|
خالد القشطيني يقرأ بعض حكاياته ويوقّع كتابه الجديد -أيام عراقيّة-
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3432 - 2011 / 7 / 20 - 09:25
المحور:
الادب والفن
أقامت "مؤسسة الحوار الإنساني" في لندن أمسية ثقافية للكاتب الساخر خالد القشطيني لمناسبة صدور كتابة الجديد "أيام عراقية". وقد ساهم في تقديم وإدارة الندوة الكاتب الصحفي معد فيّاض الذي استرجع ذكريات اللقاء الأول بخالد القشطيني الذي أخذ بيده إلى الصحافة ومهّد له الطريق للكتابة في صحيفة "الشرق الأوسط". أكدّ فياض بأن القشطيني لا يحتاج إلى تقديم لأن كتبه وترجماته وأعمدته الصحيفة هي التي تتحدث عنه بلسان فصيح، هذا إضافة إلى أن عموده الصحفي الذي يكتبه في "الشرق الأوسط" قد تحوّل إلى فضاءٍ يوّحد العراقيين ويجمعهم ولا يبّث بينهم الفرقة والنفور. يحتوي هذا العمود، بحسب فيّاض، على معلومة فيها حدث وتاريخ ونتيجة على الرغم من قصره، فالقشطيني لا يكتب إنشاءً، وإنما مادة صحفية مركزة وغنيّة بالمعلومات. طرافة القشطيني وجرأته يعْرِف القشطيني كيف يهيمن على جمهوره، فبواسطة النكتة أو المفارقة أو الحكاية الطريفة يدخل إلى قلوب المتلّقين، وهذا ما حدث تماماً في هذه الأمسية الممتعة والخفيفة الظل. فما إن انتهى فيّاض من تقديمه حتى قال القشطيني بأن هذا المديح يذكِّرني بحكاية كبير أساقفة كانتربري الذي كان يروم تقديم محاضرة ما غير أن رئيس الجلسة قد استغرق في مدحه وبالغَ في تعداد محاسنة فقال كبير الأساقفة:" لقد صليت لله مرتين الآن، مرّة لكي يغفر لرئيس الجلسة كل ما قاله عني، ومرّة أخرى لكي يغفر لي لأنني استمتعت بما قاله عني"، أما القشطيني فقد قال:" أنا صلّيت لله ثلاث صلوات، الأولى أن يغفر لك عن كل هذا الكلام الذي قلته عني، والثانية أن يغفر لي أنني استمتعت بكلامك هذا، والثالثة أنني تمنيت لو أن مدير الندوة كانت فتاة جميلة! استرسل القشطيني في ذكر بعض المواقف الطريفة الأخرى وقال: "كنت ذات مرة في بغداد منهمكاً في إلقاء محاضرة فشعرت بأن الهواء "يتدولب" في داخل بنطالي قرب المنطقة الحسّاسة فقلت في نفسي يبدو أنني نسيت أن أسدّ سحّاب البنطال، استحيت أن أنظر إلى الأسفل لأتأكد من زمّام البنطال، ولكن ما إن انتهت المحاضرة حتى تأكدت من أن الزمّام كان مسدوداً"، والهدف من هذه الحكاية هو أن زوجته الكريمة كانت تعرف جيداً أنه ينسى غالباً سدّ الزمّام فسألته قبل أن يخرج إن فعل ذلك أم لا؟ فقال لها: يجب أن تتأكدي الآن إن كنت شددتُ حزام البنطال أم لا؟ في إشارة طبعاً إلى العملية الكبرى التي أجراها قبل مدة وفقد إثرها خمسة عشر كيلو غراماً من وزنه فصار بنطالة يهطل بالكامل إلى أسفل قدميه. بعد هذه "القفشات" والمواقف الطريفة التي لا تمت بصلة إلى موضوع المحاضرة استرجع القشطيني المكالمة الهاتفية التي أجراها معه الكاتب الصحفي كامران قره داغي وإقترح في أثنائها أن يقدّم حديثاً أسبوعياً لإذاعة "صوت العراق" بغية إحراج صدام حسين وتنوير الشعب العراقي. فرّد القشطيني موافقاً:" على عيني ورأسي"، وأضاف بأن هذه رسالة شريفة ونبيلة، ولكنه لا يريد أن يزّج أنفه بالسياسة لأنها من اختصاص السياسيين والمحللين والمعلّقين على الأحداث، إن ما يريده تحديداً هو أن يروي حكايات عن العهد الملكي، وكيف كانت الحياة رغيدة وآمنة، والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية