|
الشراع الأسود: قصة قصيرة
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3461 - 2011 / 8 / 19 - 08:45
المحور:
الادب والفن
الريح تقرع الباب: مجموعة قصصية لرياض بن نظير خليل /نشرت عام1976 بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب/صمم الغلاف الفنان : محمود السيد . وفيها تسع قصص هي بالترتيب: - الشراع الأسود - عيّودا ( نشرت في مجلة الموقف الأدبي) - المتقمصة - الولادة (نشرت في جريدة الثورة) - جريمة في ملف النمرود - ولكن غدا لم يأت - موجة عابرة في سطح صقيل - الولادة الأخيرة ( نشرت في جريدة الثور) أردت نشر القصص تلك كما هي حرفيا ،وذلك من باب الأرشفة والتوثيق والحفظ الشراع الأسود: قصة قصيرة/لرياض خليل مازلت أفكر يا فريد النونيّ يوم أوصيتني – حينما كنت صغيرا- ألا أجلب غيرك من قرباط المنطقة لإحياء احتفالات عرسي . كنت طفلا يافعا ، وكنت أعرف أنك تحب المزاح معي . طبلك وأرغون فلّيص كانا يعجباني .. يثيران في نفسي أفراح الطفولة وشجونها وأحلامها الصغيرة . ما أروعك وأنت تقرع طبلك بحماس ونشوة مجنونة ! والناس يدبكون ،..يضربون الأرض بأرجلهم القاسية ، ينتقمون منها في هذه اللحظة ، يمارسون نوعا من الانتصار عليها بالرقص ، ..يستمتعون بلذة إذلالها في دبكتهم العنيفة . كنت أرقبهم وهم يطلقون الأصوات الغريبة ، يرددون لازمة أغنية تنشدها إحدى الصبايا ، وفلّيص ينفخ في الأرغون ألحانه النّورية المثيرة آخ ...يا فريد النّوني ..يا زعيم قبيلة القرباط المشهور! آخ .. يا فلّيص الدرويش ! آه لو تعرفان ماذا حل بالطفل الذي وعدتماه بالدق والعزف في عرسه ، لو تعلمان أين حل به الدهر؟! وكيف صار غريبا بلا مأوى، تلتهمه العمارات والشوارع والمساحيق وليل المدينة المقنع بالأضواء المتلألئة ..كأنها الحلي تغطي جسد زنجية جميلة . هنا لا يفرحون لمواسم القمح، ولا يستأنسون برائحة الأرض . هنا لا يعرفون فريد النّوني .. ولا فلّيص الدرويش، ولا الدبكات أو الأعراس التي تقام كل موسم في قرية : الجنجانية المستلقية باستسلام في حضن واد ضيّق ، ينفرج باتجاه الغرب ، ويستقرّ في جلاتا المختبئة في جيب صخري غزير المياه والخضرة . يا فريد النّوني ..يا فلّيص الدرويش! كان طبلكما وأرغونكما يملآن طفولتي مرحا وفرحا.. أما الآن فقد صارا جزءا من قلبي المحروق . صارت موسيقاكما مثلي: مزيجا من الفاجعة والغبطة والغضب . صارت موسيقاكما أكثر من ذلك . وعدتماني حقا .. ورحلتما .. تعبران القرى وراء الأعراس التي تقام كل يوم في مكان ما . وعدتماني .. وأنتما بانتظار الخبر المفرح .. بانتظار تلك البشارة التي تخفق لها قلوب العصافير والصخور فرحا . ولكنني لم أجدها بعد ! عروسي الشيطانة المحبوبة ...لم أجدها بعد! فما ذنبي؟ ما ذنبي وقد أقلعت سفينتي منذ زمن ليس بالقصير؟ أقلعت سفينتي الصغيرة ، وشراعها غزالة بيضاء مشاغبة .. تغازل الأمواج ، تلهو وإياها ، تتلذذ بإثارة غضبها وغيظها المحبّب ، تعذّبها تعذيب حبيبة لحبيبها المأسور لها. كنت ألتفت بين الحين والحين إلى الشاطئ الذي خلّفته ورائي .. كان يبتعد مثلي . تتلاشى صورته التي عشتها .. عرفتها . تتداخل ملامحه المألوفة ، وتمّحي شيئا فشيئا . وجهه الأول يغيب ، ليحلّ مكانه وجه آخر بلون واحد .. يزداد غموضا وضبابية وشحوبا . أفلتّ مني أيها الشاطئ ، لم يبق منك سوى وجه فريد النّوني وفلّيص وموسيقاهما الرائعة ، ودبكة الرجال والنساء ، وبعض الأغاني ، تلاحقني جميعها في النّسيمات وشغب الموج .. وأحيانا في العاصفة وجنون البحر والأمطار وغضب الريح . صارت الأعراس تؤلمني ، لأنها تذكرني بالمعذبين الضائعين بحثا عن الأعراس .. تثير فيّ الحنين والرغبة بالموت من أجل هؤلاء التعساء البائسين ..الباحثين في الغابة عن ليل وديع وقمر .. ودروب بيضاء . تذكرني الأعراس بالجائعين المحرومين.. بعيونهم القلقة الخائفة المكتظّة بالرغبات المتسولة المقهورة ..بأحلامهم الذّابلة ، ووجوههم المزروعة بالمرارة والظمأ والسقوط في أغوار سوداء بلا قاع . كفّي عن تعذيبي أيتها الأعراس ، ولا تثيري في قلبي الشوق إلى حبيبتي ، التي لا أدري أين وكيف أجدها أنا وجميع الذين يبحثون عن حبيباتهم الضائعات .
2 ليس ذنبي يا فريد ويا فلّيص أنني لم أجد حبيبتي ، ولا تظنّا أنني نسيت ما تفقنا وتعاهدنا عليه .. صدقاني ..لن أجلب غيركما للعزف في عرسي، فاستمرا بانتظاري ، ولا تيأسا ، وأنا مازلت أفتش عنها ، وقد ابتعدت كثيرا في أعماق البحر ، حيث لا أثر للشواطئ والجزر ، لكن شراع سفينتي الصغيرة الذي عرفتماه لحظة أقلعت مسافرا ، صار شاحبا ، ووجهي الطفولي يزداد وجوما وكهولة وحزنا ، غزته التجاعيد من أثر التعب ، الذي خلفته الرحلة والزمن في أقاليم الموج . تغير كل شيء يا فريد ويا فليص من حولي ، ووجدت نفسي في حين لا أستطيع التخلص منه ، صرت في دائرة كأنها كابوس رهيب يسحقني ، يخنقني ، ولا مفر لي ، وكلما التفتّ إلى الوراء ، أو نظرت في الأفق .. تقتحمني رغبة في البكاء ..وأذرف الدموع لعلمي أنني سجين حاضري الكريه، الذي لا يتغير . أغرق في مشاعر الندب وألوان النعي القاتمة ، تحضرني صورة تابوت ، تنفجر الجنائز من حولي ، تمتلئ عيناي بالنعوش ، أصوات الثكالى تفتك برأسي الممتلئة بالأجراس والطبول وعويل العجائز ، النعوش سوداء ، الأصوات سوداء ، الشراع أسود ، والعالم أيضا ، وسفينتي الصغيرة تتخبط في بحر أسود . قد تقول لي يا فريد: " أنت شديد التشاؤم". وقد تسألني يا فلّيص مستنكرا:" هل خلت الأرض من الحب؟ " . وأجيبك: لا..لم تخل الأرض ممن يمكن أن تكون حبيبتي أو عروسي ، أنا معكما ، وقولكما صحيح . أما من جهة التشاؤم .. فليس بيدي حيلة ، ولا أستطيع مقاومته. قد تتساءلان وتقولان : لماذا؟ .. نعم .. لماذا؟ لن أنكر قول الحقيقة ، لن أكذب عليكما وأقول: إنني لم ألتق ببنات كثيرات ، بل رأيت والتقيت ولمست الكثيرات . ولكنني أطرح عليكما هذا السؤال: أيمكن أن تكون أية فتاة عروسي؟ وهل الأمر يتعلق بقبولي فقط؟ ولكي تكون الصورة التي سأنقلها لكما صادقة وأمينة ..فسوف أحكي لكما عن بعض ماجرى بيني وبين بعضهن: - لم أعد أذكر اسمها أو رقمها . كانت شابة جميلة . اقتربت منها . قلت لها: إنني أبحث عنك أيتها الأنوثة ، وفرت من أمامي كأرنب مذعور .. ولم ترجع . - قلت لأخرى كما قلت للسابقة . فابتسمت ابتسامة غامضة .. فيها شيء من الإدانة , والتمعت عيناها ببريق ، قرأت فيه الحماقة والدجل ، وشعرت أنني أريد ممارسة لعبة ضدها ، فقلت لها: إنني لست لصا ، ويحق لي أن أطلب منك أن تصيري حبيبتي . لكنها أصرت أن هذا الطلب بحد ذاته هو عملية خداع وسرقة واغتصاب . ولم تكن ترى في نفسها أرضا تحتاج إلى الماء مثلي ، وكانت نظرتها إلى نفسها تقتصر على أنها كنز يسجد له التجار في محاولة لشرائه من مالكيه . بصقت قرفا ، وابتعدت مغتاظا من حقارتها التي تثير الغثيان في النفس ، لأنها بدت فخورة بنظرتها تلك . - أخذني شقيقها بين ذراعي متوددا . كان في جيبي راتبي الذي قبضته توا ، وكان صديقي يعلم بذلك ، وكان يدعي ويوحي لي بأنه متحرر وحضاري ، وكنت قد بحت له بإعجابي بأخته التي تشبهه والتي ألمحت لي بحبها ، وتقربت مني . ذهبنا إلى الشاطئ ، سبحت وإياها ، ثرثرنا ، ولعبنا وتغازلنا ، ضممتها ، عانقتني ، قبلتها ، ثم لاأدري كيف تغيرت فجأة ، مقدمة بعض الأعذار والتبريرات ، وانسحبت من بين يدي ، لتتهامس مع ابن أختها. عادت لتعتذر مني . خرجنا من الماء . ارتدت ثيابها ، وفيما كنت أرتدي ثيابي .. كانت قد اختفت . بحثت عنها ، فوجدتها مع سائحين أجنبيين ومعهما ابن أختها وشقيقتها . استقلا سيارة فخمة ، اندفعت مغادرة المسبح . فتشت جيوب بنطالي ، فلم أجد فيها أثرا للنقود . حينئذ أدركت أن السائحين كانا أدسم مني . ابتسمت بمرارة وأنا أفكر كيف سأمضي ثلاثين يوما دون طعام أو تبغ . - اختليت بها . كانت أليفة وديعة ناعمة ، وحين طوقتها .. والتحمت شفاهنا .. أحسست بأشياء صلبة .. حادة تنغرز في فمي وعنقي وخاصرتي . دفعتها عني بقوة ، وانطلقت من أعماقي صرخة ألم ورعب . بدت عيناها جاحظتان متهدلتان . أنفها مقوس وكبير .. وقد برز خارج فمها نابان طويلان أصفران . وجهها بدا مترهلا وشاحبا .. مزدحما بالتجاعيد ، كوجه عجوز في المائة من العمر . أظافرها تحولت إلى مخالب زرقاء قاسية ومرعبة . - دخلت جسد هذه بصعوبة بالغة ؟. كدت أختنق . كان مليئا بخبث المعادن ، ودخان المصانع . كنت أرتطم في داخله بالآلات الحادة والأجهزة والفحم الحجري الأسود ، والضجيج .. وعصيات السل وغيرها . انتفضت في داخلها كسمكة تحاول الخروج من الشبكة ، ولم أفلح ، وحلمت كثيرا بالإفراج عني من هذا الأسر القبيح .
