خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال
(Khaled Juma)
الحوار المتمدن-العدد: 3439 - 2011 / 7 / 27 - 19:17
المحور:
الادب والفن
من هنا بدأت الحياةُ، من ساحلٍ أزرقٍ يطلُّ على جدي المتأنِّقِ دائماً، فيما هو يبيع القلائدَ التي يصنعها من صَدَفٍ وحكاياتْ، في كلِّ مرَّةٍ كانَ يؤلِّفُ نهايةً أخرى، ـ لضعفِ ذاكِرَتِهِ ـ ويمشِطُ الشواطئَ بحثاً عن صَدَفةٍ غريبةٍ قد يُلقيها الماءُ صُدفةً في معطفِ الرملِ.
جدّي عُرسٌ بأجراسْ، يمشي فتمشي الموسيقى، تُعلِنُ عنهُ يداه، يعلِّقُ المواسمَ مُدلاّةً على صدرِهِ، رجلٌ بفصولٍ لا تُعَدٌّ ولا يمكنُ فصلُها، حِصانُهُ وقتُهُ، وبيتُهُ جِلدُهُ، زوجَتُهُ الحنينُ وأولادُهُ قُرىً من طفولاتٍ تنتظرْهُ على المداخلِ كيومِ عيدْ.
في كلِّ خطوةٍ بنى بِلاداً، وألقى من ترحالِهِ قصصاً تنوِّرُ الأعشاشَ بتلقائيَّةِ موجةٍ ضاحِكةْ، يقيسُ خطوَتَهُ بالشَّجرِ والدُّوريَّاتْ، أما النساءُ اللواتي فَقَدْنَ نُسُوَّتَهُنَّ فقدْ رأينَهُ حِجاباً قادِراً على إحياءِ القلبِ، فصارتْ النساءُ ـ بمرورِهِ ـ أكثَرَ أنوثةً، والألوانُ أنقى، والقمحُ صارَ بذاكِرةٍ من حَبٍّ، وصارت القوافلُ آمنةً والزمَنُ أبطأَ والبلادُ أقربْ.
في الحروبِ التي مرَّ عليها كما يمرُّ على حكايةٍ لا تُعجِبُهُ، قفَزَ عن الغنائمِ، عن الصراخِ، عن البطولاتِ، عن القادةِ والجنودْ، لم يؤرّخها كما يفعلُ مع أغاني النبعِ وأهازيحِ الصيادين، وفي الليلِ، يفتحُ ذاكِرَتَهُ وينقِّيها من المشاهدِ التي عَلِقَتْ صُدْفةً من المعركة، يلمِّعُها بنجمتينِ بعيدَتين، ويعودُ طفلاً من خرَزٍ ينحتُ أحلامَهُ على الرحلاتِ الكثيرةِ ويحقِّقُها حُلماً حُلماً.
جدي حارسُ غابةِ الوهمِ الجميلْ، سلاحُهُ نايُهُ المعلَّقُ كسيفٍ على خصرِهِ بحبلٍ من خيوطٍ قضى عمراً يلملمُها من عناكبَ غادرَت بيوتَها، يعزفُ فتنقضُّ الريحُ على أذرعِ الكينا، تراقِصُها وتجدِّلُ ألوانَها كأمٍّ وأوَّلِ بناتِها، يعزفُ فتفيضُ الغيماتُ ويقلُّ الملحُ في الرملِ، يعزفُ فتعودُ الغزالةُ إلى خِشْفِها، يعزفُ فيعرفُ الماءُ مجراهُ، يعزفُ، فتنبتُ حضارةٌ على ضفّةٍ قبلَ أن ينشأَ النهرْ.
حينَ عثرَ على كنزِهِ ـ قبلَ أن يأتي أبي محمّلاً بحكاياتٍ غريبة ـ لم يرسم خيالاً واحِداً على الأحجار التي أعجبَهُ جمالُها أكثرَ من قيمتِها، راحَ يعطيها أسماءً شاعريَّةً حسب اللون الذي يسقطُ حينَ تمرُّ منها الشمسُ، نامَ تحتَ كلِّ غيمةٍ سنةً، وغسلَ وجهَهُ في كلِّ نبعٍ، وكثيراً ما حرَّرَ فرائسَ من صياديها، لذلكَ لم تهربْ من طريقِهِ المخلوقاتُ، ولم تَنْسَهُ مُطلقاً.
جدّي صارَ حرِّيَّةَ النّارْ، أراهُ يلعبُ معَ البحرِ ويُصلِحُ أشرعةَ المراكبِ، ودونَ أن يراهُ أحَدْ، ينقذُ الغرقى في آخرِ لحظاتِهمْ، وكلَّ مساءٍ: يظهرُ في شعاعٍ بعيد، وهو ينظِّفُ الرملَ من خطواتِ العابرينَ الغرباء.
السادس والعشرون من تموز 2011
#خالد_جمعة (هاشتاغ)
Khaled_Juma#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