|
الشاعر بين حدي السطوع والسقوط
إبراهيم اليوسف
الحوار المتمدن-العدد: 3489 - 2011 / 9 / 17 - 10:05
المحور:
الادب والفن
1/1
بعيداً عن التعريفات الهائلة، التي تطلق على الشعر، منذ بداية تشكل الوعي النقدي به، وحتى آخر قصيدة تكتب، الآن، من قبل شاعرأصيل، استطاع الشعر أن يجعل نفسه “سيد الفنون” بحق، في كل زمان، ومكان، لاسيما وإنه ليعدّ ذروة الفن الأولى التي حققها الإنسان، عبر الزمن لدى كل الأقوام والشعوب، إذ لسنا نجد شعباً على وجه البسيطة، إلا وكان له شعراؤه العظام، الذين كانوا لسان حاله، يتغنون بآلامه، وآماله، بل ومنهم من يتنطع ليرسم له معالم دربه، كصاحب نبوءة .
أدوار الشاعر
ثمة أكثر من دور لعبه الشاعر، في حياة القصيدة الإنسانية، مدفوعاً بلحظة وعيه العالية، كوزير إعلام لقبيلته أو مجتمعه، أو كسيد، أو رجل دين، أو دنيا، أو فيلسوف، أو حكيم، ليكون - مهاب الجانب - باستمرار، يترقب قصيدته صغير القوم وكبيرهم، سيده ومسوده، فقيره وغنيه، ظالمه، ومظلومه، حيث لكل من هؤلاء ثمة غرض خاص به، في قصيدته، حباً، أو كراهية، فهو الرمز في محيطه الاجتماعي، وتظل مكانته أرفع وأسمى، حيث طالما تشوق من هو في علية القوم، لو أنه امتلك صفة الشاعر، لأنه صاحب المرتبة الأعلى على الدوام .
في محرقة القصيدة
ثمة ثنائية، واضحة، تبدو في علاقة رجل السلطة بالشاعر، فهو يدأب عبر عيونه وأدواته، على أن يقربه من بلاطه، ليجعله إحدى أدواته المهمة، في مواجهة خصومه، بل ليتقي شره، يقدم له الجاه، والمال، مادام أن الشاعر معروف بسلاطة لسانه، وقوة شكيمته، وتأثيره في الرأي العام، كما أنه في ما إذا تعذر عليه أن يوقع بالشاعر في أحابيل غوايته، يعمد إلى إسكات صوته، إلا أن الاستجابة لوعيد رجل السلطة، يختلف من شاعر إلى آخر، حيث ثمة من يتأثر به، فيقلم أصابع قصيدته، ويشذبها، فتغدو طائراً مهيض الجناح، ذليلاً، يتصرف، وفق مقاييس مملاة عليه، لا نسراً، جباراً، يرفرف عالياً، بيد أن هناك من لا يرعوي، البتة - في المقابل - يواصل رفع صوته، عالياً، يسمي الأشياء بمسياتها، حتى وإن كلفه ذلك رأسه، وما أكثر الأمثلة والمواقف في هذا الميدان، إذ ثمة كثيرون من الشعراء، دفعوا الضريبة، باهظة، وفقدوا حيواتهم، الغالية، رخيصة، على مذبح الموقف، وحرية الرأي، فلم يخضعوا أصداء أصواتهم، لمقص رقيب، حتى وإن طاول مثل ذلك المقص رقابهم . أجل، إن في تاريخ كل بلد أو شعب، ثمة أمثلة ساطعة، تبين أنه كان هناك شعراء مبدعون، واجهت “عيونهم المخرز” بشجاعة، وبسالة، وظلوا ممسكين بجمر الإبداع والموقف، متعالين على آلامهم، وأوجاعهم، وفاء لإحساسهم الصادق بسمو رسالتهم، وطهارة أرواحهم، العصية على الدنس والخنوع .
لقد كان الشاعر، موطن الرجاء، من قبل المظلومين، أينما كانوا، يلعب دور شبكة اتصالات اليوم، حيث لصوته دوي عال، تتردد أصداؤه في أربع جهات المكان، بل إنه يتجاوز الأزمنة والدهور، لتكون قصيدته - إن امتلكت هيولى جماليتها وجماهيريتها - محافظة على نبضها، وكأنها كتبت للتو، بل ما أكثر تلك القصائد التي صدحت بها أفواه مبدعيها، قبل مئات السنين، بيد أننا نحتكم إليها - الآن - لنجدها، محافظة على ألقها الإبداعي، ترتقي رؤيوياً وجمالياً إلى أطم اللحظة الحاضرة ذاتها، كسفارات أزلية للواقع .
