علاء المولى
الحوار المتمدن-العدد: 3466 - 2011 / 8 / 24 - 07:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي اللبناني
تصر احزاب المعارضة السياسية ذات الخلفيات اليسارية في الوطن العربي على الايحاء بانها ليست جاهزة و مؤهلة "لاغتنام" فرص التغيير التي يتيحها الواقع الراهن في صيرورته. وسبق لهذه القوى أن اثبتت ضعفها في "خلق" مثل هذه الفرص. مجموعات يسارية صغيرة كانت تتبع نهجا متشددا تعتقد, من جهتها ,أن "الأحداث اثبتت صحة وجهة نظرها" وهي تعد العدة من اجل استنهاض عام. بالمقابل ظهر الاسلاميون اكثر استعدادا (مع لحاظ الدعم الذي يتلقونه) ويتهيأالليبراليون, مجددا, لتسيد المشهد العربي القادم.
لا مبالغة في الاستنتاج ان التطورات "الثورية" في المنطقة تشكل حافزا لإعادة وضع اليسار العربي في معادلات المرحلة المقبلة ان هو اجاد التقاط اللحظة التي قد لا تتكرر قبل وقت طويل. وفي هذا السياق بالذات, تحتاج الأحزاب الشيوعية "المكرسة" الى استيقاظ يليه مراجعة تقود الى تغيير لا مفر منه, وتحتاج الأطر الماركسية الأخرى الى اعادة احياء ذاتها واجراء مراجعات أقل تغنيا بالذات بعد ثبوت ان خطابها التثويري ونصوصها المتشددة لم تنقلها الى قيادة الجماهير. وأكثر من يحتاج, باعتقادي, الى اجراء مراجعة شاملة وعميقة هم آلاف المثقفين والمشتغلين بانتاج الأفكار وتسويقها الذين نبذوا "الأطر" التي تخنق الحرية وارتحلوا صوب "واحات" التعبير الحر يرتجون تغييرا من خلال مقالة او بحث تدفع اجورها السلطة, مهما اختلف شكل تسميتها. أما المثقفون الذين بقوا أمينين لأفكارهم بعد يأسهم من الأحزاب التي تحمل هذه الأفكار و فهم اكثر المعنيين بالضغط من أجل كل هذه المراجعات المرجوة والانخراط الفعال فيها وكذلك الاعلان عن رايهم , بعد تجربتهم, بجدوى(أو فائدة) نضال الأفراد خارج الأطر السياسية و التنظيمية القائمة أو المطلوب قيامها.
ولكن ما الذي يمكن ان يدفع كل هؤلاء الى الانخراط في مثل هذه الورشة؟ وهل فعلا يوجد قناعة واسعة بأننا أمام "لحظة" قد لا تتكرر؟ ثم هل يمكن ابتكار صيغة لتأطير مثل هذا الجهد المرجو؟
الدافع الأساسي ,باعتقادي , لانخراط الجميع في هذه الجهود هو بالدرجة الاولى أخلاقي. فثمة مسؤولية على الأحزاب والتشكيلات والنخب الماركسية تجاه جمهور عريض سار خلف وعودها وآمن بشعاراتها وناضل وضحى تحت راياتها ونهل من أفكارها حتى تشكل على ما هو عليه وخسر ما كان يمكن ان يكونه. لا يجوز ترك هذه الجموع مجددا على ضفافمجتمعاتها افرادا متناثرين لا يجمعهم سوى اختلافهم عن "آخرين". هؤلاء هم قاعدة عريضة لقوة تقدمية تحتاجها مجتمعاتنا أكثر من أي وقت مضى وقد عاد أوان تظهيرها كقوة تقدمية لا ينقصها الا حسن تنظيمها وقيادتها حول برنامج جدي. لكل هؤلاء دين على الأحزاب والمثقفين والقادة وبات سداده واجبا لا يحتمل أي تأجيل.
بالإضافة الى ذلك يوجد مصلحة سياسية وشعبية في اعادة احياء "البديل اليساري" في خضم التغيرات المستمرة التي تشهدها المنطقة. فهل يجوز الاستمرار في التفرج – والتعليق – على مآل التطورات التي لا يبدو انها ستتجاوز حد توسيع رقعة المتنافسين على المناصب والعطاءات بعد أن طال احتكارها؟ كل ما يحصل يشير الى انه حيث سيجري "انتصارللشعب" (مع أهمية ما سيتحقق على صعيد توسيع هامش الحريات) سيجري الانتقال من تسلط واحتكار "حاشية الرئيس" الى تسلط واحتكار "حاشية النظام" بمكوناته الجديدة الاسلامية والليبرالية. ولذلك من الضروري قبل ان تستقر الأمور على هذا النحو أن تتسارع الجهود المطلوبة وتنتظم فتحدث التغييرات الضرورية لدى "اهل اليسار" كي يتمكنوا من التأثير في مجرى التطورات لصالح الفئات الشعبية ومسار التقدم, قبل ان تتحول لحظة الزخم الى لحظة احباط.
الدافعان, الأخلاقي والسياسي(الوجودي), يكتسبان اليوم حيوية لم تكن موجودة قبلا بسبب ما فتحه الواقع من آفاق بعد ثبوت "الإمكان" لتوظيفهما اليوم, في ظروف المناخ الثوري العربي, فائدة أكيدة وملموسة لعلها تغري الكثيرين بالإحجام عن الاعتكاف. فالتطلب "موضوعي" وليس افتئاتا على الواقع, والتفاعل معه هو تفاعل مع قضايا الناس أنفسهم وليس مع برنامج هذا الحزب أو ذاك ولا هو استجابة لنداء "قائد ما".
