|
الشخصية المنشطرة وتعزيز الأمكنة الافتراضية
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3479 - 2011 / 9 / 7 - 11:40
المحور:
الادب والفن
قراءة نقدية في رواية "حيث لا تسقط الأمطار" لأمجد ناصر
لم يقْدِم الشاعر الأردني أمجد ناصر على كتابة نصه الروائي الأول "حيث لا تسقط الأمطار" من دون تمهيد، فلقد سبق له أن تبنّى قصيدة النثر، كما أعلن عن شغفه بالتقنيات والأنماط السردية في مجموعته الشعرية المعنونة "الحياة كسرد متقطِّع"، ثم انغمس بعدها في كتابة "أدب الأمكنة والرحلات" حيث أنجز نصوصاً إشكالية أثارت جدلاً واسعاً لم تنتهِ تداعياته حتى الآن. وحينما سُئل في حوار متلفز عن سبب إِقدامه على خوض مغامرة كتابة النص الروائي أجاب: "أنه نوع من توسيع إطار التعبير" فالقصيدة الحديثة التي يكتبها مكثّفة ومركّزة ومختزلة ولا تستطيع أن تضمّ الكثير من التفاصيل كما كانت تفعل القصيدة الملحمية التي يمكن لها أن تحتوي العديد من الشخصيات والموضوعات والشرائح الاجتماعية الواسعة. وعلى الرغم من أن رواية أمجد ناصر لا تشتمل على شبكة معقدة من الشخصيات إلا أنها تنطوي على ثيمة شديدة الحساسيّة، كما أنها تناقش بين طياتها العديد من الموضوعات والأفكار المهمة التي تراجع تجربة جيل كامل يمكن أن نطلق عليه تسمية جيل اليسار العربي الذي كان يطمح لتغيير العالم العربي في الأقل، إن لم نقل العالم برمته! يا تُرى، أية رواية تستطيع أن تستوعب هذا الزخم الكبير من الثيمات الشائكة التي تحاول أن تفحص تجربة هذا الجيل اليساري بعين نقدية محايدة تضع الأمور في نصابها الصحيح. ليست رواية "حيث لا تسقط الأمطار" نصاً تقليدياً عابراً، وجِدَّته تكمن في عدة أشياء سنأتي عليها تباعاً في هذه الدراسة النقدية التحليلية التي ستركِّز كثيراً على الشخصية وقرينها أو الإنسان وظله، وتتناول، كلما دعت الضرورة إلى ذلك، بقية الشخصيات المؤازرة التي بنَت السياق الروائي سلباً أو ايجاباً وأوصلته إلى النهاية التعبيرية التي تنطوي على إشارات رمزية عميقة قد نتفق أو نختلف في تأويلها بحسب المحمولات الفكرية والثقافية التي نتسلّح بها كُلاً على انفراد. لا تعتمد هذه الرواية على زمن خطي مستقيم، وإنما تبدأ من حيث انتهت الأحداث، فحينما تعود الشخصية الرئيسة المنفية أو المُقتلعة من جذورها أو التي أُجبِرت على الرحيل من الوطن الأم "الحامية" التي تشكِّل المعادل الموضوعي لـ "عمّان" أو "الأردن" أو أي بلد عربي آخر، تبدأ الأحداث وتتشكّل مساراتها الإسترجاعية التي تأخذ طابعاً استجوابياً لم نألفه كثيراً في الرواية العربية، ذلك لأن الروائي أمجد ناصر اعتمد في بناء شخصيته الرئيسة على ضمير المخاطب، وليس على ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، وهو يُدرِك جيداً أن تقنية هذا الضمير صعبة وعويصة وربما تأخذ الروائي إلى ما لا تُحمد عقباه. وعلى الرغم من الصعوبة المُشار إليها سلفاً إلا أن هذا الضمير يتوفر على مواصفات أخرى مُغرية من بينها الإطلال على الشخصية الرئيسة التي انشطرت إلى نصفين أو شخصيتين بحيث حملَ الأول اسم "يونس الخطّاط" الذي ظل مُرابِطاً في "الحامية" و "أدهم جابر" الذي فرَّ من "الحامية" واستقر به المطاف في "المدينة الرمادية والحمراء" بعد أن عاش ردحاً من الزمن في "مدينة الحصار والحرب" بيروت، و "جزيرة الشمس" قبرص. يتمتع ضمير المخاطب بقدرة استنطاقية فائقة فهو يسائل الشخصية الرئيسة، ويختبر نواياها، ويقاصصها على ما فعلت وكأننا نتابع مَحضَر تحقيق بوليسي يحاول أن يتوصل