المقارنة:
قضيت في شيكاغو أكثر من سنة، أزعم أنها كافية لجعلها مادة للمقارنة ليس مع بغداد، أو أي مدينة عراقية، لا، مدننا مظلومة، مهملة بتعمد، يسرق مسؤولها النقود، يهربونها إلى الخارج، يصرفونها على الأسلحة، ووسائل التدمير، على أي شيء، إلا تطوير البلد.
المدينة التي لا تفارق مخيلتي باستمرار هي صوفيا لا بغداد، كمادة للمقارنة، (بالرغم من أن بغداد بموقعها الفريد على ضفتي دجلة، وما يحيطها من بساتين، تعتبر من أجمل مدن العالم) فالمقارنة تقتحم ذهن الإنسان بالرغم منه، المقارنة تداعٍ لا شعوري، يتكرر، فيولد حافزاً للتفكير، ولعلها إحدى أفضل الوسائل لإدراك الحقائق.
المدينتان متشبهتان من حيث المناخ، فكلاهما يقعان على خطي طول شقيقين: 42-43، وكلاهما ذواتا جو متقلب صيفاً، بالرغم من أن شيكاغو تفتقد إلى الجبال وصوفيا تفتقد إلى البحيرات.
مركز المدينة:
تعتبر شيكاغو إحدى أهم المدن الأمريكية، من حيث تنظيمها، وتطورها، وجمالها، وو، فيها أعلى بناية في العالم، إلى قبل أن تبني ماليزيا بنايتها منذ بضع سنوات، وفيها معرض أحياء بحرية يشاهدها المرء وهو ذاهل، وفيها عشرات المتاحف الرائعة، التي تحوي أجمل ما خلفه الإنسان من تركة على ممر العصور، وما سرقه الأمريكان من آثار البلدان المستعمرة، قبل أن تصحو على واقعها، وأشك أنها صحت، كالثور المجنح، ومئات القطع الأخرى!
مركز مدينة شيكاغو نظيف، يحرص على إدامة نظافته مئات العاملين، فأمام كل بناية من يلتقط ما يرمي به المارة من بقايا أعقاب الجكاير، والأوراق، وأي سقط قيم، أو تافه، وهو إلى جانب ذلك جميل، منظم، بشكل يريح بال، ونظر أي متسكع، مليء بالمقاهي، والمطاعم، والحانات، وعلى مستويات اقتصادية عدة، وضواحي شيكاغو مسروقة من الجنة التي أراها في أحلامي، وناطحات السحاب في شيكاغو لا تصدم العين، كما هو موجود في بعض البلدان الخليجية، إذ تبدو مكعبات من إسمنت، وزجاج متنافر، لا علاقة لها بالرمال المحيطة به، ولا تنسجم مطلقاً مع بيئتها، هنا على العكس من ذلك تبدو البنايات الشاهقة جميلة، متناسقة، كأنها خلقت لتكمل الطبيعة المحيطة بها بتناغم فريد، ولعل عبقرية المصمم، وعمقه الحضاري وعراقته هي أسباب ذلك الانسجام، هذا بالرغم من نشاز بعض الأبنية التي حرص فيها منشئوها على تقليد بعض الأبنية المشهورة في أوربا، كالكاتدرائيات، والقصور، فجاءت غريبة، وفقد شكلها جماله، وإذ كان ما يميز مركز شيكاغو المعاصرة عظمة تطوره العملاق، فإن ما يميز قلب صوفيا، العراقة الأصيلة، ونكهتها التراثية عميقة الجذور، وطراز أبنيتها العامة التي تتداخل فيها عناصر معمارية شرقية غربية، وبهذا يتعادل مركز المدينتين من حيث الجمال والجاذبية.
