منذر مصري
الحوار المتمدن-العدد: 1023 - 2004 / 11 / 20 - 10:40
المحور:
الادب والفن
القصائد الأربع التي يضمها هذا القسم قبل الأخير من كتابي ليست المفضلة لدي بالتأكيد . إلا أني على نحو ما أتابع بها، لو سمحتم لي بالقول، أحد تقاليدي الشعرية ، منذ ( تلال بشرية وعرة ) في ( آمال شاقة ) 1976إلى ( أهل الساحل ) في ( بشر وتواريخ وأمكنة ) 1979إلى ( الناس ) في ( الصدى الذي أخطأ ) 1986والتي نشرت في ( مزهرية على هيئة قبضة يد ) 1979. وهي رغم بعض تفاصيلها، قصائد تبدو وكأنها تنتمي إلى عكس ما يذهب إليه شعري من واقعية أو عيانية أو حسية !! أي ما يمكنني اعتباره ذهنياً أو على الأصح تعبيرياً. فأغلب صورها تهيؤات وربما تراكيب هلوسية، رؤيوية !! تتكلم عن البشر عامة، عن حال ومصير النوع البشري وكأنها تستعير لهجة تنبؤية عمومية، إلا أنها لا تتنبأ بشيء على الإطلاق، ربما هذا ما دفع د عابد اسماعيل في مقاله في جريدة الحياة عن الكتاب، لوصفها بأنها ضد رؤيوية. وما أذكره هو أني، عندما قرأت أمام محمد سيدة السطور الأولى من قصيدة ( أَغمَضوا عُيونَهُم بِداعي التَّغيير ) :
( انتَظِرْهُم
حَتَّى يُنهوا استِعراضَهُم
تَيَبَّسَت ظُهورُهُم
لِشِدَّةِ ما انحَنوا لالتِقاط
ما تَساقَطَ مِن
أَسنانِهِم .)
راح يصيح : ( أين الشعر في هذا ، أين الشعر في صورة أناس تيبست ظهورهم من كثرة ما نحنوا لالتقاط أسنانهم المتساقطة ؟ ماذا يعني هذا ؟ ماذا يفيد؟؟ ) أما جوابي فقد كان عدم الجواب، لأن كلاماً كهذا إن لم يفهمه المرء من تلقاء نفسه فلن يستطيع أن يساعده على فهمه أحد.
قلت قصائد تبدو وكأنها تنتمي إلى عكس ما يذهب إليه شعري من واقعية أو عيانية أو حسية !! أي ما يمكنني اعتباره ذهنياً أو على الأصح تعبيرياً...إلا أني لا أستطيع أخرج من جلدي، فآليتي في التقاط الصور وتوليد الأفكار هي هي ، وأريد هنا أن أبين شيئاً من هذه اللآلية في المقاطع التالية التي اخترتها كأمثلة من القصيدة الأولى فقط:
1- عنوان ( أَغمَضوا عُيونَهُم بِداعي التَّغيير ) ، أعجبنني، ليس فقط لإحتوائه على تلك المفارقة، أناس لم يجدوا ما يفعلونه ليتغيروا سوى إغماض عيونهم، أي ضعف، أي استسلام، بل أيضاً لأنه يذهب إلى أبعد من هذا، ليعني أناس ماتوا بداعي التغيير، أناس لم يجدوا ما يفعلونه ليتغيروا سوى أن يموتوا . ولا أدري إن كان هذا يخفي على أحد.
2- ( انتَظِرْهُم
حَتَّى يُنهوا استِعراضَهُم )
لطالما فتنتني مشاهد الراقصين والحواة في الأفلام الدرامية والوثائقية القديمة ، اناس يرقصون ضاحكين، منهمكين في اللحظة، منهم من ينظر إليك عيناً بعين ..الآن كلهم موتى !! أقول : ( انتظرهم ) لنفسي لأني غالباً ما أتردد في متابعة المشهد لنهايته . إلا أنهم في القصيدة متيبسوا الظهور من كثرة ما انحنوا للإلتقاط أسنانهم المتساقطة .. أي استعراض إذن يقوم به أناس بظهور محنية !