إلى كل الحقائق والمعطيات التي كان يتوفر عليها هذا الجيل اليساري الذي كان، وربما لا يزال غارقاً في أحلامه الوردية. أما الميزة الأخرى شبه الجديدة التي تتوفر عليها هذه الرواية فهي تعويم المكان أو محاولة لخلق مكان افتراضي جديد حيث تصبح عمّان "الحامية" وبيروت " مدينة الحصار والحرب" والعراق "بلد النخيل والنفط" و قبرص "جزيرة الشمس" ولندن "المدينة الرمادية والحمراء" وما إلى ذلك من أمكنة افتراضية توسِّع الأبعاد الدلالية التي تتجاوز الخانق القطري الضيق لتشمل الشرق الأوسط أو العالم العربي برمته طالما أنه يتعرض لاختراقات مماثلة تسمح بهذه المقاربة على الرغم من خصوصية كل بلد عربي على حدة. لم يدّعِ ناصر أنه يمتلك قصب السبق في خلقه للمكان الافتراضي فقد سبقه في ذلك عبد الرحمن منيف الذي كتب العديد من الروايات ذات الأمكنة الافتراضية لكن القارئ العربي تحديداً يفهم الإشارات غير الخفية لشرق المتوسط أو مدن الملح أو شرق المتوسط ثانية ويعرف مواقعها الجغرافية بالتحديد، وهذا الأمر ينطبق على أمجد فكل المدن أو البلدان التي أشار إليها بأسماء وتوصيفات مختلفة سرعان ما يعرفها المتلقي العربي من القراءة الأولى. أراد أمجد ناصر أن يكتب رواية بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معنى فهو لا يريد أن يقع في فخ السيرة الذاتية، ولا أن يكتب حكاية أو أحدوثة لأن لهذا النمط الأدبي اشتراطاته الفنية المعروفة، ولا أن ينجز رواية شعريّة تهيمن عليها نبرة الشعر على نبرة السرد الروائي. لقد اتخذ ناصر كل الاحتياطات سلفاً لكي يتفادى الأفخاخ المنصوبة في طريقه المحفوفة ببعض المحاذير والمخاطر الواضحة، ومع ذلك فإن بعض النقاد الذين تناولوا هذه الرواية بالنقد والتحليل رأوا فيها سيرة ذاتية أو سيرة ذاتية مموهة في الأقل، ولكنني أستبعد حقيقةً دقة هذه القراءة النقدية على الرغم من وجود العديد أوجه التشابه والمقارنات الممكنة بين خالق النص الروائي والشخصية الرئيسة التي انشطرت في الرواية إلى شخصيتين هما الإنسان وقرينه أو الصورة وظلها، وغالبية القرّاء الذين يتابعون التجربة الإبداعية لأمجد ناصر يعرفون أن اسمه الحقيقي هو "يحيى"، وأنه شاعر كتب قصيدة التفعيلة ثم استقر به المطاف عند قصيدة النثر التي كيّفها لمناخات وأساليب سردية غير مألوفة سابقاً. كما أن خط الرحلة التي اتخذتها الشخصية الرئيسة من عمّان إلى لندن تكاد تشبه رحلة ناصر أيضاً الذي انطلق من عمّان إلى بيروت، مروراً باليمن الجنوبي وقبرص قبل أن يصل إلى العاصمة البريطانية لندن. ومع كل هذه المقاربات الممكنة إلا أن الكائن السردي في الرواية يختلف كثيراً عن ناصر ويؤسس لمرجعية روائية تنأى بالضرورة عن المرجعية الحقيقية لكاتب النص ومبدعه. لم يضع ناصر في حسابه أن يكتب حكاية أو أحدوثة لأن طموحه الإبداعي في الأقل أكبر من كتابة حكاية وعظية تفتقر إلى التصعيد الدرامي أو مساءلة مقطع عرضي من تاريخنا المعاصر بما انطوى عليه من أحداث ومتغيرات جذرية صادمة، كما أنه لا يميل إلى كتابة أحدوثة يمكن أن يوجزها الكاتب ببضعة جمل مقتضبة تمر مرور الكرام. إن ما يريده ناصر هو الولوج في غابة السؤال الفكري والفلسفي بواسطة هذه الشخصية الإشكالية الرئيسة التي انشطرت إلى نصفين بحيث تشبث النصف الأول بالحامية، مسقط رأسه ومنبت أحلامه، بينما تهيأ النصف الثاني لخوض مجازفات خطيرة تبدأ بمحاولة اغتيال الحفيد وتنتهي بزيارة قبر أمه وهو يسعل بقوة ويبصق دماً في إشارة واضحة إلى أن روحه ستفارق جسده في القريب العاجل.
