عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني
(Abdel Ghani Salameh)
الحوار المتمدن-العدد: 3493 - 2011 / 9 / 21 - 09:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الأسرة البطريركية كما يلخصها د. هشام شرابي في كتابه مقدمات في دراسة المجتمع العربي بأنها الأسرة التي تتكون فيها شخصية الفرد ضمن العائلة المسيطرة، والعائلة ما هي إلا صورة مكثفة ومصغرة للمجتمع، والمجتمع بصورته الراهنة عبارة عن امتداد لتاريخه وتراثه، وتعبيرا عن قيمه وثقافته، ومن البديهي أن المجتمع لا يمكن تغييره إلا بتغيير العائلة، والعائلة لا يمكن تغييرها إلا بتغيير المجتمع، فالاثنان مترابطان بشكل لا يقبل التفرقة، وتكون العائلة هنا استمرارا لقيم المجتمع وأعرافه، لأن الأبوان فيها يقومان بدورهما تجاه الأبناء بشكل غريزي، أي قبل أن يكون لديهم استعداد مسبق لإنشاء أسرة ووعي كاف لخطورة هذا الدورة، فيربيان أطفالهما بحسب ما يتذكران من اختبار طفولتهما، أو بحسب ما تنصح به الجدة، ومن هنا كان القضاء على عالم الطفولة وأحلامها هو الثمن الذي يدفعه كل جيل من المجتمع، من أجل أن تستمر فيه قيم الجيل السابق وعاداته.
ويعتبر د. شرابي أن مجتمعنا العربي يبدو من أكثر المجتمعات قسوة على الأطفال، ويفسر ذلك بكون أن المجتمع يفصل فصلا تاما بين عالم الصغار وعالم الكبار، ولا يعير أهمية لعالم الطفل الخاص به، وبالتالي لا يقر له بشخصية خاصة وعقلية خاصة، ومن هنا فإن علاقاته بالأطفال تتسم بالتعالي عليهم، وهذا يعود إلى أن علاقة الآباء بالأبناء في السابق كانت على هذا المنوال، وتجدر الإشارة هنا إلى أن العملية التربوية والتثقيف لا تتألفان فقط من التعليم المباشر، بل أيضا من الأشكال التي يتخذها سلوك الوالدين، وأعضاء العائلة الآخرين نحو أطفالهم ونحو بعضهم البعض، فشخصية الطفل تنمو وتتكون بفعل ما يلاحظه ويسمعه ويراه من جانب والديه أكثر بكثير مما يتعلمه منهما مباشرة.
أما "بو علي ياسين" في كتابه الثالوث المحرم فيعتبر أن نظام العائلة كنظام المجتمع في كل مؤسساته، نظام هرمي، يقوم على السلطة والعنف، ويحتل الأب فيه المركز الرئيسي والأول، ويحتل الطفل المركز الأدنى، ويستمد الأب – البطريرك – سلطاته من خلال قوته الجسدية وقوته الاقتصادية بحكم أنه هو المعيل، وقوته الاجتماعية التربوية معتبرا نفسه الأكثر دراية وخبرة في شؤون الحياة، وأخيرا قوة المجتمع والقانون اللذان يجيزان له تسلطه وتفرده بالأسرة.
تتميز تربية الطفل في العائلة السلطوية بالعنف والقهر المستمرين، والمجتمع يعتمد على الأسرة لتحقيق هدفه الأساسي والمتمثل في جعل الجيل الجديد صورة عن الجيل السابق متواصلا مع قيمه وثقافته وذلك بالاعتماد على النظام التربوي القائم على إخضاع الفرد وخنق تمرده.
فكما أن الطفل يشعر أن أباه يضطهده، فهو يشعر أيضا بأن أمه تسحق شخصيته، فالأم التي تبالغ في حرصها على ابنها وتمنعه من التصرف بمفرده، وتبقيه تحت المراقبة والحصار الدائمين، فإنها بذلك لن تتيح له سوى مجالا ضيقا لتحقيق استقلاله الذاتي، وستصادر حياته الخاصة، ومن نتائج هذا الإفراط في الخوف والحرص ومن جعل الطفل يتكل على أمه في كل شيء أنها ستعزز لديه شعوره بالعجز.