مستقرة. وهذه الحكايات، من وجهة نظره، هي التي تجعل الشعب العراقي يقارن في الأقل بين الوضع الراهن المزري وبين الأوضاع السابقة في العهد الملكي. أُعجِب قره داغي بالفكرة خصوصاً وأن القشطيني قد أسمى البرنامج بـ "أيام الخير" الذي لاقى بعد مدة وجيزة من إذاعته شعبية واسعة وقبولاً كبيراً، ليس في العراق حسب، وإنما في البلدان العربية أيضاً. وقد أصبح مصطلح "أيام الخير" مستعملاً ومتداولاً لدى السياسيين أيضاً للإشارة إلى الأيام الرخيّة التي كان يعيشها العراقيون في تلك الحقبة الزمنية التي قد توصف بـ"الذهبية" أحياناً. استذكر القشطيني حادثة شديدة الدلالة وقعت لأخيه موفق القشطيني الذي كان في حينه مديراً للسكك الحديد حيث قال: جاء أخي موفق مُحرجاً ومُرتبكاً وقلقاً فاستفسروا عن سبب خوفه وخشيته فقال: إن رئيس الوزراء نوري السعيد قد حجز "عربة صالون" في القطار الذاهب من بغداد إلى البصرة، وكان ثمن حجز هذه العربة الفخمة هو "15" دينار في ذلك الوقت، وكانت هذه السفرة خاصة وغير رسمية، وقد حرّر في حينه مدير المحطة فاتورة، لكنه لم يتجرأ أن يُطالب بها نوري السعيد وقد حوّلها إلى أخي موفق الذي إحتار بها هو الآخر، ولم يعرف ماذا يفعل؟ أيذهب إلى نوري السعيد ويقول له أعطني "15" ديناراً ثمن تذكرة السفرة، أم يسكت ويصبح هناك نقص في حسابات مديرية السكك الذي سوف يسألونه عليه؟ وأخيراً اقترح أبي أن نحوّل الفاتورة إلى مجلس الوزراء ونخلص من هذه المعضلة. وبالفعل حوّلها أخي وبعد بضعة أيام جاءنا مبتمساً فرحاً وقال: أتعرفون أن نوري السعيد قد دفع ثمن التذكرة واستلمت الشيك المذيّل بتوقيعه الخاص. قال القشطيني هكذا كانت الحياة التي لا يضيع فيها مبلغ "15" ديناراً فقط، أما الآن فهم يهرِّبون "15" مليار دولار من دون خشية أو تردّد! كان القشطيني يختتم هذه الأحاديث الإذاعية بجملته العامية المشهورة " إيه كان يوم من أيام الخير اللي راحت ويّه أهلها، ويّه أهل الخير". يتذكَّر القشطيني بأن بعض العراقيين الذين كانوا يتابعون برنامجه "أهل الخير" كانوا يقولون له بأنهم حينما يصلون إلى هذه الجملة التي يتأسف فيها على أيام الخير كانوا لا يتمالكون أنفسهم فينخرطون في البكاء، وحينما ينتهي القشطيني من قول هذه الجملة المؤثرة كان صوت قارئ المقام يوسف عمر ينطلق صادحاً متأسيا "ما لكم يا سادتي لا تعيدون ليالينا القدامى" وعندها تزداد دموعهم انهمارا. يقول القشطيني بأن أيام الخير قد راحت، ثم تلتها الأنظمة الدكتاتورية حيث كان الطغاة يأتون بشعارات تبدو جديدة، لكنها في الحقيقة متشابهة ولا تختلف عن بعضها بعضا، فالأنظمة نفسها، والفساد الإداري نفسه، والحكم الاستبدادي نفسه على الرغم من التغيير السطحي للشعارات المطروحة. سبق أن ذكرت بأن القشطيني يعتمد على النكتة والمفارقة والجرأة التي تخدش الحياء العام، فهو لا يجد حرجاً في استعمال الكلمات المحكيّة "العامية" الموازية للديّوث والمومس وبيت الدعارة. وقد ورد في استذكاراته بأن مراسل الغارديان قد ذهب إلى جنوب أفريقيا ورأى على أحد "الكراخانات" أي بيوت الدعارة باباً مكتوباً عليها "للسود فقط" وعلى باب أخرى "للبيض فقط" فسأل المراسلُ الديّوثَ مستفسراً: ما الفرق بين هاتين البابين، هل ثمة فرق في الخدمة الجنسية أم في نوع المرأة وشكلها؟ فأجاب الديّوث قائلاً: إن الخدمة هي نفس الخدمة، وأن المرأة هي نفس المرأة التي هي خادمتك زوجتي، فالأبيض يأتيها من الباب البيضاء، والأسود يأتيها من الباب السوداء. هذه الحكاية الغريبة ذكّرت القشطيني بالأنظمة العربية المستبدة التي تتخفى بتسمياتٍ عديدةً لكن المحتوى واحد فهي نفس المرأة "القحبة" التي يأتيها الزبائن من أبواب مختلفة! يشير القشطيني أن حكاياته هذه لم تلامس نبض العراقيين ومشاعرهم حسب، وإنما لاقت استحساناً لدى المواطنين العرب في الخليج العربي وفي بقية البلدان العربية. فالشعوب العربية برمتها تشعر بالقرف من الأنظمة المستبدة، وتعاني من ضيق ذات اليد، وشظف العيش، وكبت الحريات الشخصية والعامة، ولذلك تراهم يتحدثون دائماً عن الأزمنة التي مضت وكانت بحسب وصفهم "أيام خير ورفاه". يستدرك القشطيني قائلاً: إن الظروف المعيشية للشعب العراقي في العهد الملكي لم تكن أفضل بكثير منها في العهود الدكتاتورية، وهو يقيس تقدّم الأمم بواسطة مقياس جان جاك روسو الذي يعتمد على نمّو عدد السكان في بلد ما، فكلما إزداد عدد السكّان يعني أن هذا البلد متطور، وهذا الشيء ينطبق على الحيوانات، من وجهة نظر القشطيني، فالذباب يكثر في موسم التمر، والكلاب تكثر في الأسواق في الصيف لتوفر ما تقتات عليه من مأكولات. ويقارن القشطيني في هذا الصدد بين نفوس العراق في العهد الملكي الذي كان بحدود ثلاثة ملايين نسمة أو ربما أقل من ذلك وبين نفوس العراق الذي قارب الثلاثين مليون نسمة الآن، ويرى أن السبب الرئيس في هذه الزيادة هو توفر الأكل والرفاه الذي يعيشه المواطن العراقي في الوقت الراهن حيث تتوفر الحقوق الخاصة والعامة والضمان الاجتماعي والصحي وما إلى ذلك، أما أحوال الناس عامة والعمال والفلاحين بصورة خاصة فقد كانت سيئة جداً، ولكن ما الذي يدفع الناس لأن يقارنوا "أيام الخير" بالعهود السابقة؟ يجيب القشطيني قائلاً:" هناك نعمتان مجهولتان هما الصحة والأمان" وهذا ما كان يميّز العهد الملكي عن بقية العهود اللاحقة. يسترجع القشطيني ذكرياته البعيدة "فهو من مواليد بغداد عام 1929م" ويقول حينما كنا شباباً يافعين كنّا نخرج في الليل نسهر ونسكر ونعربد ونفعل ما نفعل، ولكن كنّا نعرف جيداً بأن أحداً لن يسيء إلينا، وأن أهلنا غير قلقين علينا، والسبب الرئيس في ذلك أن الأمان كان متوفراً وهو الذي يجعل الإنسان يشعر بالطمأنينة والراحة والسعادة. يؤكد القشطيني بأن الأجهزة الحديثة مثل التلفزيون الملون والراديو الديجيتال والكاميرات الحديثة المتطورة وغيرها من المعدّات التكنولوجية المعاصرة لم تكن موجودة في العهد الملكي، لكنهم كانوا مرتاحين على الرغم من عدم توفر التيار الكهربائي والماء الصالح للشرب والكثير من المسلتزمات الحياتية الأخرى، ومع ذلك فإن النعمتين المجهولتين، الصحة والأمان، كانتا السبب الرئيس في طمأنينة الناس وإحساسهم العميق بالراحة. القشطيني وفن الحكاية قرأ القشطيني أنموذجين من حكاياته المنشورة في كتاب "أيام عراقية" وقبل أن نحلل هذين الأنموذجين لابد لنا من التعريج أولاً على معنى الحكاية بوصفها نوعاً أدبياً والفرق بينها وبين القصة القصيرة التي تعد فناً أكثر عمقاً وصعوبة من الحكاية على الرغم من وجود العديد من المشتركات. هناك عدة أنواع من الحكايات أبرزها الحكاية الخرافية(Fairy tale) والحكاية التحذيرية ( (Cautionary tale