ان الانخراط الحيوي والفعال للأحزاب والتشكيلات والنخب الماركسية اليوم في ورشة المراجعة والتقييم والمبادرة يشكل فعلا تأسيسيا تاريخيا لا يقل أهمية عن تأسيس الأحزاب الشيوعية العربية في بدايات القرن الماضي. لا بل يمكن القول ان ما تتيحه اللحظة الراهنة من امكانيات واقعية يجعل "الفعل اليساري العربي الجديد" فعلا له نتائج ملموسة يمكن أن نراها ونستمتع بتحقيقها ونحن ,بعد, أحياء!
ليست المسألة سباقا مع الزمن, على ضرورة ذلك, "فاللحظة" السياسية الراهنة مداها سنوات. انما المسألة هي في وعي الضرورة الموضوعية والصيرورة التاريخية بمعطياتها الملموسة وفي الوقت المناسب.
لكي يتمكن اليسار من ان يلعب دوره المفترض عليه اليوم المسارعة الى اثبات أهليته مجددا وهذا لا يتحقق اذا جرى تجاهل الحاحية التغيير بما هو اشارة حياة ووعي بالنسبة للجمهور والفئات الشعبية. فإثبات الأهلية لاستعادة ثقة الجمهور, له في ظروف الثورة الراهنة , شرط واحد: التغيير الفوري والجدي في كل المجالات وعلى مختلف المستويات. فبالنسبة للوعي الجمعي عند الجماهير, معظم القوى اليسارية ساهمت من خلال جوهر وشكل نضالها المتركز في المجال السياسي(الخاضع لشروط السلطة) في تسهيل سيطرة الأنظمة واستبدادها. و لن تصدق الفئات الشعبية من تركها –واقعيا - طيلة عقدين من الزمن عرضة لكل انواع النهب والتهميش والإفقار والتعذيب والبؤس الانساني والامتهان اليومي للكرامة والعدوان والاحتلال والتقسيم والطائفية والمذهبية الخ ,ما لم يشهر اعتذاره عن استكانته وعجزه وينسحب لمن لم يستكينوا ولا يتعايشوا مع العجز. هذا هو جوهر التغيير الوحيد المفيد والمطلوب من اليسار القيام به كي يؤكد اهليته بعد ان تركزت جهوده على تسعير خلافاته الداخلية والانزلاق الى تجزئة المجزأ. اما التغني بنضالات سابقة مر عليها التاريخ والاستنجاد ببيانات قديمة "تكشف" طبيعة النظام فلن تؤتي اكلها, ذلك ان المطلوب كان "التجرؤ" على النظام باسم ملايين المسحوقين يوميا وهو ما قام به المسحوقون انفسهم دونما حاجة الى يسار أو يمين!
ان هذه المهمة ليست بسيطة على الأطلاق ولعلها أكثر تعقيدا مما يظن اكثر المتفائلين. فتجربة الاصلاح أو التغيير داخل الأحزاب الشيوعية والأطر الماركسية العربية الأخرى ليست مشجعة ولا تدعو للتفاؤل. والعديد من المثقفين وجدوا خلالالعقدين الماضيين مجالات للعمل السياسي والفكري أظهرت كفاءتهم وقدرتهم على التأثير في الواقع الملموس أكثر من تجربتهم في العمل الحزبي حيث الانغلاق على الذات وتطويق الكفاءات. لذلك يدعو "الواقعيون" الى تأسيس أطر جديدة والتخلي عن وهم التغيير داخل البنى الموجودة. وهذه الدعوة لا تخلو, للأمانة من وجاهة, لكنها تحتمل برأيي اختبارا أخيرا للقدرة قبل التسليم بها. والورشة التي ادعو اليها تحمل ,باعتقادي, امكانية تحويل هذا الوهم الى حقيقة لأنها لا ترهن التغيير في البنى الحزبية القائمة بموازين القوى داخلها ولا بقناعة ومصالح السلطات المسيطرة فيها, بل برغبة وارادة "أهل اليسار" جميعا باعتبارهم "شركاء مساهمين" في مختلف الأحزاب القائمة. ان الحزبيين والأصدقاء والمناصرين وكذلك المثقفين والناشطين والمعتكفين والمنتقدين والمتأففين قادرون اذا ما انخرطوا في ورشة اعادة احياء اليسار, على خلق قوة معنوية واعتبارية جبارة وتفرض على البنى نفسها ضرورة التغيير و ايقاعه وخطواته والا فالاندثار. انه وقترمي "الكفوف" وفك "ربطات العنق" والكف عن "الكلام الهادىء" أو "الهمس" في المقاهي او الحانات او المخادع.. انه وقت الكلام الضروري أو الصمت الأبدي خصوصا للمثقفين الذين برروا " تنقلاتهم" بالخنوع الأبدي للجماهير. ورشة اليوم واعدة وجميلة وتستحق محاولة الانخراط فيها لأنها بالظبط قادرة على الدفع نحو مستقبل أفضل.
ان انتفاضة "أهل اليسار" اليوم قادرة على اخراجه من شرنقة الماضي و يمكن أن تؤهله للفعل في الحاضر والمستقبل معا لأنه لا يزال, بعد, ضرورة وحاجة.
#علاء_المولى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