرنيين للحجاج ولنستمع اليه وهو يقول فيما رواه عنه ابن مرداويه: قال: ما ندمت على حديث، ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج، قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم . قال: قلت قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قوم من عرينة من البحرين، فشكوا إلى رسول الله ما لقوا من بطونهم، وقد اصفرت ألوانهم، وضمرت بطونهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم، عمدوا إلى الراعي فقتلوه، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. وكان إذا صعد المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لحال ذود من الإبل، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس. قلت: يحتج بذلك على جرائمه ومخازيه في اهل العراق التي كانت نسخا مكررة لما فعله سلفه الصالح محمد بوفد العرنيين وغيرهم وسيرته في المناوئين لحكمه وسلطانه المكذبين لنبوئته وقرانه بادية للمطالع طافحة بالفظائع.
اما العقوبات التي اشتملت عليها الاية فهي جاءت باداة او للتخيير ولذلك قالوا بان الامام اي الحاكم مخير بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى. وهي كالتالي:
2- التقتيل في قوله: (ان يقتلوا), اي حدا من غير صلب.
3- او الصلب في قوله (او يصلبوا). قال الالوسي في تفسيره وغيره : ((بصيغة التفعيل... لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل وقيل: صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياءاً وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثاً بعد القتل!!. وقيل: حتى يسييل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجراً للغير عن الاقدام على مثل هذه المعصية!!.)). وفي تفسير الكشاف للزمخشري قال: قال أبو حنيفة : يصلب حياً، ويطعن حتى يموت.
4- تقطيع الايدي والارجل في قوله : ( اوتقطع ايديهم وارجلهم من خلاف) أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى قال الالوسي في تفسيره: وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي.
5- النفي في قوله: ( او ينفوا من الارض) وذكر الزمخشري انهم كانوا ينفونهم الى مكان يقال له دهلك في اقصى تهامة وهي ارض قاحلة ومفازة ماحلة, يقضي المرء فيها سغبا و جوعا, ويخترم عطشا وكوعا.
وكيفما دار الامر فان هذه القراءة الكلاسيكية التي اعتمدنا فيها على المعطيات الخارجية للنص القراني, ومن خلال الروايات والاحاديث والتراث التفسيري, فاننا نشكل من خلالها تصورا عاما لما قام به محمد في حق العرنيين واسبابه الواقعية, بعيدا عن الممارسة التبجيلية التي طبعت علاقة اللاهوتيين المسلمين في تعاطيهم مع الافعال والممارسات المحمدية, فنقول في تحقيق المقام: اننا نعتقد ان خلافا مسكوتا عنه كان قد نشب بين محمد ووفد عرينة, نعرف مؤداه ونتائجه, لكننا لا نعلم على سبيل اليقين والتحقق حيثياته واسبابه ومقدماته, وانهم اتوا الى المدينة ولم يكونوا مسلمين وان محمدا عرض عليهم الاسلام وربما اراد ان يثبت لهم صحة ادعائه فامرهم ان يشربوا من ابوال الابل والبانها ليستشفوا به من امراضهم, وان فترة مقامهم في المدينة وما امتحنوه اثناء ذلك من نبوة محمد المزعومة, دفعهم الى مراجعة قرارهم وانكار نبوته, وبالتالي ارتدادهم عن الاسلام, وكان هذا هو السبب الذي دعاه الى سمل اعينهم وتقطيع اطرافهم وتحريقهم بعد ان قضوا جوعا وعطشا يستسقون فلا يسقون. اما مسالة سرقتهم الابل وقتلهم الراعي فمما نستبعده, اذ انه بعيد عن التصديق ان يقوموا بقتل الراعي يسار وسرقة الاغنام, دون سبب قوي يدعوهم لهذا العمل, خاصة وانهم بعداء الدار عن موطنهم, وفي ارض قوم محيطين بهم لا يمكنهم الهرب او التخفي منهم.
