|
خاتم السوليتير
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3493 - 2011 / 9 / 21 - 08:31
المحور:
الادب والفن
1 خاتم " السوليتير" : قصة قصيرة قصة قصيرة من مجموعة : القرش والأسماك ، الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 القصة الثانية عشرة والأخيرة من المجموعة . عاد من السفر قبل الموعد بيوم . كان قد أنجز المهمة المطلوبة بمدة أقل ، أي قبل المهلة المحددة لإنجازها ،وفوق ذلك .. استطاع أن يشتري الهدية الثمينة ، التي وعد زوجته بها منذ عام تقريبا . خاتم" السوليتير" كان يبعث في نفسه الرضى والفخر والاعتزاز والثقة ، وكان وجهه ينطق بتعابير الفرح . أحس أنه سيطير من الفرح . تخيل زوجته وهي تبتسم ، تضحك ، تقهقه ، يفرقع صوتها كطلقات الرصاص ، تقفز وتدور حول نفسها فرحا جنونيا بتحقيق أمنيتها : " خاتم السوليتير" التي طالما حلمت به أمام الزوجات الطاووسيات أمثالها ، هاهي تحصل على مايعيد لها الاعتبار ، وتوكيد منزلتها ونديتها بعد انتظار دام عاما . انتزعه صوت صديقه من استرساله: " اصعد" . صعدا . كان صديقه يقود السيارة الخاصة بهدوء ، والابتسامة لاتفارق محياه ، حثه سعيد على الإسراع ، لكنه لم يستجب لطلبه . قال: " معك أربع وعشرون ساعة حتى تصل" . استغرب سعيد كلام صديقه ، وشعر لوهلة أنه بليد الذهن . تابع صديقه حامد موضحا: " غدا موعد وصولك ، لاأحد يتوقع قدومك في هذا الوقت" . - لم أفهم ماتقصد ! - يعني يمكننا أن ننعم بالحرية طيلة هذا الوقت ، بعيدا عن وجع الرأس ، ونكد الزوجات ورقابتهن . - ولكني ... - ولكنك تحب زوجتك ، إنها امرأة مختلفة .. ملاك .. إنها .. إنها .. تملك كل صفات الكمال والجمال ، و.. و.. الخ , أنا لم أقصد الإساءة ، فقط أريد أن نخرج من الرتابة المملة ، أن نعطي أنفسنا إجازة ، فرصة ، تغيير جو ، استجمام ، تجديد ، تجريب ... - كفى ياحامد ... كفى .. لقد فهمت .. - إذن أنت موافق . - بل متردد ، هل لديك برنامج محدد؟ - برنامج مذهل .. فاتن .. ساحر .. لن تنساه أبدا .. ومضت السيارة كالسلحفاة ، كانت تتهادى كراقصة ، على أنغام الموسيقى الكلاسيكية ، التي تنبعث من مسجلة السيارة ، وتتمازج بأسلوب رشيق ، بقلقه وعدم ارتياحه من الأجواء المجهولة التي يجره حامد إليها . قال حامد: - هل لديك علاقة أخرى؟ - لاحاجة بي لذلك - ستغير رأيك عندما تجرب - هل تعتقد ذلك؟ - أنا متأكد انعطفت السيارة الفارهة يسارا ، دخلت منطقة الفيللات الغربية ، المنتشرة على طريق " أوتوستراد " المزّة ، بدأ ذهن سعيد يتعكر لوهلة ، ثم بدأ يصفو تدريجيا ، كمرآة سحرية ، اختطفته المرآة إلى عوالم خيالية ، والسيارة تتهادى ،وتمضي في طريقها . أثقلت عليه التساؤلات والصمت والخوف والتردد . طلب من حامد أن يأخذه إلى منزله ، فضحك حامد وهو يسأل مستهجنا: هل أنت خائف ياعزيزي؟ وأردف: كأني بك فتاة بكر لم تدخل حياة بعد !؟ - أتهزأ مني؟ ! - الفيللا أصبحت قريبة 2 - حامد .. أنا لاأحب هذه الأجواء - يمكنك الانسحاب وقتما تشاء .. ثم أن عليك أن تشكرني ، لأنني سأعرفك على عائلة راقية ومثقفة ومنتحضرة - أتظن هذا؟ هل يعقل أن توجد هنا امرأة تفعلها؟ - أيها المتخلف ، نحن لسنا ذاهبين إلى ملهى ليلي ، بل نزور أصدقاء أعزاء محترمين ، ومتحررين من العقلية التقليدية التي تستبد بعقولنا وتحدد سمت سلوكنا . - إذن؟ وماذا بعد؟ - المسألة في غاية البساطة ، العائلة متحضرة ، يعني ليست محافظة ، وترفض الاستسلام الأعمى للواقع - كلامك يثيرني ، يستفزني - يا سعيد .. السيدة مطلقة ، ويحق لها أن .... - لا .. ليس من حقها أن .... - هي حرة ، مادامت لاتؤذي بتصرفها أحدا ، ومادامت حريتها لم تمس حرية الآخرين - كلام غريب ، لم أتعود سماعه من قبل - ستغير رأيك حين ستقابلها وتتحدث معها ، إنها تحب الحوار والنقاش ، إنها بارعة ، حاضرة الحجة - آرائي ثابته ، عقليتي متحجرة - وصلنا ... توقفت السيارة الفخمة إلى جوار الفيللا ، أطفأ حامد المحرك والأنوار ، أطلق سعيد العنان لعينيه لاستطلاع ماحوله ، كان الطابق الأرضي معتما ، إلا من أنوار ضئيلة خافتة ، أما الطابق الثاني ، فقد بدت الأنوار مشعشعة ، تتطاير من نوافذه المطلة على الشارع . ربت حامد على كتف سعيد الذي كان ينظر باتجاه نافذة لفيللا مواجهة للفيللا المقصودة ، التفت نحو حامد وقال: - لا أصدق ، غير معقول! - أتظنها من عجائب الدنيا؟ - حقا عجائب الدنيا لاحصر لها - لنؤجل الكلام ، هيا انزل نزلا من السيارة ، وفيما كان حامد يقفل الأبواب ، كان سعيد منساقا وراء إشارات استفهام لاتحصى ، تغويه ، وتثتثير فضوله . فقد صلته بالماضي ، ونسي كل شيء من عالمه التقليدي الرتيب ، وراح يتساءل بصوت مسموع : سيدة محترمة .. ثرية ومطلقة ، لماذا لاتتزوج وترتاح ؟ بدل أن توسخ سمعتها بعلاقات مشبوهة ؟ قطع حامد شروده بالتعليق: " كفاك شرودا .. اضبط أعصابك ، وكن طبيعيا " . دخلا معا ، سعيد يحمل في يده حقيبته" السمسونايت" ، صعدا الدرج وحامد يحذره: " إياك أن تحرجني ، نحن ضيوف عائلة ذات وزن " . وأجاب سعيد: - بشرط أن أنسحب إذا لم أرتح للسهرة - سعيد .. السيدة ليست.... - لاتكمل ، الماء يكذب الغطاس مد حامد يده ، وضع إصبعه على زر الجرس ، لحظات .. وفتح الباب : - تفضلا .. السيدة بانتظاركما همس حامد في إذن سعيد موضحا :" هذه هي الخادمة " ، وقعت لفظة" الخادمة" في رأس سعيد ، واستقرت كما تستقر بحصة في قاع بحيرة ، وعلى سطح الماء الساكن .. كونت دوائر متلاحقة ومتوسعة وموحية : " بانتظاركما" ، وفكر سعيد: " كل شيء مرتب مسبقا .. والسيدة ربما تعرفني وأعرفها ، لعله فخ ! خطة مسبقة ومدبرة ، سأجازف ، لن أخسر شيئا " . وجد نفسه وقد أصبح وحامد في وسط صالون فسيح وفخم الأثاث ، والسيدة تقف قبالتهما وجها لوجه ، وعلى محياها ابتسامة مجاملة وترحيب ، كانت ابتسامتها مثل برعم لم يكتمل تفتحه . بادرت: " أهلا وسهلا بكما .. تفضلا .." وكانت تشير لنا بالجلوس على الكنبة الوثيرة ، وجلسنا حيث أشارت ، وجلست في مواجهتنا . 