الشخصية الرئيسة وقرينها بحسب المرجعية الإسلامية ما مِن إنسان يولد على وجه البسيطة "من دون قرين من الجن وقرينة من الملائكة"، والقرين هو شيطان قوي وشرس يولد مع الإنسان ويظل مُلازماً له مثل ظله، ومن أبرز صفاته "مخالفة الإنسان في كل شيء ومحاولة استمالته للشرك والفسوق وارتكاب المعاصي" إذن، أن الإنسان أو الشخصية الرئيسة في هذه الرواية هو "يونس الخطّاط" الذي وصفه ناصر بـ "الخافق الحرون"، أما القرين فهو "أدهم جابر"، الرأس المكلّل بالشيب، والقامة التي لم تعد منتصبة على غرار أهل الحامية، والذهن المتمرد الذي تسكنه هواجس ووساوس شتّى لعل أبرزها اغتيال "الحفيد"، المعادل الموضوعي لأي زعيم عربي، والاطاحة بآلية النظام القديم الذي لم يعد يستجيب لطموح الجماهير وتطلعاتهم نحو حكومة ديمقراطية ليبرالية متحررة تلغي وإلى الأبد صيغ الحكم القديمة المُتوارثة. هذا القرين قد لا يكون الشيطان بمعناه الفعلي الذي ترسّخ في الذاكرة الجمعية للناس، وإنما هو الوعي الحاد الذي يوسوِّس للشخصية الرئيسة ويحرِّضها على التمرّد والثورة، تماماً كما فعل أدهم جابر، حينما جازف بكل شيء تاركاً حبيبته وأهله وأصدقائه يتخبطون خبط عشواء في بلدٍ عربي قد لا يجد ضيراً في مقاصصتهم جميعاً نيابة عنه. لقد عادت الشخصية الهاربة من عواقب اسمها، ومما فعلته يداها حينما أقدمت على محاولة اغتيال الحفيد، ولكن هل تغض "مؤسسة الأمن الوطني" الطرْف عن هذه "الجريمة" وتودعها في زوايا النسيان؟ فهذه المؤسسة، بحسب صديقه القديم الضابط "سالم" لا تُتلف ملفاً مهما تقادم عليه الزمن وتبدّلَ المسؤولون، فلا غرابة أن تُوصف هذه المؤسسة بأنها "لا تشيخ ولا تنسى!"، وعلى هذا الأساس تمّت استضافته ومراجعة تاريخه الشخصي والحزبي والحياتي لكي يخبروه بأنه لم يفلت منهم حتى حينما كان هارباً في "مدينة الحصار والحرب" فعيون "الحامية" تستطيع أن تخترق كل التنظيمات المعارضة لها وتصل إلى "الكلاب الضالة" سواء في دول الجوار أم في البلدان النائية جداً. تبدأ الرواية، كما أشرنا سابقاً، من حيث انتهت الأحداث بعد مرور عشرين عاماً حيث عاد "أدهم جابر" ليراجع كل شيء تقريباً حتى وإن كان بطريقة استقصائية لا تخلو من مقاصصة وتقريع. فها هو مثلاً يستذكر كيف دفعه القرين إلى ممارسة جنس محموم مع زوجة أحد رفاقه الذين استشهدوا في "مدينة الحصار والحرب". كما استرجع كثيراً من الوقائع والأحداث الشخصية التي لم يصدّقها زميله القديم "خلف" الذي كان طالباً في المرحلة المتوسطة، لكنه آثر أن يترك الدراسة ويرث مهنة أبيه الذي كان حارساً في الحامية. لم يعرف "خلف" صديقه القديم "يونس الخطاط" على الرغم من الأدلة الدامغة التي قدّمها له هذا الأخير مثل سطوِه على أسئلة امتحان الكفاءة، ووسمِه بصليب حديدي على بطنه لأنه وُجِد في حوزته كتاب ممنوع يدعى "الدولة والقانون"، كما لم يتذكر الساعة التي أهداها له "خلف" نفسه لأنه قرأ هذه الحكايات في مكان ما واكتشف أنها منسوبة إلى شخص يُدعى "أدهم جابر"! فقال له:( أن "يونس" و "أدهم" اسمان لشخص واحد أو اسمين لشخصين كانا، أصلاً، شخصاً واحداً لكنهما انفصلا بعد حادثة الكتاب، وحوادث أخرى أكثر خطورة، فبقي "يونس" هنا فيما ذهب "أدهم" إلى مدينة تطلّ على بحر أنيس قادته بعدها، أقداره، إلى بلاد تطلّ على بحار موحشة). ثم نعرف لاحقاً أن "خلف" قد مات في مواجهة مع جهاديين لأن الأحزاب الدينية، خصوصاً الظلامية المتشددة، كانت تقبل على الموت مثلما يقبل الناس العاديون على الحياة! لقد مات جده وجدته وخلّفا فراغاً كبيراً لأنهما كان يقصّران الليالي الطوال بالحكايات الممتعة اللذيذة، كما مات أبوه وأمه، وسوف يحظى الأب بعناية فائقة من قبِل الابن الذي عاد من منفاه بعد عشرين عاماً لكي يعيد النظر بقناعاته السابقة التي كانت تتوفر على قدرٍ من التماسك والقبول وإلا لما تبناها وضحّى من أجلها. أن موقف أدهم من والده كان سلبياً بعض الشيء لأنه لا يحترم في قرارة نفسه الكتب الصفراء التي انقطع إليها الوالد طوال سني حياته، كما أن كتب الخط العربي التي قرأها الوالد والصوفية والشعر الكلاسيكي عسير الفهم لم تكن تثير هذا الشاعر المشاكس الذي يكتب قصيدة تفعيلة ونثر مركز جداً. كان هناك نوع من القطيعة التي تتولّد غالباً بين الابن المثقف والممسوس بأحلام فنتازية غريبة وبين الأب أو الأسرة التقليدية التي لا تريد أن تنحرف عن سكة العادات والتقاليد المتوارثة، فحتى التمرد أو الثورة على "الحفيد" محرّمة في أعرافهم الاجتماعية لأن الآية القرآنية تقول: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، بينما لا تجد هذه الآية صدىً في نفس شخصية القرين الذي يحرّض على التمرد ولا يعير شأنا لمفهوم "أولي الأمر" لأنهم، من وجهة نظره، مستبدون خطفوا السلطة من مستحقيها في رابعة النهار. ومع ذلك فإن أمجد ناصر لا يؤمن بوجود قناعات مطلقة مسلّم بها لأنه ليس كائناً دوغمائياً يرى الحياة من زاوية واحدة تحرمه متعة النظر إلى الزوايا الأخر. لهذا قرّر أن يعيد النظر بتجربة والده المهنية في الأقل، وبالذات حينما وقف متسمراً أمام "المتاهة الكوفية" التي لم يعرف كيف يقرأ كلماتها، ومن أين يلجها ويخرج منها لولا معونة ابن أخيه "يونس" الذي سيكرر، ربما، حياة "يونس الخطاط" بطريقة أخرى. لابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن قناعات أمجد ناصر الفكرية لم تتبدل كلياً ولم تنقلب إلى النقيض تماماً، ولكن ثمة تعديلات قد طرأت عليها هنا وهناك بسبب ازدياد الوعي، وتراكم الخبرة، وتحريض الشك الذي يمكن اعتباره من أروع الخصال البشرية لأن الشك قد يفضي إلى الحقيقة، مثلما تقود الحقيقة إلى الشك. يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى شخصيات عائلية أخر لعبت دوراً مؤازراً في سياق النص المتعلّق بالشخصية القرينية مثل الأخ "سند" الذي ورث مهنة الخط عن أبيه وجده، لكنه برع أيضاً في التصميم الغرافيكي، وانتقل أيضاً للعيش في "بلاد النخيل والنفط"، أما "شهاب" الأخ الأصغر الذي كانا طيّاراً عسكرياً فقد أُحيل على التقاعد لأن عيون "الحامية" ورجالاتها شكّوا في أن علاقته بأدهم جابر قد تتعدى حدود رابطة الأخوة والدم. إذا كان الوالد الخطّاط متديناً، وأسيراً للأعراف، والكتب الكلاسكية فإن الابن "أدهم جابر" على النقيض تماماً وربما كان والده يكره فيه اللاءات الأربعة التي يرددها بين أوانٍ وآخر وهنَّ على التوالي: "لا حشر، لا قيامة، لا جنة ولا نار" الأمر الذي عزّز هذه القطيعة