لكن ما يشين شيكاغو أشياء لا تحصى، لم أجدها في صوفيا التي رأيتها 79، فشيكاغو 2000 عالمان: عالم جميل، نظيف، متطور، زاهٍ، خلاب، وعالم قبيح، قذر، مكمود، مغثٍ، فما أن تترك مركز المدينة الجميل المتألق وتتجه بضع أميال جنوباً، أو غرباً، حتى يبدأ العالم الثاني في شيكاغو:
الشوارع مبلطة تبليطاً قديماً، مليئاً بحفر مردومة كيفما اتفق، أو تنتظر الردم بعد أسبوع، أو حتى أشهر، تهزك السيارة وكأنك تسير في إحدى مدن العالم الثالث، والقذارة، من قصاصات ورق، وأكياس نايلون، وأعقاب سيكاير، وعلب فارغة تملأ الشوارع، والأرصفة، وسيارات التنظيف (شاعرية) تحترم القمر احتراماً شديداً، متعاقدة معه، فهي لا تهل إلا مرة واحدة في الشهر، أو في عدة أشهر، تبعاً لمن يسكن الشارع، فإن كان من يسكنه يهود – أغنياء، أو فقراء، وإن هلت فلتنظيف الشارع فقط، تترك الأرصفة على ما هي عليه من قذارة تتراكم، ذلك لأن الأرصفة متعاقدة مع ظاهرة طبيعية أخرى هي رياح الخريف وأمطاره، ومع الشتاء وثلوجه، ومعظم الأبنية قديمة، مقبضة للنفس، ملوثة بسخام عوادم السيارات.
مثل ذلك التفاوت في النظافة، والجمال، والتألق بين الشوارع، والمناطق، لم أشاهده في بلغاريا، وإن أخذنا حاصل القسمة بين المركز، وبقية أقسام المدينة فسيكون الحكم لصالح صوفيا بالطبع، من حيث النظافة، والتنظيم، والجمال.
المتاحف، ووسائل التسلية:
كانت المتاحف في بلغاريا مجانية، أما هنا فزيارتك لأي متحف تكلفك في الأقل عشرين دولاراً، هذا إذا وضعت في الحسبان تكلفة المواصلات، لسعة المدينة وضخامتها، أما إذا جعت، وأردت أن تضحك على معدتك المسكينة، بلفة خفيفة –ساندويج- فستصل التكلفة إلى خمسة وعشرين دولاراً، إن لم تتجاوز الثلاثين، وهذا يعني راتب مدرس عراقي لعشرة أشهر، فيا للمأساة! ولست أدري كيف يمكن لأي جهة، تعيش في القرن الواحد والعشرين، سواء كانت سلطة دولة، أم مؤسسة فردية أن تدعي أنها معاصرة، أو أنها تدعم حقوق الإنسان، أو أنها مع الحرية، و الديمقراطية، وتضع مثل هذه الرسوم العالية على المتاحف، زيارة المتاحف في نظري مكافأة الماضي لمن يعيش في الحاضر، إرث مقدس لا علاقة له بالضرائب، تراث مشاعي، هبة السلف للخلف، يجب أن تكون مجانية كزيارة المكتبات العامة، فلماذا هذا الاستنزاف؟ حتى بعض الدول الأوربية لا تضطهد المرء بمثل هذه القسوة، فلقد زرت متاحف اليونان، وبعض متاحف إيطاليا، وبرلين مجاناً أيضاً، ولعل أسوأ أنواع الاستغلال ما شاهدته في دتريوت، عندما أردت زيارة متحف فورد، لوسائل النقل، كانت البطاقة بعشرة أو إحدى عشر دولاراً، ولست أدري لماذا فرضت هذه (السرقة القانونية)، أو هذا الامتصاص لدم الأبرياء؟ ومن مؤسسة تمتلك ما لم يتملكه قارون المسكين!
ويبدو أنني لست الوحيد الذي يستثقل هذه الاستغلال، فلقد رأيت شاباً، رفض بائع التذاكر عرضه أن يعمل يوماً كاملاً في المتحف لقاء السماح له بمشاهدته، ومما أدهشني آنئذ قوة الأدلة التي قدمها الشاب، ومقدرته على المحاورة، لكن كل ذلك لم ينفع: أنا متأسف.