3 هذه بعض القصص عن عالم لم تدخله أنت يا فريد النوني ، ولا أنت يا فليص ، فلا تعتبا علي إذا ما كنت مضطرا للانتظار يوما أو شهرا أو عاما آخر. لا تعتبا علي لأني لم أستطع بعد أن أجد حبيبتي التي ستعزفان لها ن من ألحانكما العذبة النقية العذراء ، وتذكرا دائما أنني لم أنس ما تعاهدنا عليه يوم كنت صغيرا . آخ يا زعيم قبيلة القرباط ! بيننا الآن مسافات شاسعة ، لكن طبلك وأرغون فليص لم يتركا صحبتي، وما يزالا يلاحقانني كجروين أليفين ، لا يكفّان عن النباح العجيب من حولي . يدخل نباحهما جسدي ، ويستقر في قلبي غصنا أخضر وزهرا وعصافير ، وسفينتي الصغيرة ترتعش على جسد البحر كنقطة سوداء ضئيلة جدا .. ترتعش خائفة بقلق وتشاؤم وحزن شديد .. وشراعها الذي سودته الرحلة صار باليا لا يستطيع المقاومة . أعرف أنكما لا تستطيعان العيش بدون أعراس ، وأنكما لا تكفان عن الرحيل عبر القرى بحثا عن الأعراس . ولكن ما ذنبي؟ مادمت لم أجد عروسي ، ولا عرائس المحرومين مثلي .إنكما تعزفان لأعراس الناس ، وكنتما تحلمان أن تعزفا في عرسي . لكنني الآن أشعر أنني سأفعل كما تفعلان : سأبحث عن أعراس الآخرين .. سألهث وراء أفراح الغير ، وسأعزف لهم ، وأغني أيضا في أعراسهم .. مادمت لم أعثر على السبب الذي يمنعني من العثور على حبيبتي . دعني يا فريد ويا فلّيص أنتسب إليكما . سأشترك معكما في طقوس حياتكما . ضمّاني إلى وحدتكما ، ونحن الثلاث سنؤلف جوقة ، وسنطور ألحاننا وأغانينا وآلاتنا الموسيقية ، وسأحكي لكما عن تجربتي الفنية المريرة ، وسأدور معكما .. سأرتحل وإياكما .. نضرب في الزمان والمكان ، بحثا عن الفرح والحب والشمس .. بحثا عن أعراس الفقراء والمقيمين خلف الحرمان والوجع والعذاب ، سنغنّي لهم ، ونوقظهم ، وسينهضون من قبورهم ، لينضموا إلينا في رحلتنا الطويلة . ستكون الضريبة قاسية .. حمراء.. ولكن لا بأس مادامت من أجل الحبيبة ، التي يفتش عنها كل منا ....
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة - سورة القلق
-
شعر: قصيدة لرياض خليل
-
المزبلة
-
العلمانية وصراع الأديان
-
صفقة وهم : قصة قصيرة
-
قادم من جحيمي : شعر
-
إهداء : شعر
-
مدارات التحول : شعر
-
العصاب الديني/ تتمة
-
الله-الشيطان-العبد : 3+4+5 من 7
-
الله- الشيطان- العبد
-
القرش : قصة قصيرة
-
تشرد :
-
سعدية : قصة قصيرة
-
توازن : قصة قصيرة
-
فاصلة الشاهدة والقبر : شعر
-
رحلة الظل والتراب : شعر
-
طلقة في الهواء : قصة قصيرة
-
جحود : قصة قصيرة
-
حالة شاذة : قصة قصيرة
المزيد.....
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|