3- ( مَلُّوا مِن مَلَلِهم
في انتِظارِ مَواعيد
وُعِدوا بِها
لَكِنَّ أَحَداً لم يَعِدهُم
بِإيفائها )
وذلك تثبيتاً لفكرة كثيراً ما مرت في ذهني ، وهي : ( الوعد شيء والإيفاء به شيء آخر) ذلك أن القيام بوعد ما هو ما تتطلبه لحظة ما، ولا علاقة له بأن نفي به أم لا . أو إن الأمر الذي يدفعنا لنعد اليوم بشيء ربما هو نفسه ما قد يدفعنا غداً لعدم الوفاء بوعدنا .. أو ربما يزول سبب ما جعلنا نعد ويأتي ما يضطرنا لعدم الإيفاء ..
4- (سِوى أَن يُبدِلوا
الجانِبَ
الَّذي
يَنامونَ عَليه .)
مرة أخرى صورة من تجربتي الحياتية، عرفتها اثناء خدمتي العسكرية، والنوم في مهاجع وخيم مع أناس كثيرين.
5- (يَتَدرَّبونَ عَلى التَّنفُّسِ
دُونَ شَهيقٍ أَو زَفير
يُمكِنُ لأَحَدٍ أَن يَلمَحَهُ
يَدخُلُ ويَخرُجُ مِن
( فاغِرةً
أَم
مُغلَقَةً )
أَفواهِهِم .
وهو مشهد جدتي آخر أيامها، عندما كانت تنام أمامنا جميعاً فاعرة فاهها، ودون حركة ، أو صوت ، وكأنه تدريب على التفس وهي ميتة.
6- (حَسبُهُم بَقايا صَلَوات
نَسمَعُهُم يُتَمتِمونَها
خَلفَ الأَبوابِ المُوارَبَة
كأَعمالٍ اعتادَت عَلى القِيامِ بِها
شِفاهُهُم
بِلا إرادَة .)
هذا ما كانت تفعله أخت جدتي، أم محي الدين قدور. كانت قد خرفَّت قبل موتها بفترة، إلا أنها كانت تتمتم بما اعتادت على ترداده طوال حياتها، حين كانت تتوضأكل يوم خمس مرات، كلما أدخلوها المرحاض.
ـــــــــــــــ
أكتب هكذا .. ولكن لا أدري كيف أُقرأ ( فعل مضارع مبني للمجهول ) !.
ـــــــــــــــ
7- خَرائطُ لِلعُميان
ـــــــــــــــ
- أَغمَضوا عُيونَهُم بِداعي التَّغيير
ـــــــــــــــ
انتَظِرْهُم
حَتَّى يُنهوا استِعراضَهُم
تَيَبَّسَت ظُهورُهُم
لِشِدَّةِ ما انحَنوا لالتِقاط
ما تَساقَطَ مِن
أَسنانِهِم .
/
مَلُّوا مِن مَلَلِهم
في انتِظارِ مَواعيد
وُعِدوا بِها
لَكِنَّ أَحَداً لم يَعِدهُم
بِإيفائها
فأَغمَضوا عُيونَهُم
بِداعي
التَّغيير .
/
تَكَلَّفوا كُلَّ مَشَقَّة
كَي تَغدو الفَوارِقُ
أَبسَطَ ما تَكون
في انتقالِهِم مِن عُنصُرٍ
إلى آخَر
وكَأَنَّهُ لَم يَبقَ عَليهِم
سِوى أَن يُبدِلوا
الجانِبَ
الَّذي
يَنامونَ عَليه .
/
يَتَدرَّبونَ عَلى التَّنفُّسِ
دُونَ شَهيقٍ أَو زَفير
يُمكِنُ لأَحَدٍ أَن يَلمَحَهُ
يَدخُلُ ويَخرُجُ مِن
( فاغِرةً
أَم
مُغلَقَةً )
أَفواهِهِم .
