أنور مكسيموس
الحوار المتمدن-العدد: 3460 - 2011 / 8 / 18 - 16:16
المحور:
الادب والفن
حضر شاعر الربابة عشية كما طلبت منه سيدة, يرافقه صبي صغير نحيل, يرتدي ثيابه الصعيدية, مثل جده, لكنه حافي القدمين, وملابسه أكثر قذارة من جده. يرتدي الجد عمامة من الشاش, كأنها حلقة فوق رأسه, وبقية الرأس عار!.
طرق الباب وهو لا زال ينادي: يا "حج" همام..."يابو" حجاج...
فتحت له سيدة, ترحب به وتدعوه للدخول, هو والصبي الذي معه, والذي أمسك بجلباب جده وهو يلتصق به خشية أن يدخل بدونه. حضر ومعه ربابته, يحملها الصبي بدلا عنه.
جلس الإثنان معا على المصطبة, وفزعت سيدة في ولدها حجاج: قم أحضر أباك, وقل له يوجد ضيوف بالبيت!...لا تقل له أكثر من ذلك!...
ارتدى الصبي مركوبه القديم على عجل, وهو دهش مما يحدث أمامه!.
وجد الصبي أباه جالسا على الأرض مسترخيا على الأرض الرطبة, يحتسي الشاي الثقيل, بين بقية رجال الناحية, الذين أتوا للحلاقة أو السمر أو عقد الإتفاقات فيما بينهم.
قال له الصبي: أمي تريدك الآن!...يوجد ضيوف!...
إنطلقت من بعض الحاضرين بعض الغمزات والإيحاءات الضاحكة, والتي ردها عليهم همام وهو يقوم على عجل ويفكر لماذا تريده بهذه السرعة؟!. إنطلق وخلفه الصبي وهو غارق في أفكاره, حتي إنه لم يفكر أن يسأل ولده لماذا أرسلته أمه فجأة!...أي ضيوف!...
دخل المنزل وفوجئ بالرجل العجوز والصبي, وقد سبق أن رأهما في غرزة عبد النعيم وهو يضرب على ربابته.
هدأت سيدة من غضبه وهي تضع يدا على ظهره, وتربت بالأخرى على صدره, وتركز بصرها بقوة في عينيه وقالت له: سوف تعرف كل شئ, اصبر, سوف تعرف كل شئ. ثم قدمت له شاعر الربابة وهي تطلب منه الترحيب به, وهمام يزداد دهشة, مما يحدث أمامه.
جلس همام ولم تزل الدهشة والحيرة تدور برأسه. ماذا يدور برأس تلك المرأة؟!.
رحب بالرجل ترحيبا مقتضبا, ثم عاد لسجيته شيئا فشيئا, فأصبح ينظر للرجل من أسفل وهو مطأطئ الرأس, والرجل العجوز "يبربش" بعينيه, وينظر بين الحين والحين الي همام كأنه يلتقط له الصور, دون أن يقدر هذا المكير- أي همام - على إقتناص نظرات ذلك الرجل العجوز الخبير بطبائع أهل تلك البلاد.
أحضرت سيدة الشاي, وأحضرت معه قرقوشة للصبي ليطيل أكله لها, وقطعة من الرغيف الشمسي الطري, للرجل العجوز ورحبت بهما.
بينما الرجل والصبي ياكلان ويشربان الشاي, كانت نظرات همام وسيدة تتلاقيان, وكأنه يريد أن يقول لها أريد أن أعرف الآن؟.
بعد فترة من الصمت وإستطلاع النوايا, إستهلت سيدة فتح باب الحديث موجهة كلامها للرجل العجوز قائلة: أتذكر موالك بالأمس عن الصبية, وحبيبها, وأبيها الذي حبسها؟.
أجابها العجوز وهو لا زال يمضغ لقيماته: نعم, نعم...هل أعجبك؟...أنشد الكثير من المواويل والقصص...هل تريدين أن أنشد لك الآن بعضا منها؟.
ردت سيدة: لا,لا...ليس الآن, وليس هنا...
سأل الرجل متحيرا: أين؟!.
ردت سيدة متسائلة: هل تعرف فيلا المفتش, عبد الرحمن؟...