والقراءة المجردة للاية من خلال دلالاتها اللغوية والمعنوية وموضعها المنسجم مع الخطاب القراني العام يقوي هذا الراي, فان المنطوقة القرانية تتحدث عن الحرب والحرابة وهي في اصلها اللغوي المعارضة والمخالفة وهي هنا مضافة ومحصورة في مخالفة الفكر اللاهوتي المحمدي ومعارضته ( يحاربون الله ورسوله) وهي تعني عدم الايمان والتكذيب, وعدم الالتزام بالاوامر والنواهي الاسلامية المفروضة, او هي بعبارة اعم: في الذين خرجوا عن المنظومة الفكرية ( تشريعية واجتماعية واخلاقية وسياسية) العامة التي كرستها الدعوة المحمدية في الجزيرة العربية, وبسطت سلطانها على القبائل العربية, ونلمح في قوله (ويسعون في الارض فسادا) تقوية لهذا التاويل ففيه ايضا فرض فوقي لمعاني الافساد في الارض والتي تتسع في الفكر الاسلامي من قرض الدرهم بالدينار(راجع تفسير ابن كثير) الى الممارسات الجنسية خارج الاطار الوحيد الذي اباحه الاسلام وهو الزواج بطقوسه المعلومة, وفروضه الموسومة.
فهو اذا حكم لاهوتي يدعي اولا امتلاك الحقيقة, من خلال تصنيف الصلاح والمصلحين: وهم انصار محمد المرسل اليه بالوحي. والفساد والمفسدين: وهم الذين حاربوا وخالفوا ما دعى اليه ذلك المرسل اليه. ويترتب عن هذا التموضع لكلا الفريقين النعيم ونجاة لاتباع محمد المرسل اليه, والخزي والعذاب بالنسبة للاعداء والمكذبين برسالته. وهذه هي الرؤية التي اسسها القران ورسخها على مدار العصور في جميع المجتمعات التي ضرب فيها الاسلام بجرانه, وبسط عليها من سلطانه.
اما اذا شئنا قراءة المنطوقة المحمدية من جهة تاويلها الصوتي الايقاعي والفونيمي والنظمي فاننا هنا نكتفي باشارة سريعة الى استحواذ صيغ التشديد عبر صيغة التفعيل التي تعطي معنى المبالغة والتشديد والتفعيل الزائد عن الاصل وذلك في قوله يص(لبوا) ويق(تلوا) تق(طع), اضافة الى الحمولة المعنوية في صحراء كلماته وعباراته التي تتظافر على صياغة صور مكررة للقتل والتعذيب, مؤلمة للنفس مؤذية للحس, عن طريق اختيار اشد المفردات ايلاما وابلغها وخزا لوجدان القارئ وطبعه الانساني الرقيق.
فاختار من المفردات ما يوحي بتعفن الميتات ونتن القاذورات:
- فالقتل والصلب يشير الى التقيح والصديد باعتبار حال المصلوب على الاخشاب المطروق بالمسامير, تاكله الشمس ويغدو طعمة لاشداق الجوارح والصقور.
- وتقطيع الاطراف من خلاف ينشئ هيئات مستهجنة واعاقات مستقبحة
- واستعمل الخزي في الدنيا اشارة الى الفضيحة التي تلزم هؤلاء المعذبين, ثم يطوى امرهم ويلقون الى العدم على هذه الحال, ولهم بعد في الاخرة العذاب الدائم المقيم والخلود المؤبد في الجحيم.
انها لاشك منطوقة مريعة تستدعي التامل وتسترعي امعان النظر وانعام الفكر, والا نمر على طبيعتها السادية بنظر سطحي تبجيلي بناء على الالفة والعادة.
على ان الممارسات الفعلية للسيرة المحمدية لا تخلوا من تناقضات على مستوى الخطاب وعلى مستوى السلوك, فهو ينهى عن (المثلة) كما روي في كتب الحديث من طرق عن جمع من الصحابة: انه نهى عن المثلة. لكنه يبيحها لنفسه كما وقع لوفد العرنيين وقوم من بجيلة, وهذا ليس منسوخا كما قد يتوهم البعض اذ ان حديث النهي عن المثلة متقدم على حادثة وفد عرينة.
هذا وجه في الكلام, ووجه اخر نذكره هنا: هو ان محمدا نفسه كان قاطع طريق وناهب قوافل حتى في الاشهر الحرم التي كانت العرب تحقن فيها الدماء وتؤمن فيها السابلة, ولا يغير بعضها على بعض, فقد ارسل قبل موقعة بدر بشهرين وفي اوائل شهر رجب وهو من الاشهر الحرم, عبد الله بن جحش وهو ابن عمته في سرية وكتب له كتاباً قبل أن يعلمه أين يسير فقال: أخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحداً من أصحابك على الذهاب معك, فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أنِ امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه: وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعاً وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله قد نهاني أن أستكره منكم أحداً فمضى معه القوم, ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم، وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقاً قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم من أصحاب الرسول وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئت قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة ـ مكة الحرام ـ فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على محمد) رواه البيهقي وغيره.
ونحن لانعلم على التحقيق مضمون الكتاب الذي كتبه محمد لابن عمته, لكننا نجزم انه قد تم التصرف فيه من الرواة, وانه كان فيه امر قاطع باباحة القتل في الشهر الحرام, فمجموع المعطيات الاولية والقرائن التي نستخلصها من ضم الروايات والوقائع تؤكد ذلك ومنها ان الامر لو كان مجرد طلب استطلاع واستكشاف لقوافل القرشيين لما قال ابن جحش لمرافقيه: من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي, فالعرب لم تكن تصيب الدماء في الاشهر الحرم باتفاق اهل التاريخ وعلماء الاجتماع, وكان ذلك حقيقة من عاداتهم المحمودة التي انتهكها محمد وهدمها بسلسلة من الغزوات والغير, كما ان تعميته لمضمون الكتاب وامره بان لا يفتح الا بعد مضيهم في الصحراء لمدة يومين, لا يمكن فك لغزه وحل رمزه الا اذا استحضرنا المكانة المعروفة والحرمة المحفوظة التي كانت للاشهر الحرم عند العرب, فلو انه ابان لهم عن وجهتهم وفحوى الخطاب وهم لا يزالون في المدينة لكان يتسبب في ثورة كبيرة تقلب الاوضاع التي كان يتمتع بها محمد في المدينة والسلطة الدينية التي كان يمارسها من خلال الوحي, والدليل على ذلك انه لما وقعت النازلة وانتشر خبر مقتل الرهط القرشيين واستحلال محمد القتل في الاشهر الحرم وخروجه عن عادة محمودة كانت من ارسخ العادات العربية, حصلت بلبلة في المدينة واستنكار عم المزاج العام لاهل المدينة, حتى انهم قدموا اليه وسالوه في ذلك لا على جهة الاستفهام وانما على جهة الانكار والاستهجان, وكانوا قلما يسالوه عن احكام القران على جهة الاعتراض والمناقشة, الا في مسائل معدودة حصرها المفسرون في ثلاثة عشر مسالة منها هذه, فلجا محمد الى معتصمه في مثل هذه الملمات, ومستمسكه في اضراب هاته النازلات, وخرج عليهم بالاية السابعة عشر بعد المائتين من سورة المائدة وسبكها على النحو التالي: (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرُۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِۗ وَڈ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَـٰعُواۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـٰۤئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلاخِرَةِۖ وَأُولَـٰۤئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ) وتذكر الروايات ان محمدا لما راى ما كان من استنكار واستهجان انكر على عبدالله بن جحش واصحابه القتل الذي اوقعوه بافراد القافلة, وزعم للناس انه لم يامرهم بذلك وتشير الروايات ان عبدالله ابن جحش واصحابه قد اسقط في يدهم وبهتوا لهذا الانكار وقال لهم فيه المسلمون قولا شديد ونحن نرى ذلك منهم اي دهشتهم وصدمتهم رد فعل طبيعي لان محمدا كان قد امرهم بذلك في كتابه فكيف يبيح نبي لنفسه الكذب والتملص وتلوين الوجه على هذا النحو, الامر الذي يذكرنا بفعل مماثل لمرشد الاخوان مع تنظيمه السري عقب قيام هذا الاخير بسلسلة اغتيالات برعاية البنا نفسه: ( ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين). على ان محمدا طيب خاطرهم واشترى سكوتهم بما عقب به الاية من الثناء عليهم و تبشيرهم برحمة الله فقال: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَٱلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَـٰهَدُوا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُولَـٰۤئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فهذا محمد غاياته تبرر وسائله, ومنشوره ناطق بما خفي عنا من الروع والقتل ما لا يحصيه الوصف ولا يحصله, ولا يحيط به القول ولا يفصله, فانما هي اشارات وعلامات من اي الجهات تستنزله, ونظرات في كتاب يستوفي العذاب ويطلب الدم ويستقطره, ولعمري لو كان البحر مدادا لما نكتبه ونسطره, لما بلغنا في وصف هذه المقبرة القرانية غير انها سجن يهلك في لحودها الانسان, وبلاء تتحلل في تراب كلماتها العقول و الابدان.
#علال_البسيط (هاشتاغ)