/
حَسبُهُم بَقايا صَلَوات
نَسمَعُهُم يُتَمتِمونَها
خَلفَ الأَبوابِ المُوارَبَة
كأَعمالٍ اعتادَت عَلى القِيامِ بِها
شِفاهُهُم
بِلا إرادَة .
/
ماحيَاً كُلَّ أَثَرٍ لتَدخُّلاتِهِ في شُؤونِهِم
اللَّهُ
الَّذي لم يَجِد لَدَيهِ
ما يَفعَلُهُ لأَجلِهِم
سِوى أَن
يَهرُبَ مِنهُم .
/
الفائضونَ
عَن كُلَّ حاجَة
المُتَخَفِّفونَ
مِن كُلَِّ فائدَةٍ مَرجُوَّة .
/
سَيَتُمُّ ذِكرُهُم في المَصائبِ
الَّتي سَتَأتي في طَلَبِهِم
وتَجِدُهُم حَيثُ غادَروا
بِكَونِهِم أَسقَطوا بُذورَهُم
تَماماً حَيثُ يَجِب
في الخُطوطِ الَّتي تَصنَعُها
سِكَّةُ
مِحراثِ الرِّيح
في تُرابِ
أَرضِ
الوَقت ..
ــــــــــــ 13-3- 1998
- سَماءٌ بلا وَجه
ـــــــــــــــ
صَباحاً
العُميانُ يَستَيقِظون
في لَيلِهِم .
/
يَحيونَ أَعمارَهُم دونَ أَن
يَعرِفوا مَن هُم
إذا لَمَحوا وُجوهَهُم
تَعبُرُ في المِرآة .
/
يَركُضونَ في المَمَرَّات
بِكُلِّ اتِّجاه
ويَهبِطونَ السَّلالِمَ
ثَلاثاً ثَلاثاً
ثُمَ يَقفُزونَ دَرَجاتِ العَتَبَةِ الأَخيرَة
دَفعَةً واحِدَة .
/
يتَدافَعونَ
لِيَحتَلَّ الأَسرَعُ مِنهُم
مَقاعِدَ الصَّفِ الأَوَّلِ في غُرفَةِ التِّلفاز
ثُمَّ يَأتي وَيَنْزَعُهُم عَنها
أَشَدُّهُم .
/
يُغَنونَ ويَعزِفونَ
وَهُم يُحَملِقونَ بأُملِيَةٍ
خُطَّت عَلى
السَّقف .
/
لا يُريدونَ أَن يُبعِدوا
وَجهَ اللَّهِ
عَن أَنظارِهِم .
/
هُوَ الَّذي أَغَمَضَ عُيونَهُم
وكَلَّفَهُم بِشَرحِ
خَرائطَ
لَم يَروها مِن قَبل ..
ــــــــــــ 22-5- 1998
- عُيوبٌ مِن فِطنَةِ الطَّبيعَة
ـــــــــــــــ
يُولَدون
فَيُطلَقُ عَليهِم
أَسماءٌ لا عَلى التَّعيين
غالِباً ما تَكونُ غَيرَ
أَسمائهِم .
/
يَحيونَ وهُم يَحمِلونَ
أَراءً خاطِئةً
عَن أَنفُسِهِم
مُصَدِّقينَ جَميعَ ظُنونِهِم
وَحينَ تُحاوِلُ أَن تُفهِمَهُم
بِأَنَّ هُناكَ مِن يَحسَبُ
أَنَّهُم ... فَرَضاً ...
يُجيبونَكَ :
( ومَن قالَ لَكَ
إنَّنا لَسنا ! ) .
/
عَمَلُهُم أَن يَحمِلوكَ
عَلى تَصديقِ
أَنَّ كُلَّ نواقِصِهِم مَزايا
وأَنَّ عُيوبَهُم
لَيسَت إلاَّ مِن فِطنَةِ الطَّبيعَةِ
وإذا ما أَشَرتَ
بَعدَ تَردُّدٍ
إلى أَحَدِ أَخطائهِم
يَقُولونَ لَكَ
بِلا تَردُّد :
( إنَّنا فَعلنا هَذا عَن قَصد ) .