بين الابن وأبيه وهي إشارة واضحة إلى القطيعة الطبيعية التي تنشأ بين الأجيال التي تتربى على منظومة من القيم والعادات والتقاليد المختلفة. وعلى الرغم من مناكفة الابن لأبيه في الدين والسلطة والشعر تحديداً إلا أن الأب كان يحب في ابنه "روح التمرّد والسؤال ويخشى من عواقبهما"، فالتمرد قاده إلى الانتماء اليساري وكتابة الشعر التفعيلي بما ينطوي عليه من مغايرة ونفَس تجديدي معروف، بينما أفضى به السؤال الفلسفي إلى تسفيه المعتقدات الدينية والشكّ بها جملة وتفصيلا. كما دفعته روح المغامرة التي يتوفر عليها المتمرّد إلى ركوب المخاطر والسفر إلى "المدينة الرمادية والحمراء" التي تنطق الآن بألف لسان ولسان حتى غدت وكأنها "بابل" جديدة! أتاحت شخصية المتمرّد أو القرين بمعناه الأوسع الفرصة لاثارة مناقشات مُسهبة وذات أبعاد دلالية عميقة حول ريادة الوزير ابن مقلة للخط العربي، وإضافات ابن النديم، واجتهادات ابن البوّاب، ومعاصره حامد الآمدي والديراني. وربما أراد الروائي أن يكشف لنا عن استبداد النظام العربي وقسوته منذ القدم، ولعل الإشارة إلى ابن مقلة هو تذكير بالمصير المُفجع الذي آلَ إليه هذا الخطّاط المبدع الذي وُشِي به إلى الخليفة العباسي الراضي بالله فقطع يده اليمنى وسجنه في بئر ثم قطع لسانه وقد قال في هذا الصدد: "يدٌ خدمتُ بها الخلفاء وكتبتُ بها القرآن الكريم تُقطع كما تُقطع يد اللصوص"! إذن، فالنظام العربي، سواء القديم أم الجديد يبطش بالمثقفين والأدباء والفنانين والمفكرين والسياسيين، فلا غرابة أن تُقطع يد ابن مقلة التي كتبت القرآن، أو أن يفر الشبابّ المناهضون لحكام "الحامية" كي ينجو بجلودهم ويتفادوا المصير المؤسي ذاته الذي لاقاه ابن مقلة. وربما يأتي هذا الإسهاب المفرط في الحديث عن الخط كفرصة ثانية تتيح للمنفي العائد "أدهم جابر" أن يتمثل الأعمال الفنية التي أنجزها والده الخطاط، ويطيل النظر فيها، خصوصاً وأن والده لم يكن يخطُّ حكمة مأثورة أو بيتاً شعرياً كاملاً وكأنه كان "يترك لعين من يرى أن تسبح في النقصان" وهذه خصلة فنية ذكيّة تحفّز المتلقي على استعادة المحذوف من الكلمات والعبارات التي غيّبها الخطّاط عن قصد مسبق ونيّة مبيّتة. لم يغفل أمجد ناصر عن الشخصيات الانتهازية المنافقة التي يمكن أن تسقط فجأة إلى الحضيض، فمحمود أبو طويلة الذي كان مناضلاً في وقت من الأوقات قد أصبح مجرد إمعّة يخدم النظام في إشارة إلى هذا النمط من الشخصيات التي تهتز من أول صفعة، بينما يسقط آخرون في منتصف الطريق، ويواصل أصحاب الإرادة الحديدية، وهم قلّة نادرة، مشروعهم السياسي حتى نهاية المطاف. تُطِّل المرأة غير مرة في هذا النص الروائي الجميل فقد أشرنا إلى زوجة الشهيد التي سقطت في فخ الحاجة الجنسية من أول لمسة، كما نلتقي برُلى، ابنة قائد الحرس الخاص بالحفيد، التي أحبها "أدهم جابر" حتى أصبحت قصة حبهم تدور على كل الألسنة، ولكن ما أن هرب "أدهم" حتى تزوجت رلى وأنجبت وانغمست في حياتها الزوجية الجديدة على الرغم من أنها كانت المرأة الأنموذج بالنسبة إليه، إذ افتتن بالعادي فيها ورأى في جغرافية جسدها مساحة للدهشة المتواصلة التي لم تتلاشَ حتى بعد غربته الطويلة التي استمرت عشرين عاماً بالتمام