أما وسائل التسلية البريئة فموجودة هنا في المكتبات فقط، فالطفل يحق له أن يدخل إلى جناح الأطفال في أي مكتبة، ويقضي فيها الوقت الذي يحب، لكن تلك الخدمات تتضاءل إذا قورنت بما كان موجوداً في بلغاريا، كان هناك ما يستدعي الاحترام، والذهول، ولا أظنه سيكون في الولايات المتحدة بعد نصف قرن أو قرن، فعلى سبيل المثال كان هناك سينمات في قلب المدينة، تعرض أفلام كارتون، أو قصص أطفال مسلية جداً حتى لمن لا يعرف البلغارية، هذه السينمات مجانية، أو شبه مجانية، كنت أذهب بأولادي إليها منذ الثامنة صباحاً، وكنت أوصي الموكل بالخروج أن يمنعهم من مغادرة المبنى حتى مجيئي، بعد ذلك آخذ حريتي في التسوق، وقضاء أشغالي حتى إذا انتهيت بعد أربع أو خمس ساعات، رجعت للسينما، وأخرجت أطفالي، وهم كارهون. أما في شيكاغو فالسينما تكلف بين خمسة – اثني عشر دولاراً، وكانت هناك في بلغاريا مسابح، وورش رسم، وفنون، وصناعات، وو و..إلى ما لا يتسع المجال بذكره، وكلها بالمجان أو ما يشبه المجان.
المواصلات:
كانت المواصلات في صوفيا شبه مجانية، أما هنا فأرخص بطاقة مواصلات بدولار ونصف، أما إذا كان عندك وصلات عمل متتالية تضطرك للتنقل بين عدة أمكنة فارخص بطاقة ليوم واحد بخمسة دولارات، لكن ( المواصلات) تفتقد الدقة والتنظيم، (في أرقى دول العالم )، من يصدق؟ مواصلات بلغاريا- آنئذ – أنظم، وأدق، وأريح، وأكثر إنسانية، لم انتظر في بلغاريا أي حافلة أكثر من دقيقتين قط، أما هنا فقد انتظرت مرة ساعة بالضبط، مع أن رقعة الحافلة المقامة في نقطة الانتظار تقول: باصات شارع كيمبل تأتي كل 8-12 دقيقة، والانتظار مؤلم أيا كان نوعه، أما إن كان في شتاء زمهرير، تنخفض البرودة فيه إلى أكثر من عشر درجات مئوية تحت الصفر، ويرتفع تحت قدميك ثلج بسمك قدم، فهذا نوع من مجالدة الموت! وبعد كل ذلك الانتظار تسمع زمجرة الباص من بعيد، لكنك تشاهد عندما يقترب أربعة أو خمسة باصات، قادمة معاً، الاثنان الأولان مليئان حتى أنك لا تجد موطئ قدم، والباصان الأخيران به خاويان، ولست أدري كيف يحصل ذلك! لا بل الأسوأ من ذلك، أن يمر باص من دون أن يتوقف في الموقف الرسمي، بالرغم من وقوفك فيه.
مثل سوء التنظيم هذا لم يكن موجوداً في بلغاريا، ودول أوربا الشرقية، لا بل حتى في العراق، قبل انقلاب رمضان الأسود (1963) في الأقل، فمن المسؤول عنه؟ وما العلاج؟ ولعلك إن ركبت الباص في شيكاغو ستعاني من مشكلة ثانوية لا أهمية لها عند البعض. الباص مجهز بالتكييف، حرارة، وبرودة، لكن درجة التكييف تعتمد على السائق، فإن كان السائق يعتمد الاعتدال فأنت في الجنان، أما إن كان يحب الحرارة الزائدة فستسبح في عرقك وأنت في عز الشتاء، وستصاب بالزكام حالما تغادره، أما إن كان السائق يحب البرودة، فسترتجف ولا من معين.
الهاتف:
أتذكر أن الهاتف في بلغاريا كان شبه مجاني أيضاً، فالمكالمة داخل المدينة لا تكلف أكثر –ستوتنكي- وهي ما يعادل السنت الواحد، أما هنا فالمكالمة تكلف 35 سنتاً داخل شيكاغو، أما خارجها فيعتمد على البعد، وشركات التلفون هنا أشبه بشركات للحرملة – اللصوصية -، ويفضل ذوي الدخل المحدود أن يتصلوا بوساطة بطاقة هاتف، فهي أرخص نحو خمسين بالمئة، لكن شركات الهاتف تستغفل المواطن، تغير قوانينها بين برهة وأخرى، فالبطاقة التي تمنحك التخفيض هذا الشهر لا تجدها في الشهر القادم، وقد تكلفك ثلاثة أضعاف المبلغ إن استعملتها من تلفون البيت، ومثل هذه الملاحظة غير مكتوبة على البطاقة، لتكون على حذر، وكثيراً ما تأتي القائمة، تطالب بمبالغ مختلفة من 10- 100دولار، لعمليات تزعم الشركة أنها قامت بها، وهي كاذبة: تصليح خط، إعادة حرارة، قطع..الخ، وكلها غير موجودة، فإن كان المستهلك لا يعرف الإنكليزية، ومن عادته أن ( يتكفى الشر) فسيدفعها، وإلا فسيقطع هاتفه.