هكذا، إذن، يصطلي الشاعرالفحل، صاحب الموقف، بألهبة قصيدته، منقاداً إلى شغف الضوء، قوس القزح، الذي يبدد الديجور، كما الفراشة التي لا يردعها مصيرها المنتظر، عن ممارسة رقصها في وشيجة من أتون وغبطة، بيد أن رماد روحه الذاوية، تأبى إلا أن تتجدد على نحوأسطوري، أزلي، وهو ما يرفع هذا الصنف من الشعراء إلى مراتب جد رفيعة، عالية، لدى أقوامهم، وشعوبهم، إذ لا خلود يبز خلودهم، مادام أن العالم كله، يعرف من هو نيرودا، أو لوركا، أو ناظم حكمت، أو آراغون، بيد أن لا أحد يعرف “من كان وزير الثقافة في عهد كل منهم” أو سواه، على حد أقوال الكثيرين من المنصفين .
تاج الشاعر
ليس في مكنة أحد، تعداد مناقب الشاعر، أو الإحاطة بأوصافه، وخصاله التي لا تنتهي، فهي أكثر من أن تدون بحبر، وأوسع من أن يحتضنها قرطاس، فولادة الشاعر مدعاة الاحتفال لدى أهله المنصفين، كروح نادرة، استثنائية لا تكرر، وسيرته، وقصائده، على كل لسان، فهو جليس علية القوم، إن شاء، وأنصف، وبيته عنوان عشاق صفوة الإبداع والفنون، يقصدونه، متباهين، بأنهم جالسوه، أوعاشروه، بل ثمة من قد يخلد من خلال إشارة هجاء من لدن الشاعر، حيث يهرول المولعون بالشعر، إلى مصاحبته، مادام أنه - في ما إذا كان شاعراً أصيلاً - ودوداً، حانياً، واسع القلب، ثاقب النظر، بعيد الرؤية، إنسانياً، لا يعرف الحقد إلا على الظالم، سامي الخلق، صادق الكلمة، يعد قضية كل مظلوم قضيته، الشخصيته، حتى ينال ذو الحق حقه، نصيراً للضعفاء، سنداً لهم، لا يهادن الظلام الجبابرة .
كل ما سلف، ليس إلا بعضاً من مناقب الشاعر، لايتلكا المرء في اكتشافها، في ما إذا أوتي بقليل من البصيرة، والإنصاف، وهذا ما يجعله ليكون من” ذوي المعادن النادرة”، ويتوجه كائناً عالي المقام، يتأبى عن السفاسف، وقشور الأشياء، أبياً، عفيفاً، كريم النفس، وهذا ما يفسر لم الأمم تفخر بشعرائها، كما هي تفخر بقادتها، والعلامات الفارقة من أوطانها، وكأن الشاعر - بهذا المعنى - ذروة عالية، أو نهراً هادراً، أَوَليسَ أبو الطيب المتنبي، وأبو تمام، والمعري، وأبو نواس، ومحمود درويش، هم جزء من ميراث الإنسان العربي، أينما كان، كما أن “ت س إليوت”، ويفتشنكو وأراغون، وحكمت، وحمزاتوف، وجكرخوين . . هم منارات وفنارات عند شعوبهم، بل إن كل هؤلاء الشعراء، عرباً وغير عرب، هم - في نهاية المطاف - شعراء عالميون، ينتمون إلى الفضاء الإنساني الأوسع، لأن العالمية - كما قال أحد هؤلاء وهو رسول حمزاتوف “تبدأ من عتبة منزل الشاعر نفسه”؟
الشاعر في “تقهقره” السفلي
إذا كان الشاعر الأصيل، لا يفتأ يترجم عبر إبداعه ومواقفه، شذرات روحه الكريمة، الأبية، ليكون غيرياً، لا يغرق في “أناه”، إلا في حدود إشعال شرارة قصيدته، إلا أن تأريخ الشعر العالمي، قد أكد أن ليس كل شاعر، يحمل القدرة على السير بخطا، ثابتة، حثيثة، في المسار الحقيق له، بل ما أكثر هؤلاء الشعراء الذين لا يحملون في دواخلهم الكثير من كهرباء الصيرورة والسيروة، في الاتجاه المطلوب، بل ثمة من ينحرف عن مساره، أمام أية غواية، أو إغراء، وثمة من يجالد إلى حين، بيد أنه يتوقف بعدئذ، في سقوط مجلجل، مدو، فلا تشبه روحه أرواح أبطال قصيدته الذين اختاروا الدرب المتعب، غيرآبهين بوعيد، أو بريق أعطية، يسيل لها اللعاب .
وأياً كان نوع ارتداد مثل هذا النمط من الشعراء، أو ارتكاسهم، وسقوطهم الذريع، فإنهم على موعد أكيد، مع الندم، الذي يترقبهم - ولو بعد حين - حيث سيلعقون مرارة الخذلان والخسارة، إن لم يكونوا أوفياء للرسالة التي طالمها حملها الشاعر الحق، جيلاً بعد جيل .