إزداد الرجل حيرة, وعصر رأسه عصرا, عله يصل إلى ما تريده هذه المرأة من طلبها الغريب.
أجابها: وهل يوجد أحد في كل تلك النواحي من صعيد بلادنا لا يعرف عبد الرحمن بك, أو لا يعرف فيلته؟!... لكن!...ما علاقة عبد الرحمن بك المفتش بالمواويل؟!!...
ردت سيدة: أريدك أن تذهب بالقرب من الفيلا, وتنشد مواويلك, كأنك شاعر غريب جوال, ساقتك أقدامك بالصدفة إلى تلك الناحية!.
هنا وصلت الفكرة بسرعة فائقة الى رأس الرجل العجوز المحنك الماكر, فابتسم, وقال لها, وهو ينظر الي حجاج: هذا هو الفارس, أم أني مخطئ؟!...
لم يعد أمام سيدة بدا من الإعلان عما كتمته عن الجميع, فنظرت بابتسامة الى ولدها حجاج وقالت: أليس فارسا, وزين ويستحق بنت السلطان؟.
رد الرجل العجوز بمكر ونفاق: صح والله فارس وزين وعال وابن أصول.
ثم أكمل بعد فترة توقف قصيرة: والصبية أكيد فرسة ومحبوسة, فى إنتظار فارسها...
رأى العجوز أن المكافأة سوف تكون كبيرة, فاليزيد من نفاقه فقال وهو يبربش بعينيه نحو سيدة التي تنظر الي تمثالها في شرود: والله لو حصل هذا, لتبقى قصة وموال ينشدها الصعيد كله. والله ولد زين وعفي وفارس. إن شاء الله تكون من نصيبك يا ولدي...إن شاء الله!.
إنتفخت أوداج الصبي, من الزهو. فهذا الجمع الذي حوله يهنئه بحصوله على سوسن بنت البك المفتش, وكأن كل شئ قد تم, وهو الآن عريس بين مهنئيه. وخصوصا أن الرجل العجوز, تحدث كثيرا عن مصادفات القدر, وحدوث مثل تلك الأمور كثيرا, ولم ينس الرجل أن يمدح حجاج أمامها, ويصفه بصفات أبطال قصصه, حتى خدرها هذا الكلام وهذا الحديث لاقصى قدر ممكن.
عرف الآن همام ما تريد فعله زوجته, وذهل من قدرتها على التفكير وتدبير الأمور, وإستغلال المواقف لأقصى مداها.
في تلك الأثناء, طرقت زهية الباب, ودفعته, ودخلت وهي تصيح وتشتم سيدة بدلالها المعهود,. لكنها فوجئت بوجود همام ورجل الربابة, فسلمت عليهما, ولم تعنتي بالصبي.
كتمت سيدة غيظها وحنقها من حضور زهية, لكنها كالعادة إستوعبت الموقف, ورأت أن وجودها, وثرثرتها ونميمتها قد تكون مفيدة في مثل تلك المواضيع. سوف تجند كل شئ وتفعل أي شئ لتحقيق أهدافها.
أمسكت سيدة بيد زهية وسحبتها الى حيث يوجد الكانون, لتعمل شايا مرة أخرى واختصرت وهي تقول لزهية: أصل بنت المفتش سوسن, تحب حجاج موت, وتشاغله, وكثيرا ما نصحت الولد بالإبتعاد عنها. لكنها لم تتركه, وبدأ الولد يميل إليها ويحبها, لكن الملعون أبوها لن يوافق...
قاطعتها زهية متسائلة: وما دخل شاعر الربابة بذلك؟.
تلعثمت سيدة وهي لا تدري ما تقول لتلك المرأة اللحوحة, وكلتاهما كتاب مقروء أمام الأخرى: دخل شاعر الربابة؟...ماذا تعنين بدخل شاعر الربابة؟...سوف يقول موال لتبتعد به البنت عن الولد, إنها بنت مدن ولا تعرف أصول بلدتنا, فالتبتعد عن حجاج...