والحكاية الرمزية (Fable) و حكايات العجائز (Womens’tale ) والحكاية الفوكلورية (Folk tale) وما إلى ذلك، غير أن ما يهمنا هو (الحكاية الفوكلورية) التي تروى غالبا إلى جمهور محدد وتتضمن تقاليد وأعراف ثقافة أو مجموعة بشرية ما. وهذا ما يفعله القشطيني في النصوص التي يكتبها ويطلق عليها صفة الحكاية كما هو الحال في بعض كتبه السابقة من بينها "حكايات من بغداد القديمة- أنا وجدتي" و "حكايات حُب وغرام" و "أيام عراقية" الكتاب الأخير الذي إنعقدت بسببه الأمسية الثقافية. وعلى الرغم من أن هذه الحكاية مُجتزأة وليست كاملة لكنها تعطي القارئ تصوراً واضحاً عن المناخ الذي تدور حوله الحكاية. فالمكان هو ناحية المدَيْنة التي تقع على الطرف الآخر من هور "الحمّار"، والزمان هو العهد الملكي، والشخصية الرئيسة هي شخصية إحسان، مدير الناحية وشقيق الراوي. وتأكيداً للظروف الصعبة التي كان يعيشها المواطن العراقي آنذاك "فإن المدَيْنة كانت تخلو من الكهرباء والماء النقي، بل لم يكن فيها سوى فانوس نفطي واحد كانوا يعلّقونه أمام بيت مدير الناحية كرمز لهيبة الحكومة. وذات ليلة أفاق إحسان فوجد الفانوس مطفئاً فتميّز غضباً وتصوّر أن هناك انقلاباً قد حدث في البلاد فنادى على كاتب الناحية ومعلّم المدرسة وعريف الشرطة والبوسطجي وتساءل مستفسراً عن سبب إنطفاء الفانوس، وهل أن الحكومة قد ماتت؟ فتبيّن من كاتب الناحية أن الأستاذ فاضل، المدير السابق للناحية قد أمرهم أن يطفئوا الفانوس في الليالي المقمرة، لكن المدير الجديد إحسان أصدر أمراً ألغى فيه الأمر السابق وأصدر أمراً جديداً من اليوم فصاعداً أن يبقى الفانوس مضاءً حتى في الليالي المقمرة. وأن الراوي يقول بأنهم عندما سيكتبون تاريخ العراق الحديث فإنهم سيذكرون هذه المأثرة لأخيه إحسان وسوف يقولون بأنه جرت إصلاحات في ناحية المدَيْنة في عهد إحسان القشطيني وكان منها إيقاد فانوس المدينة في الليالي المقمرة". وحينما يعود الراوي إلى بغداد يروي هذه الحكاية لوالدته ونفهم من خلال رد فعلها أن إحسان معتاد على الصرف والتبذير وأنه كان يترك المذياع مفتوحاً بينما هو غارق في النوم فكيف لا يترك الفانوس مشتعلاً حتى في الليالي المُقمرة؟ لا تخرج حكاية "السمك المسكوف" عن هذا المنحى الفوكلوري، لكنها تتناول حياة الطبقة المتوسطة، ويمكن إيجاز هذه الحكاية "بأن شعوبي قد قرر الاحتفاء بزواج صديقه المعلم حموش حيث دعا مجموعة من الأصدقاء وخرجوا بسفرة إلى شواطئ الكاظمية وبعد أن شربوا وإستمعوا إلى أغاني القبانجي وناظم الغزالي وأم كلثوم وتناولوا السمك المسكوف وأخذ منهم السُكر مأخذاً كبيراً عادوا إلى بيت العريس متأخرين جداً ليجدوا أن العروس قد نزعت بدلة العرس البيضاء، ورمت إكليلها على الأرض ورفسته، وراحت تبكي وتندب حظها العاثر، وتلوم نفسها لأنها تزوجت من معلّم لا عقل له". لا شك في أن هذه الحكاية الطويلة تحتوي على تفاصيل كثيرة تكشف عن طبيعة الشخصيات التي اشتركت في هذه المناسبة الاجتماعية التي تجمع بين المعلم والدكتور وصياد السمك، كما أنها تتناول ثيمات متعددة تتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي يريد من خلالها كاتب النص أن يقول بأن الأيام السابقة كانت أيام خير، ثم ينهي حكايته بالمقطع المشهور للقبانجي الذي يقول: "ما لكم يا سادتي لا تعيدون ليالينا القدامى". لا شك في أن بعض الحكايات تتضمن دروساً بليغة يفيد منها القارئ أو السامع، أي أن الغرض منها هو تعليمي وتربوي، لكن يا ترى ما الذي وصَلَنا من الحكايتين الآنفتين؟ فمدير الناحية في الحكاية الأولى هو أنموذج للإنسان أو "الموظّف" المبذِّر الذي يترك الفانوس مشتعلاً في الليالي المقمرة، كما نفهم من شكاوى أمه بأنه كان يترك المذياع مفتوحاً حتى الصباح الأمر الذي يفضي إلى موت البطاريات. إن هاتين الملاحظتين كافيتان للإشارة بأن هذه الحكاية لا تنسجم مع السياقات العامة للنص الحكائي الناجح الذي يجب أن يتوفر على درس تربوي وأخلاقي في آن معاً، كما أن معظم أنواع الحكايات ينتهي نهاية سعيدة، كما هو الحال في الحكايات الخرافية (Fairy tales) تحديداً، بينما إنتهت حكاية القشطيني الثانية "السمك المسكوف" نهاية محزنة وكئيبة بأن خلعت العروس بدلتها البيضاء ورفست إكليلها وندبت حظها العاثر لأنها إختارت أن تتزوج "معلما لا عقل له"! يبدو أن القشطيني لم يمعن النظر في دراسة الشخصية الحكائية في هذا النص تحديداً، فالمعلم في الذاكرة العربية يتمتع بمنزلة رفيعة، وربما ترسخت أكثر بسبب البيت الشعري المهم الذي صاغه أحمد شوقي صياغة دالة ورصينة مفادها "قُم للمعلم وفهِ التبجيلا / كاد المعلّمُ أن يكون رسولا"، فشخصية المُعلّم في الأغلب الأعم هي شخصية إيجابية وبنّاءة، وأن مهنة التعليم نفسها تكاد تكون مقدّسة لأن المُعلّم هو الذي يبني الأنفس، ويطوِّر العقول ويصقلها، ويُخرِج الناس من ظلمات الجهل إلى فضاءات المعرفة والتنوير. أما المعلّم الذي رأيناه في حكاية القشطيني فإنه شخصية سلبية، غير واعية، ولا يعير وزناً لأهم ليلة في حياته بحيث فضّل أكلة سمك مسكوف وسهرة شرب وعربدة على نشوة اللقاء الروحي والجسدي الأول بزوجته التي يُفترض أن تكون شريكة حياته في كل شيء تقريباً. كان على القشطيني أن يختار شخصية أخرى غير المعلّم بحيث تنسجم مع السلوك الشاذ الذي تتبناه الشخصية الرئيسة التي تفضّل الأكل والشرب والعربدة على الإحتفاء بالخطوة الأولى من الآصرة الروحية والجسدية التي تربط بين الزوجين. أسئلة ومداخلات حينما انتهى القشطيني من محاضرته أثار بعض الحاضرين أسئلة متنوعة من بينهم الأستاذ نبيل الحيدري الذي سأل القشطيني عن تعددية مواهبه وكيفية الجمع بين الكتابة الساخرة والجدية، وكذلك الجمع بين اللغة الفصحى والمحكيّة في الأعمدة والمواد الأدبية التي يكتبها؟ أجاب القشطيني بشكل مقتضب قائلاً: "في عصر النهضة كان الإنسان يحاول أن يلّم بكل الأشياء، فدافنشي، على سبيل المثال، كان عالماً وشاعراً ورسّاماً. أنا في الحقيقة عشت حياة عصر النهضة وكنت أستمتع بالرسم والموسيقى والكتابة إلى الدرجة التي بتُّ فيها أكره التخصص لأنه يجعلني محصوراً في مجال واحد". لم يجب الكاتب، مع الأسف، على الشق الثاني من السؤال الذي يتعلق بالجمع بين الكتابة الجدية والساخرة والفصحى والعامية. أما الأستاذ صلاح التكمجي فقد سأل القشطيني إن كان في نيته أن يكتب عن بعض حارات بغداد مثل أبي سيفين والدهانة والشورجة وغيرها؟ وأردفه بسؤال آخر مفاده: إذا كان قد أطلقَ على المرحلة السابقة وصف أيام الخير، فماذا يسمّي المرحلة الحالية؟ أجاب القشطيني بأنه قد كتب عن بعض هذه الحارات في كتبه ورواياته، ولكنه لا ينوي إعدادها للتلفزيون لأن هذه المسألة تتعلق بالمعد أو السيناريست وهو ليس كذلك، ثم نسي الإجابة على الشق الثاني من السؤال، وكان على مدير الأمسية أن يذكِّره بالأسئلة التي ينساها. تدخّل الأستاذ عبد الرزاق الصافي في حديثه عن القشطيني واصفاً إياه بالكاتب متعدد المواهب، وأن محاضرته كانت ممتعة جداً، ولكن اعترض لأن مؤسسة الحوار الإنساني لا تفضّل الخوض في السياسة والدين لأنهما يفرقان العراقيين، بينما تجمعهم الثقافة. وأشار إلى أن نوري السعيد كان رجلاً نزيهاً وأن الفساد كان قليلاً في عهده، ولكنه حمّل نوري السعيد مسؤولية انتهاء أيام الخير التي تحدث عنها الكاتب في محاضرته. فأجاب القشطيني معقباً: "أنا لم أقل إن العهد الملكي كان مثالياً، وإنما قلت بأن الصحة والأمان كانا متوفرين، ولكن الأحوال المعيشية للشعب العراقي كانت تعيسة، والناس كانوا فقراء، والرواتب محدودة، وقلّما تستطيع أن تشاهد إنساناً يرتدي حذاءً. أما السؤال الأخير فقد أثاره الدكتور عبد الرحمن جميل ومفاده إن كانت في مسيرة القشطيني أشياء يريد أن يفعلها ولم يفعلها لحد الآن، وإن كانت هناك أشياء فعلها وندمَ عليها؟ أجاب القشطيني بأن معلّمه برناردشو كان يتمنى لو أنه يعيش لمدة أربعمائة سنة، ولكن سوء شخصيته وسوء سلوكة هما اللذان سببا في وفاته مبكراً. فالقشطيني يتمنى لو أنه يعيش عمراً طويلاً جداً لأن لديه أشياء كثيرة يقولها، ولكن الصحة لها "حوبة" كما يقول. أما الشق الثاني من السؤال والذي يتعلق بالأشياء التي فعلها وندمَ عليها فقال القشطيني" أن هذه الأشياء كثيرة، ولكنه لا يريد أن ينبش ماضيه ويسترجع بعض المواقف المؤسية في حياته الشخصية. وفي الختام لابد أن نحيي مؤسسة الحوار الإنساني مُمثلة بشخص رئيسها الأستاذ غانم جواد على رعايته مثل هذه الأنشطة الثقافية التي تجمع العراقيين وتفعّل وجودهم الثقافي والفكري في المُغترب البريطاني.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الواقعية الجديدة في -زهرة- بارني بلاتس
-
-حديث الكمأة- لصبري هاشم أنموذج للرواية الشعرية
-
أسرار فرقة الدونمه ودورها في المجتمع التركي الحديث (3-3)
-
الدونمه بين اليهودية والإسلام . . . مسوّغات العقيدة المُزدوج
...
-
الدونمه بين اليهوديّة والإسلام (1-3)
-
(اسأل قلبك) للمخرج التركي يوسف كيرجنلي
-
مهرجان بغداد السينمائي الدولي مُلتقى لشاشات العالم
-
قبل رحيل الذكريات إلى الأبد (3-3)
-
السينما الطلابية في العراق. . محاولة لصياغة مشهد سينمائي مخت
...
-
(قبل رحيل الذكريات إلى الأبد) لفلاح حسن ومناف شاكر (1-3)
-
-فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الثاني
...
-
-فرقةُ القرّائين اليهود- للدكتور جعفر هادي حسن (الجزء الأول)
-
فيلم (كولا) ومضة تنويريّة تسحر المتلقي وتمَّس عاطفته الإنسان
...
-
الرحيل من بغداد وهاجس المطاردة الأبديّة
-
قراءة نقدية في ستة أفلام روائية ووثائقية وقصيرة في مهرجان ال
...
-
فيلم (إيران، الجنوب الغربي) للفرطوسي يرصد أكبر كارثة بيئية و
...
-
(وداعاً بابل) لعامر علوان . . الحجر يتكلّم والمدينة تتقمّص د
...
-
التغريب والصورة الافتراضية للدكتاتور في فيلم (المُغنّي) لقاس
...
-
حيّ الفزّاعات لحسن علي محمود وتعدد القراءات النقدية
-
تعدد الأصوات والأبنية السردية في رواية -قفلُ قلبي- لتحسين كر
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|