وقد يظهر، من بين مثل هذا النمط نفسه، من الشعراء، من سيحول هزيمته إلى بطولة، وهو يقلب الحقيقة، رأساً على عقب، كما دأب على تزويرها من قبل، وهو ينأى عن عالمه الداخلي، كي يعيش حالة، رسمها له سواه، لينشد ما لا يشعر به، وليكتم في أعماقه حقائق ناصعة، يحرم نفسه، من نعمة البوح بها، ليضيق دائرة محبيه، إلى ذلك الحد الذي يقع هو نفسه، خارجها، خاسراًذاته، حيث لا خسارة أفدح من مثل هذا السقوط الكبير .
أشباه الشاعر
وما دام أن عيارالشعر، هو الآخر، من معدن كريم، مشابه لمعدن روح الشاعر نفسه، فإن هناك من يتسلل في غياب هذا الكائن، الذي تكاد قامته توازي قامة صنوه الشاعر، في ما أفلح، وهو يضويء عوالم القصيدة، تجس مبضعه جسد القصيدة، وتفاصيلها، سرباً سرباً، من طيور، وحديقة حديقة، من ورود، ورياحين، وأشجار، ومحيطاً محيطاً، من عمران، وسماء سماء من صور، وهطل، وأنسام، وكواكب، كي يشكل كل ذلك مناخاته، وتضاريسه، يستقرئ ماسها، ونبضها، وضوعها الفواح، وفاكهتها، وأطيابها، بيد أن من شأن المتسلل، أن يرتدي ثوب هذا أو ذاك، بعدما يتحول إلى سفاح يجهز عليه، ويقدم نفسه في صورتيهما، وإن كان يدرك في قرارته، أنه المزيف، لاعباً دور غيره، كي يكون شويعراً مستعاراً، أو نويقداً مستعاراً، لا يفوت اكتشافه على المتلقي النبيه، مهما تطاوس، وهو يحاكي نبرة صوت هذا أو ذاك .
-القصيدة
تلك هي القصيدة، الضالة، المتوخاة، أبداً، في حمحماتها وصهيلها وهمسها وشدوها وأنينها، وحرها وقرها، على بعد مغامرة، فحسب، تهرول الروح، عارية، صوبها، لا تبالي بحدود من “الشفرات” التي تأكلها، وهي تتلون بخضاب دمها، كي تتجاوز كل عقبة، وتصل الضفة المنشودة، تشبه روح صاحبها، صورة وطن، يرفع أعمدته الشعراء، ومن تقمص أرواحهم -نفسها - في ميادين أخرى، سواء أعزف أحدهم على أوتار آلته الموسيقية، أو رسم صورة الوطن عينه في لوحة، أو أغنية .
القصيدة، في غلالتها البهية، لا تفتأ تلوح للشاعر، أنى كان، كي تشعل في روحه القلق بياناً، وإيقاعاً، وأخيلة، ومفردات، سرعان ما ينفث في كل ذلك من روحه، كي يصنع الحياة الموازية، في عمارة نص، شاهق، لا يفلت خيوط وهجه .
ثمة قصيدة واحدة، يأتي الشاعر، الحذق، النبيه، في كل زمان ومكان، يكوي روحه بقبسها الفياض، كي يرتفع كل منهما بالآخر، يدل عليه، في ذبذبة صوته، أو أنين الحرائق وهي تضرم خافقه، بأصابع أنثى أو شجرة أو مكان .
ثمة قصيدة واحدة، أجل، روح واحدة، يتوزعها الشعراء أنى كانوا، وهم يشبهون قصائدهم، الكاوية، للروح أو الجرح، القصائد التي تختصر العالم كله في مفردات لا قيمة لها، البتة، من دون ذلك النسغ الذي تستمدها، ضمن جملتها من وريد الشاعر، مستوفزاً في الدرجة القصوى، وهو منكب على قصيدته، في شكل بيت، أو جبل، أو بحر، أوفلك، أورياح، وأعاصير، وأنثى منتظرة في حبر القصيدة، سرمدياً، بلا انطفاء .
#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خاصية التجاوز الإبداعي
-
ثقافة ما بعد11 سبتمبر
-
جوهر رسالة الإبداع في ضوء الثورات الشعبية
-
عادل اليزيدي في ذكرى غيابه : يسمع وقع أقدام شباب الثورة
-
كتابة اللحظة الحاسمة
-
علي فرزات يهز عرش الاستبداد
-
هنا دمشق-2-
-
كيف يُكتب الشعر؟
-
بين جمعتين: جامعة وجامع ودماء-6-
-
هنا دمشق-1-
-
متعدِّدو المواهب
-
اصطياد القصيدة
-
مثقفون وناشطون سوريون يهنئون ثوار ليبيا البطلة بإسقاط نظام ا
...
-
المواهب الجديدة بين الرعاية والإقصاء
-
خطاب السقوط
-
الإصدار الإبداعي الأول والولادة الطبيعية
-
كتاب تركوا أثرهم وانقطعوا عن الكتابة
-
اللاذقية
-
إمبراطورية الحفيد الأكبر
-
من يكسر شرنقة الصمت؟
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|