نظرت سيدة الى زهية, لترى مدى قناعتها بما قالته لها. لكن زهية غابت عنها لبرهة, تسترجع قصة الموال, وكيف شردت سيدة, وهي تتابع شاعر الربابة بإهتمام, فابتسمت, وأمسكت بذراع سيدة وقد لمعت عينيها لاكتشافها ما حاولت أن تخفيه عنها, وقالت مستفسرة: الفارس وبنت السلطان؟!.
لكزتها سيدة في دلال, وهي تسترجع ذراعها من بين مخالبها, وتبتسم وتقول: يمكن؟!...
أصاخت المرأتان السمع, حيث توارد الى أذانهن صوت كلاب كثيرة تنبح وتعوي دون إنقطاع, وبعضها يصرخ بشدة حتى بدأت الأصوات تقترب أكثر فأكثر, ويصبح النباح والعوي كانه داخل البيت...
ما هي إلا لحظات, وبدأ طرق غليظ على باب بيت همام, وصوت أشد غلظة يأمر: إفتح يا واد يا همام!.
كان ذلك صوت هلال الديب - خليفة عبد الرسول وكان قبل زعامته للمطاريد ينادونه عبد الرسول الصغير - كبير المطاريد في تلك النواحي, والذي إنزاح الباب تحت طرقات قبضته, فدفعه ودخل وخلفه رهطا من رجاله, وكان معه هذه المرة, نصر الفرجاني وسعيد الطوخي, ضمن رجاله الثمانية الذين دلفوا الى داخل بيت همام!.
نصر وسعيد, هذان الشقيان, أتوا هاربين من وجه بحري, أي صعيد مصر السفلي, يقصدون الإختباء من ثأر وأحكام بالإعدام, لأفعالهم الدموية البشعة.
هلعت زهية لمجرد معرفة الطارقين, وهلع أكثر شاعر الربابة, فوقف وجلا مذعورا, يمد يده ليسلم عليه هلال ورجاله. أراد الإنصراف, وهو وصغيره الذي تعلق به, لكن هلال الديب أمره بالجلوس وعدم فتح فمه.
سأل هلال, همام الذي وقف غير هياب وضيق النفس, لهذه الزيارات الغير متوقعة: هل عندك ضيوف؟!.
رد همام: هذا رجل غلبان, شاعر ربابة, وبالداخل جارتنا زهية...
وماذا يفعل شاعر الربابة هذا؟!...أتقيم فرحا, أم ليلة أم ماذا؟!...
رد همام: سوف أحكي لك...إجلس!...إجلسوا يا رجال!.
أرادت زهية الإنسياب والفرار في هدوء, لكن سيدة أمسكتها قائلة: أين تذهبين؟...ليس الآن حتى لا يشك فيك...ثم إنك يجب أن تساعديني...إجلسي!.
لم ترى سيدة بدا من الجلوس, رغما عنها, حتى يأذن الله لها بالرحيل آمنة, من ذلك الموقف العصيب...
لقد أضاف نصر وسعيد وغيرهم, ممن أتوا من شمال مصر, والتحقوا بمجموعة هلال, الكثير من الرعب والفزع في نفوس أهالي تلك البلاد, بعد أن شاع عنهم القتل بوحشية ودموية لم يسبق لها مثيل. وخصوصا عدم هيبتهم من الشرطة, وغيرها, والإستعداد الدائم لقتلهم بوحشية إن أتيحت لهم الظروف.
خرجت سيدة من مكمنها, لتبلغ شاعر الربابة ليبقى ويتعشى معهم. لم تنسى أن تحي هلال بود شديد, لم يعهده أحد منها من قبل, ثم عادت الى مكمنها مرة أخرى. أمسكت ببعض الديوك المسنة والفروج, وذكر بط إشترته حديثا, لتذبحهم مع زهية, لإعداد العشاء لضيوفها الكرام هذه المرة.
كانت سيدة تفكر بسرعة وتركيز, ورأت أنه من الأفضل أن تستعين في مخططها, بسمعة مجموعة هلال الديب وشهرتهم...
إنسلت خارجة, تاركة زهية تعمل في همة حتى تنتهي من مهمتها الصعبة, وبرفق طلبت سيدة من هلال أن تكلمه في كلمتين في موضوع؟!.
