|
الغائب والمؤجّل: تقويض ميتافيزيقيا الحضور
حيدر فوزي وسمي
الحوار المتمدن-العدد: 3424 - 2011 / 7 / 12 - 02:41
المحور:
الادب والفن
لا شكَّ في وجود علاقة بين التفكيك والتحليل النفسي، فكلاهما يقومان على مبدأ التنقيب، فالأول في أركيولوجيا (المقول)، والثاني في أركيولوجيا (النفس)( 1). والتفكيك- بوصفه آليّات- يفتّش- بشيءٍ من الفضح- عن العلاقات المتضادّة، عن التمركز، بتقويض الأسس الميتافيزيقية التي تؤدلج (المقول) إلى المعنى الواحدي، وتؤمن به بوصفه (عقيدةً) لا يمكن دحضها، وإنشاء سلطة لتمركز اللوغوس، يتبعها سلطة لتمركز القضيب ضمن سياسة تضمن مَفْهَمَة الحقيقة بوصفها دالاً، يفضي إلى مدلول قار، في سلسلة منتظمة من البتر الدلالي الذي يستتبع إنكار القراءات المختلفة، لإنكار مُسبق لفكرة الاختلاف، فالفلسفة القديمة حتى (هيجل) كانت تمثّل "فلسفة الحضور، ونعني بذلك أن الوعي لا يعترف إلاّ بما يحضر لديه، فيتّخذ شكل الدلالة والمعنى والقانون والهوية"(2 )، فيتموضع المختلف في الوعي كـ(؟) لا يمكن إدراكه. ويمكن أن نتساءل كيف يمكن الآخر المختلف ضمن غيابه؛ كيف يمكن حضور الغياب؟ يمثّل لفظ (الاختلاف) (differance) فعلين (differ) ويعني ليس مُشابهاً، والثاني (defer) ويعني أن يُرجئ أو يؤجّل. فالاختلاف يعني: الاختلاف + التأجيل، وهنا ستتغيّر المُعطيات اللسانية التي ستكون تابعة لنسقٍ ميتافيزيقي، لأنها ستنبني على مفاهيم (التمركز حول اللوغوس)= (الصوت) مهما كان مفهوم الصوت عند (سوسور)، سواءٌ أكان على مستوى (الفونيم) أم بمدلوله النفسي(3 )، فعلم اللغة (السوسوري) سيكون نتاجاً للميتافيزيقيا، وتكتنز العلامة بالاختلاف والتأجيل بدلاً من الدال والمدلول الذي يعدهما (دريدا) نقصاً، مادام التركيز يكون دائماً لصالح الصوت، وبذلك ستكون- ذلك النقش بكلّ أشكاله الدريدية- (الكتابة) في المفهوم (السوسوري) دال لدال هو المنطوق، أما بفلسفتها التفكيكية، فستأخذ (العلامة) قوتين، هما قوة الاختلاف وقوة التأجيل(4 )، وتتضمّن (العلامة) على وفق هذا التصوّر، سؤالاً مُلازماً للكتابة، فالحضور يبقى بشكل قلق، فهو يشي دوماً بسؤال للغياب، للمؤجّل، وسيضمن بشكلٍ ما حضور الغياب كقوّة (مؤجّلة)، وتبقى (العلامة) غير وافية، ويستتبع ذلك عدم قطعيّتها، ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً، هو كيف يتم ذلك (الاستدعاء) للغياب خارج الميتافيزيقيا؟(العلامة) ناقصة وغير وافية، وهذا ما يجعل (دريدا) يضعها تحت المحو- مادامت ناقصة- بمعنى إيحائي، لتفضي دائماً (بانكتابيتها) لتحريك ما هو كائن فيها- بـ(التفتيش/ الفضح)- نحو ما هو غير كائن، فالعلامة بالمفهوم الدريدي أثر ناتج عن (الكتابة) كفعل (كشفي) يلغي (صورتها/ وظيفتها) الثانوية، ويجوز بها إلى موقع الصدارة. هذا الحدث بصورته (الانقلابية) يُمأسس للاختلاف- لكونه حدثاً (انقلابياً)- تناسل الكينونة من الكتابة، وليس العكس- حيث يُشكّل (الآخر) فيه انفجاراً للغياب. فالأثر هو البديل الدريدي للعلامة السوسورية، لكنه مفهوم خارج الحدود، وخارج اللوغوس، ولا وجود للمفهوم/ المعنى الواحدي، بل على العكس من ذلك تماماً، هناك لعبة (حضور/ غياب) تُسيّس (الأثر)، وبالرجوع إلى الأصول النيتشوية للتفكيك، نجد إشكالية الزيف الميتافيزيقي الذي يرسّخ ما يدعوه (بوث) بـ(الفلسفة الوثوقية)، فالحقيقة من حيث هي مسعى (إنساني) تنكشف عند (نيتشه) على أنها (انكشاف وانحجاب)، فهي عرضة للتخفّي، لأنها انكشاف في الذات، غير أنها