3 كانت السيدة تشع أنوثة وجمالا وجاذبية ، عمرها كما يبدو ينوف على ربع قرن ، أناقتها فريدة ، وفي عنقها الشهي تضع قلادة من الماس ، والتقطت السيدة الذكية موجات الدهشة والفضول الجائع لدى سعيد ، ولاحظ حامد ارتباكه ، فتدخل قائلا: - أين هيفاء؟ . وأجابت السيدة : إنها في غرفتي تبدل ثيابها . التفت حامد نحو سعيد موضحا: هيفاء هي الأخت الأكبر للسيدة صباح - تشرفنا ، أجاب سعيد ، وظل مطرقا ، ويسترق النظر بخجل وتوجس إلى السيدة الجميلة صباح ، والتي فاجأته بالقول: " سعيد .. لم كل هذا الخجل والارتباك " خذ راحتك ، واعتبر نفسك في بيتك - عفوا سيدتي .. - نحن لسنا في معركة أو حرب ، وأنت لست مضطرا لشيء ، افعل مايريحك ، - ليس القصد ياسيدتي .. أنا آسف - لنتعامل ببساطة ووضوح بعيدا عن التصنع ، كفانا تقييدا في الخارج ، نحن هنا في مملكة حريتنا ، ولايستطيع أحد أن يراقبنا أو يحاسبنا ، يمكننا أن نفعل مانراه صحيحا ومفيدا ، من وجهة نظر قناعاتنا التي ليس من الضروري أن تروق لكل الناس ، أو للعامة منهم . كان كلامها يخترق عقلي ، ويربكه ، ويبعث الحركة في سكونه المتكلس . ولم أستطع المقاومة ، ولا الرد . دخلت الخادمة حاملة القهوة ، وبدأ الارتياح يتسرب إلى نفسية سعيد ممزوجا برائحة العطر الباريسي المنبعث من صباح ، التي كانت تعدل وضعية جلوسها بين الفينة والأخرى ، مايشي للملاحظ بأنها تتعمد إبراز مفاتن جسدها العلوية والسفلية . كان فستانها " السواريه" ( فستان السهرة) يتأجج بألوان صارخة مثيرة ، وكان الفستاه ضيقا لصيقا أشد الالتصاق بجسدها المكتنز ، حتى لتخاله يضاجعها ويعتصرها ، ولم يكن يستر نهديها تماما ، ولا فخذيها الممتلئين ، وكان الفستان قصيرا ، وذا شق من الأمام يكشف ماستره مع كل حركة أو جلسة ، ولهذا كانت تغير من وضعية جلوسها لتنفرج الشقة عن المناطق المحظورة شديدة البياض والنعومة ، كانت صباح معتلة القامة ، متناسقة الأعضاء والتقاطيع ، وجهها بشوش ، وحركاتها مدروسة ومقصودة ، تستهدف الإثارة والإغراء ، وإيقاظ الغرائز النائمة لدى الفريسة: " سعيد" الذي رشف قهوته بلذة ، مستعيدا جرأته وتوازنه ، وكان قد رمى وراء ظهره عالمه الآخر. وفيما كان سعيد مسترسلا في استكشاف العالم الجديد الممتع ، أحست صباح أنه صار أليفا ، طوع بنانها ، وقررت أن تبدأ التجربة بالتمهيدات المجربة ، بادرته قائلة: - حدثني صديقك حامد عنك ، ومن كثرة كلامه عنك أثار فضولي للتعرف على شخصيتك - حامد؟ حدثك عنيظ - على الطالعة والنازلة كان يذكرك ، ويعدني بأن يعرفني عليك ، كان يثني على أخلاقك وعملك ومركزك وكرمك ، إنه يحبك ويقدرك - شكرا لك ياسيدتي ، فعلا الآن تأكدت من أن حامد يحبني ويريد لي الخير وتدخل حامد موجها كلامه لصباح : سعيد يستحق صداقتك بجدارة ، جربيه ولن تندمي . وردت صباح عليه وهي تنقل النظر بينه وبين سعيد : لن أرفض نصيحتك ياحامد ، أنا أثق برأيك ، وسأحاول أن أجعل صديقك سعيد سعيدا بالفعل ، وأتمنى أن لا أفشل . ورد سعيد فورا عليها : لن تفشلي ..