إنصاع لها هلال, وجلست في ركن بعيد لكن مكشوف للجميع, وأجلست هلال, وأسرت اليه بما تريد قوله, دون أن يعرف أو يعلم أحد بما أسرت وما قالت. لكن الحضور لاحظوا عبد الرسول وهو يهز رأسه بالموافقه على ما تقول, ثم عاد الى مجلسه بين الحضور!.
كان إعداد العشاء يتم على قدم وساق, وقد ساعدهن حجاج في ذلك. لم تنسى زهية نفسها, بأن تلقم كبدة الطير, أو جناح ديك أو رأسه, فهي تعلم أنها سوف يسمح لها بالعودة إلى منزلها, بمجرد أن يتم الإنتهاء من تجهيز العشاء.
في تلك الأثناء, كان مأمور المركز, قد إشتم خبرا, بنزول عصابة هلال الديب إلى البلدة, فجمع فورا, قوات المركز, والخيالة, وإنحدروا أول البلدة, ليحاصروا كل من فيها.
تجمع حولهم, بعض صبية البلدة, وكان من بينهم إبن عبد الكريم, نازح المخلفات الأدمية, من المراحيض البدائية لأهل البلدة.
خطرت للصبي فكرة!. لماذا لا يقوم بعمل بطولي, ويخدع هؤلاء, الذين سوف يثقون في صباه, ولن يداخل الشك أحدهم. كانت فكرة وذكاء فطري, فهم يسمعون بين الحين والحين القصص, ويسمعون أيضا ان الشرطة لم يسبق لها أن قبضت على صبي أو إمرأة من أهالي تلك البلاد.
إنبرى الصبي, من بين أقرانه, وسأل ضابط الخيالة: هل تبحثون عن هلال الديب ورجاله؟.
نظر إليه الضابط بغرابة ودهشة, لشجاعته وجرأته, كما نظر اليه بقية أقرانه بخوف ورعب, لوجودهم مع هذاالمعتوه, والمجنون, وجفلوا, ولم يفتح أحد فمه. كما نظر إليه غفر المركز من البلدة بغيظ ورعب, لما يمكن أن يسفر عنه من كشف مستورهم. نهرهم بعضهم وأراد أن يضربه متعللا بالتجرؤ على الضابط والحديث معه. لكن الضابط نهرهم, ولما لم يجدوا بدا من السكوت صمتوا حانقين.
سأله الضابط: هل تعرفه؟.
رد الصبي: معه رجال كثيرون مسلحون, وقد إندسوا داخل زراعات القصب هذه, قبلي البلد؟!.
تردد الضابط أول الأمر, لكنه لم يشك أن صبي نحو العاشرة من عمره- ربما كان أكبر سنا, مما يوحي به بنيانه الضئيل, من ذلك بقليل - يمكن أن يكذب, كما فكر أيضا أنه ربما أحد رجال البلدة أنذره بقدوم الشرطة فهرب مع رجاله الى زراعات القصب, خاصة أراضي باشا باشوات هذه البلاد, وأحد أعمدة الإقتصاد المصري.
سأله الضابط وهو ينظر الى بقية أقرانه: متى رأيتموهم؟.
رد الصبي: قبل أن تأتوا بقليل!.
تنفس الصبية حوله الصعداء, وعجبوا من جرأة إبن بلدتهم, فصدقوا على قوله, وتشجعوا وقالوا ما قاله فرادى وجماعات. أحست الصبية بأن الحديث مع الضباط والشرطة ليس شيئا يخيفهم, بل هو شيئ عادي, وانهالوا عليه بتفاصيل كاذبة.
تحدث الضابط الى مأمور المركز, فيما يخص إقتحام أراضي الباشا.
أمر المأمور الجميع بسرعة التحرك قبلي البلدة, فتحرك الجميع, الخيالة والجنود, والغفر, وثلاثة عربات جيب, نحو زراعات القصب!.
إنتظر الصبي حتى تحركت القوات, وسار بطيئا نحو الدرب, ثم أطلق ساقيه للريح, حتى لا يسلبه أحد الصبية الأخرين نجاحه, كما يحدث في غالب الأوقات في تلك البلاد.