والكمال. وهالة ذات الملامح الأناضولية الفارقة التي أحبّها محمود فبدت تتحفظ في علاقتها مع "أدهم" الذي لم تكن تجد حرجاً في أن تربت على كتفه عندما تسمع شيئاً يُضحِكها. كما يمكن الإشارة إلى الباحثة الاجتماعية التي تزوجت من شاب ثوري لكنها سرعان ما انفصلت عنه ثم اقترنت بأدهم جابر وبدأت تُضيّق عليه الخناق كلما تكلم بهدوء على الهاتف. وفي الختام لابد من الإشارة إلى المغريات الكثيرة التي عُرِضت على أدهم للعمل في مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية ولكنه رفضها جميعاً على الرغم من أنهم أخبروه بأن "الآمر الجديد" لا يمتلك خبرة كبيرة في الحكم وإدارة "الحامية" وعليهم جميعاً أن يحافظوا على وحدة البلاد حتى لو تطلّب الأمر العودة إلى بث صوره في في أرجاء الحامية وإعادة تفعيل الأغنيات البدوية التي تمجد "الآمر" وتحرّض الناس على تحويله إلى رمز وطني لكي يدرأوا عنه خطر الجماعات الظلامية المتشددة التي انقلبت عليه بعدما كانت تؤازر السلالة الحاكمة على مرّ الحقب الزمنية المنصرمة. يثير الفصل الأخير من الرواية سؤالاً شديد الأهمية مفاده: هل عادت الشخصية الرئيسة التي هربت من تداعيات اسمها لكي تموت في "الحامية"، خصوصاً وأن "أدهم جابر" قد عاد مأزوماً ومهزوماً على المستوى النفسي، ومعلولاً على المستوى الصحي لأنه كان يسعل بشكل متواصل، ويبصق دماً كثيراً يشي بأنه، قاب قوسين أو أدنى، من الموت: "نظر إلى جوار القبر. لم هناك فراغ، لا مجال لقبر آخر"، ولكن المعضلة الحقيقية التي واجهته هي: أي الاسمين سينقش على شاهدة قبره. هل سيكتفي بيونس الخطّاط الذي لم يبرح أرض الحامية، أم يدوّن اسم هذا القرين أدهم جابر الذي لازمه مثل ظله؟ ومما يعزز فكرة الموت والدنّو منها هو رؤيته لطير جارج في هيئة انقضاض، كما شاهد سحابة لولبية تتطاول في السماء العارية مُهددة بالاقتراب الأمر الذي ينطوي على نبوءة ما قد تحمل بين طياتها ما لا تُحمد عقباه.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحقوق المائية
-
رواتب البرلمانيين العراقيين
-
القرصنة والابتزاز
-
مُحفِّزات أعمال الشغب والعنف في بريطانيا
-
الجادرجي في أمسية ثقافية بلندن يتحدث عن تأثير ثورة 14 تموز ع
...
-
صلاح نيازي يرصد التغييرات التي طرأت على الأدب والفن بعد ثورة
...
-
عبد المنعم الأعسم يتحدث عن ثقافة التسامح
-
تحديات الإعلام العراقي في الداخل والخارج
-
الصدمات و الكراهية في السياق العراقي
-
قاسم حول: -المغني- فيلم متميز في مضمونه وشكله وقيمه الجمالية
-
خالد القشطيني يقرأ بعض حكاياته ويوقّع كتابه الجديد -أيام عرا
...
-
الواقعية الجديدة في -زهرة- بارني بلاتس
-
-حديث الكمأة- لصبري هاشم أنموذج للرواية الشعرية
-
أسرار فرقة الدونمه ودورها في المجتمع التركي الحديث (3-3)
-
الدونمه بين اليهودية والإسلام . . . مسوّغات العقيدة المُزدوج
...
-
الدونمه بين اليهوديّة والإسلام (1-3)
-
(اسأل قلبك) للمخرج التركي يوسف كيرجنلي
-
مهرجان بغداد السينمائي الدولي مُلتقى لشاشات العالم
-
قبل رحيل الذكريات إلى الأبد (3-3)
-
السينما الطلابية في العراق. . محاولة لصياغة مشهد سينمائي مخت
...
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|