ولن أدعك تفشلي . سأساعدك بكل طاقتي ، واعتبر موقفك كرما منك ياسيدتي . دخلت هيفاء بطلعتها البهية ، ومشيتها الموسيقية ، ألقت التحية مترافقة بابتسامة من فمها وعينيها ، ثم صافحتهما بخجل مصطنع ، وأرادت إظهار خفة دمها ، فدارت حول نفسها دورة كاملة ، وهي تسألهما: مارأيكما ؟ وأبديا إعجابهما بها وبثيابها ، وتبادلوا مع صباح عبارات الممازحة ، وبدأ جليد الخجل يذوب تدريجيا ، وكانت هيفاء قد اتخذت مجلسها إلى جوار حامد ، حيث غرقت وإياه في الغزل متجاهلين وجود سعيد وصباح معهما . وأدرك سعيد بفطنته طبيعة العلاقة التي تربط مابين هيفاء وحامد ، وأحس بالوحدة والعزلة ، سيما وأنه يجهل مايجب عليه عمله في مثل هكذا مواقف ، لكن صباح الخبيرة بأمثاله من قليلي الخبرة ، مدت له يد المساعدة ، واستطاعت تشجيعه وفك عقدة لسانه بلسانها الذرب ، فبادرت وطلبت منه أن يجلس إلى جانبها ، فلم يتردد .كان كل شيء يشعره بسعادة خاصة ، تمحو ماعلق في ذهنه من شكوك وأحكام مسبقة حول السيدة وبيتها . قال في نفسه: هذا ليس بيتا سيئا كما ظننت ، وهذه السيدة ليست منهن كما توهمت ، وهي ليست مضطرة لشيء من هذا القبيل ، حقا "إن بعض الظن إثم" . طلبت صباح منه أن يحدثها عن نفسه وعمله وحياته الخاصة ، وسهلت عليه المهمة كصحفية مدربة تجري مقابلة مع شخص مرتبك ومشوش , وانهالت عليه بوابل من الأسئلة والاستفسارات ، حتى وجد نفسه ينطلق في حديثه كسيارة في طريق سهل ، ونسي نفسه ، ومضت السيارة بلا مكابح ، تحرر من خجله ورقابته الذاتية لنفسه ، ونسي السلطة الاجتماعية المعنوية المتجذرة في ضميره ، ولم يدر كيف أصبح كل شيء جاهزا .. مرتبا فوق الطاولة العامرة بأنواع الطعام والفاكهة والمشروبات ، وصباح ترفع كأسها نخبه ،وشرب سعيد ، وأكل سعيد ، واستمتع سعيد ، ولم ينس هو الآخر أن يحشر نفسه في الحياة الخاصة لصباح ، وطرح عليها أسئلته الرجالية الغبية ، ولم تتلكأ بالإجابات عليها بسهولة تؤكد أنها جاهزة ومعدة مسبقا ومحفوظة غيبا عن ظهر قلب ، لتقديمها ، لأن الأسئلة المطروحة متوقعة ومحفوظة هي الأخرى عن ظهر قلب ، ولأ ن سعيد مجرد رجل مستنسخ بكثرة في حياة القاعدة فيها هي الاستنساخ : استنساخ الأشخاص والسلوكيات . واستنتج سعيد من المقدمات الخاطئة نتائج خاطئة ، واعتبرها صحيحة وحقيقية ،ومنها أنه رأى أن صباح ذكية ومثقفة ، وأخبرته أنها تهوى الرياضة والسباحة والرحلات والسهر والتعارف والصداقات ، وأنها اجتماعية لاتحب العزلة ، وسردت له الكثير عن فلسفتها الأخلاقية ، ورفضها للحياة المعقدة ، وأعجب بها أيما إعجاب ، وخاصة بأسلوبها الجذاب بالكلام ، وقدرتها على الإقناع ، وجرأتها في مواجهة الحياة التقليدية المملة ، وتميزها بآرائها وسلوكها الفريد . وكان سعيد يشرب كأسه الرابعة من " الويسكي " الفاخرة اللذيذة بيد صباح الخبيرة ، ولم يعد يشعر بوجود صديقه حامد وهيفائه الهيفاء ، وأخذت النشوة منه مأخذا ، وأصبح طيعا كحصان مروض أليف ، استأذنته صباح لتبدل ثيابها ، وهي تمازحه وتغازله وتخدره بنظراتها المفترسة ، وغابت عبر الرواق الذي يفضي إلى غرف النوم ، وأحس