كانت في يده عصا رفيعة, يهش بها كلاب الدرب التي أسرعت وراءه بالنباح,لكن نحافته وقدميه الحافيتين, كانتا سببا في وصوله بسرعة إلى بيت همام. ايضا كانت نحافته أحد أسباب تقدير الضابط له بأن عمره لا يزيد عن العاشرة, والأطفال في هذه السن لا يقدرون على الكذب, وليس لهم براعة الكبار في إخفاء الحقائق!.
في ذلك الوقت, كان بعض رجال هلال الديب, الذين لم يدخلوا معه بيت همام قد وزعوا أنفسهم, على يمين ويسار الدرب, وكان نصر الفرجاني على بيت همام.
أحس الجميع من نباح الكلاب وجريها خلف الصبي, الذي فوجئوا به يندفع نحو بيت همام, بأن هناك خطر ما يتهددهم, فاستعدوا لما هو أسوأ, وهو هبوط الجنود المسلحين من خارج المديرية عليهم؟!.
كانت مشاعر الصبي المتضاربة, وخيالاته عن أعماله البطوليه, والكلاب التي تسعى خلفه بكل شراستها, قد ملأت عليه عقله وهو يلهث بعنف, قد ألهته بشدة عن جموع الرجال المختفين في ظلمة الدرب.
وما أن إقترب من الباب إلا وقد أحس بيد غليظة تطبق على عنقه من الخلف. ملؤه رعب لم يحسه طوال حياته, وخصوصا عندما نظر في وجه الفرجاني, وهربت منه الكلمات , إلا كلمات التوسل والإستعطاف, وأنه يريد مقابلة, سيده هلال الديب.
إنزعج هلال, عندما دخل عليه الفرجاني متوترا, وفي يده رقبة الصبي, وهو يقول: يبدوا أن هناك إخبارية, وهذا الصبي لم يقل شيئا سوى أنه يريد رؤيتك. ثم أخرج من جيب صديريته سكينا قصيرة ذات نصل حاد, ووضعها على رقبة الصبي!.
ساد الرعب جميع من في المنزل, ودقت المرأتين على صدرهن, حزنا على ما سيلحق الصبي, وأهل البيت وكل الموجودين؟.
بال الرجل العجوز, شاعر الربابة على نفسه, وبجواره حفيده, الذي أخفى وجهه, في حجر جده. لم ينطق همام بكلمة, وظل مشدوها لما يحدث أمامه.
قال هلال الديب وعينه تنطق بالشر:
أين جنود المركز يا ولد؟...دعه الآن يا فرجاني!.
سقط الصبي تحت قدمي هلال, وهو يبكي ويتوسل ويقول: لقد جعلتهم يتجهون نحو قبلي البلد, داخل زراعات قصب الباشا...
إستوعب هلال أقوال الصبي بصعوبة بالغة, فكان رأسه يفكر بمن يكون قد خانه, وكيف سيتعامل مع جنود المركز, وكيف سيهرب...
سأله هلال ونصف عقله يدور في أمور شتى: قبلي البلد؟...زراعات قصب الباشا؟...
قال الصبي وهو يبكي: نعم, لقد خدعتهم وجعلتهم يذهبون قبلي البلد...هم الآن بعيدون عن البلد...
هدأ هلال قليلا, وطلب من رجاله أن يكونوا على أهبة الإستعداد للرحيل, وطلب من الصبي أن يحكي له ما حدث تفصيلا وهو ينهره كي ينتقل إلى نقطة أخرى حتى يستطيع تقييم ما حدث سريعا, والصبي يحكي له وهو متقطع الأنفاس, ويملؤه والرعب!.
بدأت الأمور تهدأ أكثر, ويخف توتر جميع, من في المنزل, ومعهم رجال هلال الديب.
عاد هلال يستمع إلى الصبي, في هدوء, وتركيز أكثر, وهويشجعه على الحديث والإطمئنان, معيدا أسئلته وإستفساراته.
اخيرا طالب هلال, رجاله بالهدوء, والحذر الشديد حتى يرى ما يفعل!.
