|
كم شكتنا تلك الابرة
عبله عبدالرحمن
كاتبة
(Abla Abed Alrahman)
الحوار المتمدن-العدد: 3480 - 2011 / 9 / 8 - 17:52
المحور:
الادب والفن
ورشة في البيت تكاد أصواتها تتعالى لتصل الشارع، وصراخ أطفال، يدخلون لأول مرة المدرسة ودموع أمهات لا يستطعن تصور أن ذلك الشقي الصغير الذي ما زال يكنس البيت بملابسه قد كبر، التحضير لسنة دراسية لا يشبهه إلا التحضير للعيد. عندما يأذن الوقت بعام دراسي جديد أتخيل أن اغلبنا ومهما بلغ من العمر يحن لتلك المرحلة، ويكر معه شريط الذكريات لشقاوات كان للشيطان سبيل فيها، وللضحكات المتعالية النقية، ربما جميعنا يستذكر أول صف من كل مرحلة جديدة حين يدخل بها، ذات صيف قال لنا استأذنا بالجامعة، ونحن ندرس مساق بالتاريخ: علينا أن نحفظ أول ملك أو زعيم بمتوالية من تعاقب على كرسي الحكم لان التاريخ لا يذكر سوى بداية المرحلة ونهايتها لمعرفة إلى أين وصلت الفتوحات أو الانتكاسات وكيف كان حالها حين بدأت.دخلت الصف الأول بمريول من صناعة أمي وكم من المرات لبسته قبل أن يجهز، معلوم أن الخياطة تمر بمراحل، القياس الأول يكون والدبابيس تملئ القماش، تخيل كم الغنج والدلال كلما شكنا دبوس، وما زلت اذكر أمي وهي تعدل وقفتي من اجل أن يستقيم الطول والكتف على الكتف، المرحلة الثانية الاستعاضة عن الدبابيس بالخياطة اليدوية باستخدام إبرة الخياطة، وأخيرا وبعد مداولات وأراء من أطراف في البيت مابين تسلم يدك ومابين يحتاج لتعديل مرات كثيرة من اللبس والخلع. يخطرني في هذا المقام أكثر من زينة الصف أو حتى شكل المعلمة التي تريد التدريس لنا، في الصف الأول، بأن حاسة الشم كانت قوية لدي، أكثر من حاسة النظر، فلا أتذكر إلا رائحة الحقائب المدرسية الجلدية وهي تملأ المكان، مع أن الصيني لم يكن قد بلغ ذروته كما هو الحال الآن، وكيف كانت مفاتيح الحقائب بأيدينا ولا تغادرها وكأننا نحتكم على خزن وليس على حقائب تكاد تلق بما فيها من سندوتشات الزعتر، الآن أتساءل ماذا لو أن كل الحقائب كانت تفتح بمفتاح واحد، أحيانا يفوتنا أن نذكر كم من الأشياء لا نحتاجها لكنها لا تفارق أيدينا وعقولنا. قلبي وقلوبنا جميعا مع الأمهات اللواتي يفارقن أولادهن إلى المدرسة للمرة الأولى، وقلبي مع الأطفال الذين يغادرون أحضان أمهاتهن إلى رحلة الحياة بما فيها من خير وشر، والى رحلة الحفظ عن ظهر قلب لكتاب الدرس واستظهاره كما هو في ورقة الامتحان، ورحلة التدجين وإمكانية التأقلم مع الواقع، وقلبي مع طلاب الثانوية العامة، المرحلة الفاصلة بين المدرسة والجامعة مع ما تحمله من عبئ وحس مفاجئ بالمسؤولية، والالتفات المباشر لهم من غير سابق إنذار كما كان مع السنوات الدراسية السابقة من جانب الأهل وكأن هذا الابن خرج فجأة من عنق الحياة، ليجد كلمة سيحفظها هو ومن مرّ من قبله بهذه المرحلة، درست أو ادرس، كان الله في عون من يمر بهذه المرحلة. وشريط الذكريات يكر بي، استذكر محطة مهمة في حياتي إبان كنت بسن المراهقة، وكيف خطت أناملي الصغيرة وهي بالكاد تتهجى حروف الإحساس بالأنثى التي سكنت طفولتي الخجولة، بعض من مشاعر الغربة التي جسدتها بغربتي عن إنسان لا أراه، وحتى أنني لا اعرفه، وكيف تفوهت بكلمات ربما لا أجرؤ الآن أن أقول بعضا منها، وكيف أنني تجاوزت كل الخطوط الحمراء وأرسلت بها إلى جريدة يومية وباسمي، وكيف مرت بي أيام القلق وأنا في رعب من أن تنشر الصحيفة ما كتبت، وأخذت أتخيل نظرات الاستهجان ممن يعرفني وممن لا يعرفني، وأخذت أتخيل صراخهم وهم يتكالبون علي بفرضهم العقاب الذي استحق، وقد فاتني وقتها أن الجريدة ممكن أن تمضي بما فيها من أحداث مهمة وغير مهمة، دون أن تثير بالنفس شيء يذكر، وكم أسعدني حينما جاءني ما انتظرته خوفا، ردا جميلا على ما قلته وليس ما قلته، وكيف أخذت اختال بالرد بعد أن فهم من هم حولي بأنني تحدثت عن غربة الوطن وليس عن غربة الحبيب، فهل كان الحبيب وطنا ربما. هلا استذكرنا معا سنوات الدراسة بخيرها وشرها، وهلا عبرنا إلى منابع الطفولة ببراءتها ونقائها، إنها دعوة لإنسانيتنا التي تآكلت بفعل عوامل كثيرة. دعوة لنغني معا يا مدارس يا مدارس ياما آكلنا ملبس خالص.
#عبله_عبدالرحمن (هاشتاغ)
Abla_Abed_Alrahman#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|