|
في بغداد شوارعٌ ومقاهٍ يرتادها الأدباء
جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 3448 - 2011 / 8 / 5 - 15:15
المحور:
الادب والفن
في بغداد؛ شوارعٌ ومقاهٍ يرتادها الأدباء
قالت زوجتي بصوت هادر لم اعتد عليه: اخرج قليلا . ربما ترى أصدقاءك القدامى لم اجبها ،رغم أن اقتراحها حبّب في نفسي الخروج من غرفتي الموحشة إلا من الكتب ونثار القرطاسية والحاسوب المنزوي قمت بإدامة سيارتي التي تركتها نهبا للغبار ، فحصتها سريعا اتجهت صوب ساحة الشهداء لأركنها قريبا من سفح دجلة وأترجل عابرا جسر الشهداء باتجاه سوق السراي ثم شارع المتنبي في ساحة الشهداء رأيت أكواما من الباعة المتجولين يبيعون السمك كريه الرائحة وقد اصطفت عوارض إسمنتية اتكأ عليها جنود متعبون ومزابل هنا وهناك كدت اتقيا لولا إنني أسرعت نحو الجسر لأشم نسيم دجلة واستعيد عافية أنفاسي. في سوق السراي رأيت أكوام القرطاسية تملأ الدكاكين وممرات المشاة وبالكاد كنت أمشي داخل السوق تذكرت قصيدة السيّاب :
الليل والسوق القديم سكنت به الأفواه إلا همهمات العابرين وخطى الغريب وما تبثّ الريح من نغمٍ حزين
انعطفت يمينا نحو شارع المتنبي كان باعة الكتب يفترشون الأرصفة باكتظاظ واضح وكثيرا ما تدور معارك شرسة حول أحقية المكان وبعض الباعة يتمددون اكثرفاكثر لإشغال مساحة اكبر على حساب زملائهم في المهنة ..ترى الكتب الصفر وما يسمى "الستوك" إلى جانب الكتب النادرة الثمينة وأنا أطيل النظر في البنايات المحيطة بالشارع..ارتحت لما رأيت جهد أمانة العاصمة تضفي على الأبنية لمسات تراثية بمزيد من العناية والاهتمام بعد التفجير المرعب الذي طال الشارع وأزهق الكثير من الأرواح حتى أن مالك مقهى الشابندرسمى مقهاه" مقهى الشهداء" تخليدا لأولاده الذين استشهدوا في الحادث الإجرامي دخلت المقهى ولم أعثر على كرسي واحد بسبب الزحام الشديد والأنفاس الخانقة فخرجت مسرعا دون أن أتفحص الوجوه ما أن أنهيت السعي في الشارع حتى درت يسارا باتجاه مقهى البرلمان..يا إلهي ماذا أرى هذا مطعم مكان المقهى التي اعتدنا الجلوس فيها قلت في نفسي لأدخل وما أن خطوت نحو المطعم حتى انبعثت زناخة أثقلت أنفاسي من رائحة القلي والأدخنة الفاسدة هرولت مسرعا إلى مقهى حسن العجمي لأستريح قليلا تطلعت في الزبائن بعيون متفحصة فلم أجد ضالتي أو احد معارفي وقد لفت نظري رجل يثير الريبة كان يحدق بي دون أن يتكلم بعد قليل جاء فتىً وسيم وأخذ يتهامس مع الرجل توجست خيفة ولكني وقفت لأرى وأستشف ما يدور في مخيلتي من خلال المشهد الذي أمامي وأخذت أراقب الموقف عن كثب بعد أن بعدت قليلا أحسست أن مساومة مريبة بين رجال مثليــين لأهداف جنـسية من خلال المداعـبة بالجسد والربت على قفا الفتى (كل هذا حصل أمامي داخل مقهى حسن العجمي ) أطــللتُ برأسي على مقهى الزهاوي ،لم أجد أحدا ممّن يهتمّ بالكتابة ،رأيت حشدا من المتقاعدين الهرمين يلعبـون النـرد والدومينو ويبدو لي أن هذه المقهى قد هجرها روّادها الشعراء ورجال الصحافة منذ أمد طويل آلمني هذا الذي رأيت وعدت أتمشى في شارع الرشيد كانت البنايات العتيقة مهملة جدا ومعظمها آيل للسـقوط والعربات الجوالة تتراكض نحو الشارع هذا يصطدم بذاك والمارة يتشرذمون في نهر الشارع والرصيف المعبأ بالباعة دون أدنى تنسيق أو مراعاة للذوق العام وحقوق السابلة كنت في شبابي أتردد كثيرا على مكتبة ماكنزي.قلت في نفسي ما الضير من زيارتها مشيت رغم التعب الذي صاحبـني صعدت السلّم فإذا بي أرى مخازن لخرق وملابس مستعملة سألت الحارس الواقف أمام الباب عن حال المكتبة فهزّ رأسه غير مبالٍ بسؤالي ودون أن اشعر سالت قطرات من الدمع من عينيّ. على طول شارع الرشيد كنـت أرى الكثير من السلع الرديئة المستوردة وما نسميها بالنفايات قد ملأت الأرصفة ووسط الشارع .