سألهم: ماذا ترون؟...هل من الأمان الخروج الآن, قبل أن يعودوا, وربما يعرفون أننا مازلنا بالبلدة وأننا موجودون هنا...أم ترون أن نبقى, فلو خرجنا, فربما عرفوا, كما عرفوا منذ قليل...ماذا ترون؟...
أيد بعضهم الخروج السريع, والإختفاء, لكن الفرجاني رأى أنه من الأفضل البقاء, حتى ييأسوا ويعود الجنود إلى مراكزهم, ثم يبدأون الرحيل.
أكد الفرجاني على رأيه, بأنهم كثيرا ما نزلوا البلدة- يقصد مجموعة هلال- وخصوصا بيت همام, ولم يحدث أن وشا بهم أحد من البلدة, وخصوصا بعد عملياتهم الأخيرة, والتي إتصفت بالوحشية والدموية, والتي علم بها كل قاصي وداني.
أضاف الفرجاني: جميع أهل البلدة, يعرفون أن لنا عيون داخل المركز نفسه, وكل مكان في هذه الأنحاء. ثم أضاف: والجميع يعرف ما يصير إليه مصيره ومصير أهله إن جرؤ أحدهم ووشى بنا...لا تخشى شيئا!...سوف ننسحب قبيل الفجر لكن!...علينا أن نكون حذرين أشد الحذر.
أستسلم هلال لهذا الرأي, وبدأ يشرح لهم خطة الهرب, عبر أسطح المنازل, قي حالة إذا ما عاد رجال الشرطة للبحث عنهم مجددا.
أثنى هلال على الصبي أشد الثناء, وإستبقاه بجانبه, ثم أخرج من جيبه نصف قرش من النحاس الأحمر, وأعطاه للصبي وهو يقول: أريدك أن تذهب قبلي البلد, على البحر, وتراقب عودة الجنود, فإذا ما رأيتهم, تعود وتأتي فورا لتخبرني. إذهب أولا إلى بيتك, وقل لهم سيدي هلال أمر بذلك. إذهب الآن!.
إنطلق الصبي في همة, وهو يشعر بالفخر لهذه المسؤلية التي أوكلها له هلال, كبير مطاريد الجبل في تلك الناحية.
جاء دور زهية للرحيل, فوقف الفرجاني, عندما نظر إليه هلال, يحمل سكينه, ظاهرة في يديه, كأنه ينتظر الأوامر!.
ألقت زهية السلام, وهي في طريقها نحو باب الخروج, مغطية رأسها وجسدها ببردتها القديمة الكالحة.
إستوقفها هلال آمرا إياها: بنت يا زهية!.
ردت سيدة وقد تلبسها الرعب: نعم يا سيد الناس.
قال لها هلال: أوعي لي جيدا...حذار أن تتكلمي أو تفتحي فمك أمام أي أحد, حتى ولو زوجك الذي يعرف أننا هنا...تعرفين ما يحدث...
أجابت في خوف وإرتباك: أعلم يا سيد الناس أعلم...ينقطع لساني ولا أوعى أتكلم, إن علم أحد بشئ...
قال هلال وقد سره ما يرى: تنقطع رقبتك ورقبة أهلك...هل ترين ذلك الواقف أمامك...إنه لا يرحم!...لا أريد أنم أكون مضطرا لذلك...هل فهمت؟...إغربي الآن من امام وجهي!.
هرولت سيدة نحو اباب, وقبل أن تفتحه, نادى عليها هلال مرة أخرى: بنت يا زهية!.
إلتفتت نحوه وهى تنتفض: نعم يا سيد الناس!...
- قولي لزوجك, أن يخرج الى البحر, على رأس البلدة قبلي, ويراقب لنا الأحوال, وإذا رأى شيئا غير عاديا, عليه أن يسرع بإخباري...
- حاضر يا سيد الناس!...حاضر!...
- حذار أن يرفض!...
- وهل يرفض أو يعصي أحد, لك أمر في كل هذه النواحي...خدامينك يا سيد الناس!.
- إذهبي الآن!...لا تخافي...هيا!.
إنطلقت زهية خارج البيت, حتى إذا ما أغلقت, خلفها الباب في هدوء وتؤدة, أحست بالراحة والأمان,
وإنطلقت إلى بيتها.