ويشير د. شرابي إلى علاقة الأب بطفله خاصة في سنينه الأولى، ويؤكد أن الأب الذي عادة ما يبقى على الهامش في سنين الطفل المبكرة، ولا يبدي اهتماما جديا به إلا بعد ما يكبر، فلا يخطر على باله إلا إذا أراد ملاعبتــه أو عرضه على الضيوف – كقطعة جميلة أو تحفة من تحف البيت – وهذا بدوره سيعلم الطفل كيف يرى صورته الذاتية وكيف يغذي احترامه لنفسه على أساس رأي الآخرين به، وهذا النظام التربوي الاجتماعي سيثني الطفل عن الثقة بآرائه الخاصة، وسيشجعه على قبول آراء الآخرين دون تردد أو تساؤل، وكل ذلك ينمي في نفسه الإذعان للسلطة، أي لأبيه أو الشيخ أو المعلم، وفيما بعد لكل من هو أقوى منه أو أعلى منـزلة، وعندما يكبر سيتعلم أن يكون متحفظا ولا يتخذ موقفا حاسما في أي موضوع، ومما يعمق من إحساسه هذا هو عادة التلقين الذي يلجأ لها الأبوان والمدرسة فيما بعد.
ويؤكد د. شرابي أن التلقين هو الشكل الأكثر تنظيما من أشكال فرض السلطة وتثبيتها، وأنها طريقة تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا يبقى مجالا للتساؤل والبحث والتجريب، فالتلقين من حيث أنه طريقة تسلطية في تعليم الأطفال ستجعل منهم مجرد متلقين مستمعين لا يتأثرون بمضمون ما يحفظون، فالطفل الذكي هنا والذي سينال إعجاب الآخرين ليس من يطرح الأسئلة الملائمة والمحيرة، بل هو من يعطي الإجابات الصحيحة – الملقنة – فالنتيجة الحتمية لهذا النمط من التربية هو إحساس الطفل بالنقص واهتزاز ثقته بنفسه وخوفه من مخالفة القيم السائدة أو اجتراح أفكار جديدة مما يؤدي في النهاية إلى تكريس صورة المجتمع المحافظ الذي يخاف من كل جديد.
وما أن يكبر الطفل حتى يكتشف النـزاع والتوتر الموجودين في صلب العائلة، وأشدها هو عداؤه تجاه والده، الذي هو مصدر السيطرة التي تحطمه وتجعل العائلة تعيش في جو من الطغيان، فهو سيقتنع بأن هذا الأب لم ينجبه من أجل ذاته بل من أجل الأب نفسه، وأن ولادته ليست إبداعا حرا بل محاولة لتمديد حياة الأب، ليكون سندا له في حياته، وضمانا لشيخوخته، أو من أجل إرضاء كبريائه حيث يثبت رجولته بكثرة أطفاله، وبالتالي فهو يحرم من حياته الخاصة ليتاح لأبيه أن يعيش من خلاله - فيعلمه ليباهي بتفوقه الآخرين، ويدفعه للعمل لمساعدته في مصروف البيت، ويزوجه رغما عنه ليفرح به، ويأمره بالإنجاب ليلاعب أطفاله وهكذا – مما يجعل حياة الابن مزيفة منذ البدء، وفي النهاية ما هو إلا استمرارا للعائلة والقبيلة، وفي الواقع فهذه الخاصية لا يتصف بها العربي وحده، بل نجدها في مختلف المجتمعات والعصور، ولكن العرب يذهبون بها إلى أبعد الحدود.
سلبية الفرد تجاه المجتمع
أنماط التربية السائدة في المجتمعات العربية والتي ينتج عنها ما أسماها د. شرابي "الأسرة البطريركية"، قد تؤدي إلى تماسك العائلة الشكلي، إلا أن من أهم نتائج هذا النمط التربوي أن الطفل ينمو وشعوره بأن مسؤليته الأساسية هي تجاه العائلة فقط، لا تجاه المجتمع بشكل عام، بمعنى أن هذا الأسلوب من التربية سيولد شروطا نفسية واقتصادية واجتماعية لا تبقي سوى مجالا صغيرا للشعور بالواجب تجاه المجتمع الأكبر الذي يتصوره الفرد كفكرة مجردة لا ينطبق عليها مفهوم المسؤولية بصورة طبيعية، وإذا اتفق وجود مطالب عائلية متناقضة مع مطالب المجتمع، فمن الأسهل على الفرد أن يعطي الأولوية للقيام بواجبه تجاه العائلة على حساب المجتمع.