اختفاء بالكليّة؛ بمعنى آخر، إنها إرادة الشك، الانتقال من "إرادة الحقيقة إلى إرادة الخداع" (5 )، وما أريد أن أبيّنه هنا هو "(الاختلاف) بوصفه ضرورة في الفكر الدريدي، لا يخضع لسلطان الحقيقة، فالاختلاف إحالة إلى الآخر وإرجاء لتحقيق الهوية في انغلاقها الذاتي"(6 )، الآخر الذي يقع ضمن لعبة (الحضور/ الغياب)- (المختلف/ المؤجّل)، المتعلّق بالعلامة ذاتها التي هدّدها (دريدا)، فمادامت تحت المحو فسيبقى منها ما يُفضي إلى (المؤجل- الغياب)، من دون أن يكون لـ(الاختلاف) مركز "هو المصدر المتعالي الذي لا يخضع لشروط سابقة، ولا يمكن الذهاب أبعد منه، ولذلك فهو أصل دون مركز يعود إليه"(7 )، ومن ثمّ تُظهر (المتضادّة) الدريدية (لا/ ولا) أحداثاً تقويضية للخطاب (الفلسفي) بشيءٍ من التجوّز، فمجموع التقابلات والتضادات (المفهومية) تحمل أطيافاً تركيبية، فكل (مفهوم انكتابي) وأعني به الخطاب الذي يتمأسس في وظيفة الاختلاف ومجموع ما يُشكّل منه أثراً، سيدخل ضمن دائرة الشطب- مفاهيم كثر، نذكر منها ما يرتبط بموضوعنا- فـ(البكارة) على سبيل المثال، ستخضع إلى إلغاء التمييز المركزي بسقوط (المعنى الواحدي) وبإنشاء سلسلة من التضادات التي تحاول شطب/ محو مركزيتها، فليست البكارة انحجاباً ولا كشفاً ولا استهلاكاً/ فضّاً، ولا عذرية، إنها الحضور والغياب، (هذا وذاك)، فقابلية المحو القارّة في الاختلاف تُفضي إلى تعزيز حضور الغياب وغياب الحضور، ومن ثمّ عدم اختزال الآخر. إنه حضور الآخر(8 )، من خلال تعديل الفعل الاختلافي في المابين، لإلغاء حدود الحقيقة التي كانت تتضمّن غواية الخداع، وينفتح النص الدريدي إلى حقيقة لا متناهية، إذ تتلاشى الأضداد بشكل من الأشكال التي يوفرها تقويض الأصول المركزية. وإذا كان (الاختلاف) منفلتاً عن المركزية في سعيه بالتفتيش عن المُغاير والمؤجّل في الخطاب- الذي سيأخذ هنا طابعاً شمولياً- وفتح مجالاً لا متناهياً من الدلالات، فستبقى المعاني خارج حدود الاستقرار والثبات، وتتناسل مع المؤجّل بصورة غير نهائية( 9). ( 1) يُنظر: أركيولوجيا التوهّم/ انطباع فرويدي، جاك دريدا، ترجمة: عزيز توما، مشاركة وتعليق: إبراهيم محمود، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 2005: 22، إنما أردت بذلك انعكاس التحليل النفسي، وما يؤكّد اتصال النسوية بكليهما. ( 2) التفكيكية، إرادة الاختلاف وسلطة العقل: عادل عبد الله، دار الحصاد، ط1، 2000: 13. ( 3) يُنظر: علم اللغة العام: 85. ( 4) يُنظر: البنيوية والتفكيك، تطورات النقد الأدبي: س. رافيندران، ترجمة: خالدة حامد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2002: 151، ونظريات القراءة، مجموعة مؤلفين، ترجمة: عبد الرحمن بوعلي، دار الحوار، ط1، 2003: 96. ( 5) يُنظر: ما وراء الخير والشر: تباشير فلسفة للمستقبل، فريدريش نيتشه، دار الفارابي، 1989: 23. ( 6) الكتابة والاختلاف: جاك دريدا، ترجمة: كاظم جهاد، تقديم: محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1988: 30 (مقدمة المترجم). ( 7) مفاتيح لقراءة جاك دريدا: د. ناصر حلاوي، الطليعة الأدبية، بغداد، ع5-6، 1990: 59. ( 8) يُنظر للاستزادة: جاك دريدا: مواقع/ حوارات، ترجمة: فريد الزاهي، سلسلة المعرفة الفلسفية، دار توبقال للنشر، ط1، 1992: 45-46. ( 9) يُنظر: التفكيكية: الأصول والمقولات: عبد الله إبراهيم، منشورات عيون المقالات، ط1، 1990: 53.
#حيدر_فوزي_وسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|