سعيد بنفسه يذوب ، كأن كيانه رخو يتشكل حسب المكان والزمان .. واستسلم لحالته ، ولم يرغب أن يستجمع نفسه ، أو يلملم شكله الأصلي الذي تعود تلبسه ، كان مستسلما لرائحة العطر ، وطعم الويسكي ، وإيقاع الموسيقى الكلاسيكية الخاصة ، كان مستسلما لسطوة الإغراء ، ومفاتن الجسد الطاغية ، للأضواء التي أصبحت خافتة .. شاعرية .. تحريضية . التفت حوله ولم يجد أحدا ، لا حامد ولا هيفاءه الهيفاء ، ولا الخادمة ،أحس أنه يستطيع أن يفعل شيئا ، أن يبدأ الخطوة الأولى ، لقد اندمج بالجو الممتع ، بعيدا عن الرقيب ، بعيدا عن الحيطان التي يمكن أن يكون لها آذان وعيون وسائر الحواس التجسسية ، أحس أنه في جنته الخاصة التي لا يشاركه بها أحد ، لاإملاءات .. لاحسيب ولارقيب ، وانطلقت أعماقه وغرائزه تبرر الدوس على معتقداته الفجة المتحجرة ، وفكر: لأول مرة أستطيع أن أكون كما أشاء ، أنا حر .. حر تماما من القيود المؤلمة ، الآن أستطيع أن أتفكك ، وأتحول ، وأنفرط ، وأنقلب إلى كائن مختلف ، أن أختار شكلي ، وأحتكم لإرادتي ، وأتحرر من اختبائي وراء كل ذرة من كينونتي المادية والمعنوية ، إنني سعيد سعادة لم أعهدها قبلا ، لم أذق طعما كطعمها قبلا . رشف آخر ماتبقى من كأسه ، وفيما هو يضعه على الطاولة ، دخلت صباح : الأميرة صباح ، وكأنما هي قادمة من عالم " ألف ليلة وليلة " ، كل شيء فيه صار يصرخ وينطلق بلا أطر أو قوالب : " أنا شهريار ، أنا مللك الإنس والجن ، سلطان المشرق والمغرب ، وأركان الدنيا الأربعة ، لي تخضع الدنيا ، ومافيها من ناس ودواب " واقتربت منه شهرزاد وهي تبوح له بالحكاية : " كنت بانتظارك ياشهريار من أول الدهر ، ذبحتي الشوق إليك ، والغرام بك . ورد شهريار: " إلي ياشهرزادي الحبيبة ، هلمي ، وابدأي حكايتنا الأولى . وعلقت شهرزاد : قصدك ليلتنا الأولى الحمراء كشقائق النعمان ، التي تعشق الربيع الريان " . كان يلحن تعابيره ، يلقيها بطريقة مسرحية ، فيما كانت صباح تتألق كجوهرة ، تغرقه في وميض مفاتنها الأسطورية ، وضحكاتها الموسيقية الساحرة . كانت صباح قد ارتدت فستان نومها الشفيف ، المتقشف ، الحسير عن معظم مساحات جسدها المحظورة ، وكان ذلك دعوة صارخة لاترحم لالتهام التفاحة ، حتى ولو كانت العاقبة اللعنة من الجنة والخلود ، كانت تضاريس جسدها الطازجة أثمن من الماس وخواتم ال" سوليتير" ، وصناديق المجوهرات ، ورزم الأوراق النقدية ، كانت صباح شهرزادا لانظير لها ، وكانت ليلى ، وكليوباترا ، وجولييت ، وكانت .. وكانت ، وكان سعيد شهريارا ، وقيسا ، وعنترة ، وقيصر ، وروميو ، وكان وكان ... ، وكانت الخطيئة أقوى من الأوامر والتهديد باللعنة من الجنة ... رمى شهريار عقله بعيدا ، واندفع خلف نداءات القوى الطبيعية المكبوتة ، وفتحت له شهرزاد أبوابها ، حدثته عن أشواقها ورغباتها ، وأكدت له طهارتها ونقاءها ، ولم تنس أن تحدثه عن الحب بأشكاله وألوانه وأوزانه وأسعاره ، وانتقلت إلى الحديث عن التجارة والصفقات الرابحة وال" بورصات" والعملة السهلة والصعبة