وبالنسبة إلى الفرد المرتبط عائليا بهذا الشكل، لن يمثل المجتمع له سوى عالم الصراع والكفاح الذي ينتزع فيه الفرد لنفسه مكانا ليدعم كيانه، أي أن الفرد في المجتمع العربي ينخرط في الحياة الاجتماعية لتأمين مصالحه الخاصة وتأمين سلامته، ومن هنا ستصبح الفردية والأنانية في هذا المجتمع تتميز بطابع سلبي محض، فهي تهدف إلى مصلحة الفرد ولا تقيم للكيان الاجتماعي أي اعتبار، ومشاعر الآخرين ومصالحهم أمر ثانوي، لا يعيره اهتماما، إلا إذا ارتبطت بمصالحه ومشاعره.
وهنالك علاقة عكسية ما بين سلبية الفرد تجاه مجتمعه وبين قوة القانون في المجتمع، فمع أن معظم الدول العربية تتغنى بسيادة القانون، إلا أن الأمر لا يعدو عن كونه مجرد أغنية في فضاء الشعار والتمني، وقلما تجد لها تعبيرات موضوعية على أرض الواقع، فتلك الدول عادة ما تصدر قرارات كبرى هي في الغالب منطلقة من أرضيات غير ديموقراطية وتمثل مصالح الطبقة الحاكمة ولا يجد الناس في تلك القرارات صدى لهمومهم أو حلا لمشاكلهم، ومن المتوقع في ظرف كهذا أن يعزف الناس عن المشاركة في تنفيذ تلك القرارات لعدم شعورهم بأي جدوى من المشاركة، وتزداد القطيعة ما بين المواطنين وحكوماتهم وبالتالي القوانين التي تمثلها، فلا يعود بالإمكان التمييز بين ما هو قانوني وفي خدمة الصالح العام، وبين ما هو آني ويعبر عن مصالح لفئات معينة، أو نتيجة وجود فساد ما في مؤسسات الحكم، ومع اتساه الهوة تزداد سلبية الناس وانكماشهم على ذواتهم ويصبح الشأن العام لا يعنيهم إلا بقدر ما يمس حياتهم اليومية، ويصبح القانون غير ملزم لهم إلا بمقدار ما يخدمهم، وفي هذا المناخ تسود أساليب التوريه والتمويه والالتفاف والتنصل من المسؤوليات والتهرب من المشاركة العامة، وتسود قيم الفردية والإنانية والسلبية.
إن الفردية هنا ستقود حتما الى عدم الإحساس بالمسؤولية، الى جانب عامل آخر لا يقل أهمية يتمثل في نمط التربية القائم على فرض السيطرة وإثبات التفوق، فالفرد في إطار العائلة والمدرسة يجد نفسه دوما في مواجهة من يكبرونه سنا، وبالتالي أرفع مقاما وأكثر قوة، بحيث يمارسون سلطتهم عليه فيشعر بأنه ضعيف وعاجز، وعليهم هم أن يتخذوا القرارات بالنيابة عنه.
إن الأكبر سنا والأكثر قوة ومالا وجاها يتمتعون بمكانة خاصة – لا فرق إذا كانوا يتحلون بمزايا معينة أم لا – فكونهم كذلك يعني أن معرفتهم أفضل وآراؤهم يجب أن تطاع بحيث أن الطاعة تتخذ شكل سلوك الاحترام التهذيب الشكلي والخنوع، أي سيادة قيمهم وثقافتهم التي ستفرض على الأطفال حتى بعد أن يكبروا ويصلوا سن الرشد، فيبقى تصرفهم كالأطفال في حضور آبائهم، وهكذا يتلق الشباب تربية تجعلهم متفرجين يوكلون شؤون العامة لمن يكبرهم سنا، فالشأن العام في نظرهم أمر نظري مجرد وهم يشعرون بالعجز عن التأثير فيه، ولهذا فمن الطبيعي عندهم أن يوكلوا الشؤون السياسية الى الكبار الذين يمارسونها فعليا.
إن هذا الموقف لا يظهر كرد فعل فحسب، بل أيضا بشكل عاطفة لا اجتماعية متصفة بسلبية عنيفة تدفع بالمجتمع الى العزوف عن المشاركة السياسية والمشاركة في السلطة أو التأثير عليها، وكأنها فعلا فوق الجميع وقدر لا فكاك منه.
#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)
Abdel_Ghani_Salameh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