أما تنظيم المرور في شيكاغو فلم أجد أسوأ منه في حياتي إلا مرور شقيقتها ديترويت، فأنت تضطر للوقوف في ميل واحد أكثر من عشر مرات، وفي أحيان كثيرة، توقفك إشارات المرور ثلاث مرات في مئة متر، وهذا لم أجده في ألمانيا، إسبانيا، سويسرا، بلغاريا، إلى أخره، وهنا يبرز سؤال ملح: ما فائدة التقدم العلمي إذاً؟ لماذا تلك التكنولوجيا الجبارة؟ بما فيها من حواسب(كمبيوترات) عملاقة، أ للسيطرة على مقدرات العالم كله، واستعباده اقتصادياً، وعسكرياً؟ أيعقل أنها تقف عاجزة على حل مثل هذه المشكلة البسيطة؟ فليس من المعقول أن تقطع عشرة أميال بساعة أو أكثر، مع أنها يجب أن تقطع ب 17 دقيقة، هذا إذا أخذنا في نظر الاعتبار أن السرعة الدنيا للسير في المدينة:35 ميل-ساعة!
حل هذه المشكلة سهل بالتأكيد، لكنه يسبب خسارة كبرى لصناعة السيارات، فلو قطعت العشرة أميال ب 17 دقيقة، فذلك يعني إن السيارة ستسير أقل من الواقع ب 350% ، وهذا يعني أن استهلاك الوقود، واستهلاك السيارة، واستهلاك الأدوات الاحتياطية سيقل بنفس النسبة، وتقليل الاستهلاك يقلل موارد مؤسسة الضرائب، وهنا في أمريكا يقيّم المرء علواً وهبوطاً بنسبة تسديده للضرائب، أما تلوث البيئة فذلك موضوع لا يجب أن يثار إلا في البلدان الأخرى، وأما خسارة المواطنين فلا أهمية لها مطلقاً، وأما صحتهم فمرتبطة أيضاً بمقدار ما تدفعه المؤسسات الطبية، وشركات التأمين من ضرائب أيضاً، فبالرغم من مآسي المرض، إلا أن ازدياد المرضى، وازدياد صرف الدواء، يعني ازدهار صناعة الأدوية، والصناعات الطبية، والمستشفيات، والمعاهد الطبية..الخ، وكل ذلك يدر أموالاً تصب في بحر الضرائب.
الوقت:
أكثر ما كان يثيرني قبل أن أرى الولايات المتحدة، ما يتردد عنها أنها بلد عمل، وعمل فقط، وأن البشر فيها يحترمون الوقت، ليس مثلنا، نهدره في المقاهي والثرثرة، فاحترام الوقت مهم إلى أقصى الحدود، العمر وقت، كل ثانية تمر لا تعوض، الشباب وقت، الحياة وقت، لم نهتم لذلك كله لتخلفنا، ولكني أدركت هنا أن مسألة احترام الوقت في الولايات المتحدة قضية نسبية، فيها الكثير من المبالغة، لا بل الكذب والافتراء لا أكثر، فهم لا يحترمون الوقت إلا في الشركات، والمعامل، والواجب، أي أن وقت صاحب العمل وحده مهم، أما وقت من يقوم بهذه الأعمال فلا قيمة له، سواء أكان عاملاً أم موظفاً! ولقد التقيت من يأخذ منه الوصول إلى العمل أربع ساعات ذهاباً وإياباً، فأين احترام الوقت إذاً؟
==========
* كاتب روائي عراقي له عدة أعمال روائية من أشهرها " أنا الذي رأى " وهي عن الاعتقال والاختطاف السياسي والتعذيب الجسدي في س