ورغم منع مرور السيارات من السير بدءا من ساحة الشاعر الرصافي وحتى ساحة حافظ القاضي لكنـني أجد صعوبة بالغة في المشي بين العربات المحملة بالبضائع وزخم المارّة كنت في الصبا أتردد على السينما كثيرا وبالذات سينما علاء الدين لأنها تعرض أفلاما راقية وزوارها من النخبة المثقفة وقد هدمت الآن وأصبحت دكاكيـن مليئة بخرق البالات أما سيـنما الوطني والشعب وروكسي فقد تركت مغلقة حتى إن أقفالها قد علاها الصدأ بفعل تراكم السنين في نهاية شارع الرشيد تقبع تسجيلات جقماقجي رأيتها مغلقة هي أيضا ومن خلال الزجاج المترب أبصرت بعينيّ ؛ما زالت هناك بعـض الاسـطوانات مرمية في الأركان وفي وسطها جهاز الساكسفون المحـنط على الرّف المكـفّن بالغبار أيقنت تماما أن هذا الإهمال كان مقصودا لان الكثـير من محال بيـع الأشرطة الغنائية وتجـارة الموسيـقى قد تعـرضت للتخريب والهدم بواسطة العبوات الناسفة أنهيت مساري في شارع الرشيد متجها إلى مدخل شارع أبي نؤاس ، تماما وبالقرب من مرسى الزوارق ؛ كانت هناك كازينو يرتادها بعض الكتّب والشعراء بعد الغروب ..ما زلت أتذكر القاص موسى كريدي يختار كرسيه الوثير ويغرق فيه بسبب قصر قامته ويكون أول من يرتادها من شلة الأدباء ثم يليه الشاعر سامي مهدي عابرا جسر الجمهورية مشيا وينزل سُلّم الجسر المقابل لثانوية العقيدة للبنات ويختار مقعده جوار القاص موسى كريدي ..بعد اقل من ساعة يلتئم حشد الأدباء وتبدأ حلقة الأدب تتخللها حوارات أدبية جادة وهازلة في بعض الأحيان مصحوبة بثرثرات ومزاح يمتدّ لمنتصف الليل ...قلـت في نفسي لأدخل الكازينو وما أن وطــئت قدماي المدرج النازل إليــها حتى صاح بي احدهم تلفتت فإذا هو شرطي ينهرني قائلا : ممنوع ممنوع أدركت أخيرا أن المكان قد احتل ليكون مقرا لمجموعة من منتسبي وزارة الداخلية بهدف حماية مدخل أبي نواس كما قال لي الشرطي على امتــداد شارع أبي نواس الطويل كانت تقــبع الكثير من الحانات والمقاصف ،وقد هجرها أصحابها وروّادها ومنهم الكثير من الأدباء ، أما مطاعم السمك المطلة على سفح دجلة وبعض المقاهي والكازينوهات فقد أصبحت معظمها أوكارا للبغاء وقد شاهدت بأم عيني مجموعات من المثْليين يتواجدون بأعداد ليست بالقليلة في هذه المطاعم التي أصبحت نواديا ليلية ، إضافــة إلى تواجد الكثير من الشباب الباحث عن المخدرات وحبــوب"الكبسلة" كما يسمونها والتي تبــاع في هذا الشارع بصورة شبه علنية والغريب إن كل هذا يحصل أمام مرأى ومسمع الشرطة ورجال الأمن الذين يحرسون الشارع بكثافة ملحوظة إضافة إلى مرور الكثــير من رجال السياسة والمسؤولين في الدولة في الشارع نفسه نظرا لتواجد الفنادق الراقية ومقرات الأحزاب أسفت حقا على الوضع المزري الذي أصاب أبا نؤاس وشارعه الذي كان متنفسا للعراقيين والزوار الأجانب وواحة يلجأ إليها الناس للراحة والاستجمام خاصة أيام العطل والأعياد لُمتُ نفسي على هذه الجولة المفسدة وقلت في سريرتي: الزم بيتك أيها الرجل وإياك أن تحدثك نفسك على الخروج لم تعد الأمكنة الجميلة بذاك البهاء إلاّ في خيالاتنا الجانحة .
جواد كاظم غلوم /بغداد
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ترنيمةٌ إلى حفيدتي
-
معايشةٌ لحالاتٍ همجية
-
تأبين
-
عاشوراء المطرِ الأخضر
-
ثلاثُ قصائد
-
حبيبتي والمنفى
-
حمامتي والطيورُ السود
-
متاهة
-
ما انت..أيها النابت فينا !!؟
-
مَن تُرانا نكون
-
اشتقْتُ لغيابِك
-
مرثيةٌ لبطلٍ لم يمتْ
-
ما يكتبه الطغاة
-
بغاثُ الطيور
-
ما تيسّرَ من سوَ رِ الاحزان
-
الحريرُ والتراب
-
الشيخُ والهجْر
-
حنينٌ ليومٍ ما
-
الآتون في الوقت الضائع
-
مرثيةٌ لوطني المحزون
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|