كان هلال يعرف أن الرعب والخوف, ينتقل بين أهالي تلك النواحي, كانتقال النار في الهشيم, وهو يورث أيضا, ويصبح عرفا وقاعدة. فزوج زهية سوف يرتعب عندما تحكي له عن الخوف والرعب, الذي أحست به طوال تلك اللحظات العصيبة, كأنه عايشها بنفسه.
كان شاعر الربابة, ذلك العجوز الذكي يعلم أنه لا قيام له, إلا عندما يسمح له هلال بذلك, فظل يدعو له بالستر والتوفيق, بصوت مسموع, ويقصد أن يسمعه هلال.
ظل يدعو له الله, كي يحميه من شر أولاد الحرام وأصحاب الأذى, والحكومة الظالمة...
قامت سيدة ومعها حجاج, بوضع طعام العشاء, للجالسين في المنزل, ثم قامت بوضع عشاء كل من هو بخارج المنزل, بحسب أمر هلال, وأرسلت به حجاج, ليأكل الجميع في وقت واحد.
جلس الجميع بعد العشاء, يشربون الشاي, ويدخنون, وكلما فرغوا من الشاي طلبوا غيره, شايا ثقيلا, وسكرا خفيفا, حتى يظلوا على يقظتهم ووعيهم.
كان لا يفوتهم, كل مرة, إخراج الشاي الى الجالسين, الموزعين بحسب أماكنهم بالدرب.
لم يشأ هلال حتى تلك اللحظة, أن يرسل رجاله إلى أي نفر من هؤلاء, الذين تعود أن ياخذ منهم الأتاوة, ولم يكن من بينهم بالطبع العمد, أو شيوخ النواحي, أو كبار رجال البلدة من الأفنديات أو الخواجات!.
شذ عن هذه القاعدة, إثنين, هما المقدسان رمزي وصابر من قريتين مختلفتين, بحري مدينة الأقصر.
راى هلال أن يرسل نصر الفرجاني, أو سعيد الطوخي مع همام, الى بعض دافعي الأتاوات, حتى يستفيد قدر ما يستطيع من رحلته هذه.
ونصر الفرجاني وسعيد الطوخي, بالرغم من قسوتهم ودمويتهم, إلا أنهم يستطيعون تلوين وجوههم بالمسكنة والدعة, في المواقف التي تستدعي ذلك, حتى إن من ينظر إليهم في لحظاتهم هذه, لا يتطرق اليه أي شك في مسكنتهم ودعتهم لدرجة العبط!.
كما أن الإثنين من بحري, ولا يعرفهم إلا القليل من أهل تلك البلاد, معرفة فعلية, ويصفونهم بالبحاروة.
إستقر رأي هلال, على إرسال الإثنين معا.
وأول مشوارهما, هما المقدسان, رمزي وصابر. لم يكن هلال يضعهم في حسبانه, أو في خطة الأتاوة والسلب والنهب...
لكن الذي حدث, هو أن المقدس صابر أراد أن تكون له شئ من السطوة والهيبة, عندما يحتاجها. فعندما رأى همام ذات يوم وهو يسير ناداه: يا(أبو حجاج)...
إلتفت نحوه همام وعرج ناحيته وهو يقول:
-خير يا مقدس صابر!...
أريدك أن تأخذ بعض الأشياء إلى عم هلال الديب!...
إنزعج همام وهو يسمع الإسم وسأله:
-هلال من؟!...
خشى المقدس صابر أن يفهمه همام خطأ, فبادر يقول:
-لا تخشى شيئا!...هل يستطيع أحد معاداة هلال, أو يشي به...ناديتك للأنني أعلم معزتك عند هلال الديب...قل له هذه هدية بسيطة من المقدس صابر...
تردد همام أول الأمر, لكنه لم يجد بدا من تهديد المقدس صابر, وعاقبة من يخون هؤلاء البشر, أو يشي بهم...
قال له المقدس صابر, في نفاق واضح لا يخفى على أحد, فما بالك بهمام الزرايبي: أنت تعلم أننا كلنا إخوة, وأبناء بلدة واحدة...وهلال الديب أخ لنا...
قام المقدس صابر, بلف لفة كبيرة من الدخان والمعسل, والفحم, والعسل والجلاب, وبلاص ملوحة صغير.