/
وإذا ساوَرَتكَ بِهِمُ الشُّكوك
يَنتَحونَ بِكَ جانِباً
ويَسأَلونَكَ
وَهُم يُريحونَ سَواعِدَهُم عَلى كَتِفِكَ
ناظِرينَ مَليَّاً في عَينَيكَ :
( ومَن في ظَنِّكَ نَحنُ ؟ )
تَقولُ لَهم :
( أَنتُم ... أَنتُم ! )
فَيَصيحونَ
وهُم يَتَلَفَّتونَ حَولَهُم :
( أَنتَ قُلت ...
واللَّه
لَم نَكُن نَعرِفُ هَذا
مِن قَبل ) .
/
تَصدُقُ نُبُوءاتُهُم
ويُصلَبون
بَعدَ أَن تَقَعَ عَلى وَجهِكَ
ثَلاثَ مَرَّات
وأَنتَ تَعدو لا تَلوي عَلى شَيء
بَعيداً عَنهُم
مُنكِراً أَنَّكَ يَوماً
عَبَدتَهُم ..
ــــــــــــ 22-5- 1998
- يُرافِقُ إصغاءَهُم تَغريدُ حَشَرات
ـــــــــــــــ
لا يَستَطيعونَ أَن تُحِبَّهُم
إلاَّ بِشَرط
أَن يَستَسلِموا لَكَ
بِلا شَرط .
/
يَرجونَكَ أَلاَّ تَبكي لأَجلِهِم
وهُم أَمامَكَ يَنهَمِرونَ
في دُموعِهِم .
/
ذَوو العُيونِ المُوحِلَة .
/
يتَفاخَرونَ بِأَنَّهُم
الأَكثَرُ استِهلاكاً
للمَحارِمِ الوَرَقيَّة .
/
ابحَثْ عَنهُم
لَن تَجِدَ آثارَهُم
سِوى في زَهرَةٍ
أَو زَهرَةٍ أُخرى .
/
هُم في قُلوبِهِم
ولَيسَ لأَوراقِهِم حَوافٌّ
تُطَوِّقُهُم كحَلقةٍ مِن لَهَب
يَصيحونَ بكَ :
( اقفِزْ يا نِمر )
فتَحارُ كَيفَ تُراقِصُهُم
ثُمَّ ترتَمي عَليهِم
دُونَ أَن تَعمَلَ عَمَلَكَ
في تَمزيقِهِم .
/
تَستَطيعُ بِكُلِّ سُهولَةٍ
أَن تَأخُذَ وَجهَ الواحِدِ مِنهُم
كامِلاً
بقُبلَة .
/
إذا حَلَلتَ ضَيفاً يَسأَلونَكَ :
( أَ تُفَضِّلُ تَناوُلَ البَشَر
كمَسحوقٍ
أَم كَعَصير ؟ ) .
/
بُطونُهُم أَسِرَّةٌ مُجاوِرَة
أَثداؤهُم وَسائدُ إضافيَّة .
/
حَذارِ
إذا اعترَضوا طَريقَكَ
أَن تنْزَلِقَ بِهِم
يَذوبونَ
وَتَسيلُ
ظِلالُهُم
عَلى البَلاط .
/
يُرافِقُ إصغاءَهُم
تَغريدُ
حَشَرات .
/
اللاَّصِقونَ بِكَ
كالأَشياءِ الخَفيفةِ الدَّبِقة
الَّتي تَعلَقُ بِهذهِ اليَد
إلى تِلك
كُلَّما نَفَضتَها
وحاوَلتَ
التَّخَلُّصَ مِنها
الباقونَ حَيثُ
أَشَحتَ بوَجهِكَ عَنهُم
لا يُزحزِحُهُم طارئٌ
حَتَّى آخِرِ السَّهرة
ليُشارِكوكَ
بِما بَخَلتَ عَن تَقديمِهِ
لِلجَميع
وأَبقَيتَهُ لَكَ
وَحدَكَ
مِن
حَلوى
النَّدم ..
ــــــــــــ 18/11/1998
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع ( 8 من 8 )
#منذر_مصري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