والذهب والماس والسيارات وفنادق ال" خمس نجوم " والمنتجعات ، والفيللات ، وتجارة الرقيق الأبيض ، والدعاية والإعلان ، والكرنفالات ، والمافيات ، والأيديولوجيات ،والصراعات ، والجمعيات الخيرية ، وتبييض الأموال ، وكان شهريار كحصان أليف يمضي حيث تقوده برسن أو بلا رسن ، وكان الحصان يمرغ رأسه بصدرها الحار الناعم ، بعنقها ، وكان الحصان يحمحم ، وأحيانا يصهل ، ويلوح بذيله الجميل لشهرزاده وفارسته المجربة , فراحت تطعمه وتسقيه وتسوسه ، وتحكم لجامه ، تجذبه وتصده بحنكة السائس الخبير بمهارة فائقة . وشعر سعيد أنه يستطيع أن يأخذ كل شيء ..كل شيء مما يشتهي ويحب ويعشق ، ولكن صباح ذكرته بقانون العرض والطلب ، وبأنه لايستطيع أن يحصل على شروى نقير مجانا وبلا مقابل ، وقالت له : أنت ابن سوق ، بلا معلمية . وتلكأ بالرد : - ولكن ... - بلا لكن بلا بطيخ .. أنا لست تكية ولا جمعية خيرية - والعواطف والأخلاق و.... - تلك سلع وبضائع مسعرة ، الحياة هكذا .. مصالح ومنافع متبادلة ، حتى الحب والجنس متبادل ، حكلي لحكلك ، هكذا الحياة ياحصاني الجميل الأصيل .. أخذ ورد ، دين وسداد ، عطاء مقابل عطاء - حسنا ياشهرزادي ، كلامك يعلو ولايعلى عليه ، لك كل شيء .. كل ماتطلبين ياشهرزادي ، لك مملكتي .. تاجي .. شعبي .. وشهريار كله - وشهريار؟ - نعم .. نعم ، أنا أيضا ملكك بشحمي ولحمي وعظمي وروحي ، بكل ماأملك - وماذا تملك الآن ياشيخ الكار؟ وهرع سعيد إلى حقيبة " السمسونايت" كرجل آلي مبرمج ، فتحها ، أخرج منها علبة مغلقة ملفوفة بالمخمل ، قدمها لها ، وتناولتها بشراهة وشغف ، فتحتها ، كانت العلبة ملفوفة بأناقة بالمخمل النبيذي اللون ، وعندما فتحت بدا اللون السكري للحرير الداخلي ، الذي يستلقي عليه خاتم ال" سوليتير" الماسي ، وسال لعاب شهرزاد لرؤيته ،وسال لعاب شهريار اشتهاء لجسد صباح الماسي ، مضيا إلى غرفة نوم وثيرة ، ونسيا أن يوصدا بابها ، وغرقا في طقوس الشهوة والمتعة والطعم اللذيذ الجديد ، الذي لم يذق سعيد مثله من قبل ، وأدرك أن للتفاح أنواعا وأصنافا تختلف عن نكهة تفاحته الخاصة ، كان سعيد يلتهمها بشراهة ، بينما كانت صباح تؤدي عملا روتينيا ، تنجز من خلاله صفقة رابحة بالنسبة لها . انتهى دمشق ، الإثنين ، 22/8/1994
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المؤامرة: قصة قصيرة
-
المرآة: قصة قصيرة
-
حادثة أبي طاهر التي لاتصدق
-
الخناس: شعر
-
المسافة: قصة قصيرة
-
رجل تحت الأنقاض
-
إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
-
كوني فأكون: شعر
-
سوسن وعيد الأم
-
القرش والأسماك
-
ابتسامات دعد
-
المفترسان
-
الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
-
موجة عابرة في سطح صقيل
-
ولكن غدا لم يأت
-
جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
-
الولادة: قصة قصيرة
-
ستعودين:قصيدة
-
المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
-
يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|