لم ينسى المقدس صابر أن يعطي همام بعض المعسل, مكافأة له على توصيل هذه الهدية لهلال الديب. وظن أيضا أن هذه مرة وإنتهى أمرها.
لكنه! فوجئ بهمام يعوده فيما بعد قائلا ومكبرا من قدر من يتحدث عنه, بنفاق واضح: سيد الناس هلال الديب, يشكرك ويقول لك زد قليلا هذه المرة من الدخان والمعسل!...
كانت مفاجأة للمقدس صابر. لم يكن يعلم أنه فتح بابا لن يستطيع غلقه ما بقى له من عمر. تضايق, لكنه حاول أن يخفي ضيقه, وهويحضر لهمام ما طلبه, لكن ذلك لم يخفى عن عيني همام, والذي ينقل كل شئ, بتفاصيله هلال الديب...
قال هلال الديب لهمام ذات مرة: اطلب منه ما أقول لك, وسوف يعطيك والحذاء فوق رقبته!...
وزيادة على ذلك, أرسل له الفرجاني والطوخي بوجهيهما الحقيقيان!.
ما فعله المقدس صابر, فعله المقدس رمزي!.
فقد كان رمزي على خلاف مع بعض أقاربه, على توزيع ملكيات صغيرة, وأراد أن تكون له السطوة والنفوذ, عندما يعلم الجميع, أن هلال الديب معرفته وظهيره. ولم يعد يبالي فيما بعد بما يطلبه هلال من طلبات.
لكن لقطاع الطرق في هذه البلاد حسابات أخرى.
فالذي حدث أن المقدس رمزي, اختلف مع عبد الكريم, صاحب محل صغير يعتبر شقا في جحر.
قام عبد الكريم بإرسال عددا من زلع الملوحة, التى تم كبسها في الدميرة للمقدس رمزي.
ورأى المقدس رمزي أن أثمانها عالية, فقرر أن يعطيه ما يراه مناسبا من سعر, لكمية الملوحة التي أرسلها له, معتمدا على صلته بهلال الديب!.
هنا خاب ظنه, لأن عبد الكريم كان من دافعي الأتاوة, وإن كان أقل من المقدس رمزي, إلا أن هلال الديب لن يعادي عبد الكريم من أجل المقدس!...
تطورت الأمور بشدة بين المقدس رمزي وعبد الكريم, وحاول هلال الديب رأب الصدع بينهما, إلا أن كل منهما ركب رأسه. ظن المقدس رمزي أن علاقته وطيدة بهلال الديب, وتعطيه الحق في الإحتداد على رجاله نصر الفرجاني وسعيد الطوخي الشهيرين, والذين حملا إليه ما حدث, فنظر إليهما وصمت, وعلما أنها إشارة الضوء الأخضر. ألا يدين المقدس رمزي بنفس ديانة الإنجليز الذين يحتلون البلد, ويستحقون الموت مثلهم؟!.
قام الفرجاني والطوخي بقتل المقدس رمزي, في المرة التي تلت تلك الزيارة, وأثار موته ضجةغير عادية, لكنها!...إنتهت, واستمرت الأتاوة على إبنه من بعده!. لقد كره كل خواجات ومقدسين البلدة كما كانوا يدعونهم أهل تلك البلاد, كل من صابر ورمزي, لأن تعاملهما مع قطاع الطرق خفف من حدة الهيبة من الخواجات, ولم يعودوا بعد, بعيدين عن فكر هلال الديب وغيره من هؤلاء الخارجين على القانون, ولم يحاول أحدهم التقدم أو التضحية, لإستعادة الوضع المفقود؟!.
كان حجاج قد إستسلم لنوم عميق, فوق المصطبة, بينما نامت سيدة وهي جالسة عندما أتى رجال هلال الديب حاملين غنائمهم, لينسحب الجميع, قبيل الفجر تحت جنح الظلام, فوق أسطح المنازل, وقد أحس بهم جميع أهل الدرب دون أن يقوموا من أماكنهم. لم هلال الديب ينس أن ينفح همام عشرة قروش, وهو ينسحب خارج البلدة!.
#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