سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3419 - 2011 / 7 / 7 - 15:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
* إشكالية وحدة المطلق .
الله غفور ورحيم وفى نفس الوقت عادل ..فكيف تلتقي صفة الغفور الرحيم مع صفة العدل الإلهي ؟!!
الفكر الدينى واللاهوتى يروج لفكرة أن صفات الله مُطلقة وغير محدودة ولفهم معنى المطلق واللامحدود علينا أن لا نُسقط الصفات الإنسانية في تصورنا حتى لا تُمرر مقولات شائكة بمنتهى التعسف والخلط .. فالصفة المطلقة هى الصفة التى لا توجد حدود تحد قدراتها وإمكانياتها ..صفة تستمر بحضورها دائما فلا تتوارى حينا ً أو تتصاعد حينا ً بل هى فى حالة من الديمومة والتدفق لا تتوقف ولا تنقطع لحظة , كما لا يوجد مقياس وحدود لفعلها - بينما الإنسان تلازمه الصفات والأفعال بشكل مؤقت و بصورة نسبية ومحدودة بمعنى أنه يكون رحيما ً في وقت ما لتتوارى هذه الرحمة ويحل مكانها صفة الانتقام والقسوة , يمكنه أن يكون عادلا ً حينا ً وظالما ً حينا ً آخر , ولكنه يمارس فعل واحد للصفة الواحدة فى اللحظة الزمنية الواحدة فلا يمكنه أن يمارس فعل الرحمة والقسوة فى نفس اللحظة ... كما تكون الصفات الإنسانية محدودة أيضا ًونسبية فالرحمة والانتقام الإنساني يتفاوت من إنسان لآخر ولكن في النهاية هو محصور بأسقف محددة لا يتجاوزها بحكم محدودية الإنسان وظرفه الموضوعي .
حسب الفكر الديني واللاهوتي فصفات الله لا تكون هكذا فأي صفة من صفاته غير مُفارقة له ولا مؤقتة ولا نسبية ولا محدودة بمعنى أن صفة الرحمة والمغفرة والعدل مصاحبة له دوما ً ومنذ الأزل , أى أن الصفة الإلهية غير مؤقتة فلا تعتريه حينا ً وتفارقه حينا ً أخرى كما فى الحالة الإنسانية , فهى غير محدودة الفعل والتأثير فلا يوجد سقف يحد قدراتها , كما لا تفارقه الصفة وفعلها لحظة واحدة وإلا أصبحت محدودة تبدأ من لحظة وتنتهى عند لحظة .
إشكالية تواجد الصفة الإلهية بهذه الكينونة أننا لو قلنا أن الله غفور ورحيم فسينال هذا من صفة العدل .!! .. فالمغفرة والرحمة الإلهية ستتحقق مع أى فعل إنسانى مهما بلغ مداه من الخطأ والخطيئة لأنهما من القوانين الإلهية الكلية ومن سمات الصفة الإلهية المطلقة هى قدرتها وعدم محدوديتها لذا ستصطدم مع صفة العدل الإلهى ..فالإله العادل سيمارس عدله على الدوام ولن يمرر أى شئ إلا ونال صاحبه قدره من العقاب مهما كان تافها - " إن الله لا يظلم مثقال ذرة" .
هنا صفتى العدل والمغفرة متواجدتان فى ذات الوقت بلا إنفصال بل فى وحدة داخل الذات الإلهية فلا تَغلب لصفة على أخرى ولا لخمول أو تصاعد صفة على حسب صفة أخرى كحال الإنسان , فكما ذكرنا بأن الإنسان محدود الإمكانيات فإما أن يكون رحيماً أو قاسياً فى اللحظة الواحدة فلا يستطيع أن يمارس الفعلين معا فى ذات الوقت كونه محدود بينما الإله المطلق الغير محدود فلن تتوقف أو تخمد فعل أى صفة لديه للحظة واحدة فصفاته نشطة ومتدفقة على الدوام , ودون ذلك تصبح صفاته محدودة تبدأ من لحظة وتنتهى عند لحظة ..أى تبدأ من فعل صفة لتزيحها فعل صفة أخرى .
من هنا سنجد أن أى فعل أمام الله يتعلق بالرحمة والمغفرة لن يحسم لصالحها فستظهر صفة العدل تطلب القصاص ولو بمثقال ذرة .. وكذلك العدل عند حضوره أمام أى فعل فستتقوض أركانه ويبطل مفعوله فالرحمة والمغفرة ستطلب التدخل والحضور . !!
تزداد الأمور صعوبة عندما نتعامل مع الصفة الإلهية بالإطلاق واللامحدودية واللانهائية الكمية فكلما تصاعد فعل العدل إلى اللامحدودية كلما آلت صفة الرحمة والمغفرة إلى الصفر والعكس صحيح .!! ولكن الإثنين متواجدتين فرضاً وبنفس القوة واللامحدودية .!!
* حكم إستباقى ومغفرة متوارية .
صفة العدل الكائنة في الذات الإلهية لم تتحقق بالرغم من أنها صفة سرمدية وملتصقة بكينونة الإله لأن الرحمة والمغفرة أزاحت فعل العدل... والعدل الإلهي هو الإنصاف وإعطاء الإنسان ماله وأخذ ما عليه... لهذا فإن القاعدة الدينية تنص على أن أي فعل إنساني لابد أن يطاله العدل الإلهي حتى ولو كان صغيرا ً تافها ً لأن العدل الإلهي مُطلق -" إن الله لا يظلم مثقال ذرة"- فإذا كان الإنسان يعاقب أي مخطأ أو مجرم على جرمه حتى ولو ملأ الدنيا اعتذارا ً وندما ً وأسفا ً فلن يشفع له فسيتم ممارسة العدل عليه , فبالحرى يكون العدل الإلهي أكثر قدرة لأنه لن يُمرر أي خطأ إلا ويزنه بميزانه الدقيق ليُحاسب الإنسان على ما فعلت يداه , فكيف إذن نقبل بقرار استباقي ليس للإنسان خيار فيه كما في الآية التالية " خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .. البقرة:7 " ونواصل التأكيد على العدل الإلهي والختم كما يفسره القرطبي هو " مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه : ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك ، حتى لا يوصل إلى ما فيه ، ولا يوضع فيه غير ما فيه ؟ "
هل الله في مثل هذه الحالة عادل بحق البشر أم أن العدل والرحمة والمغفرة صفات تغلب عليها العاطفة والمزاجية فتقسم البشر إلى طبقات كل منها تتمتع بصفة دون الاخرى ! .
بدراسة النص الديني يبدوا جلياً أن تحقق العدل في الفعل الالهي يُعطل صفة الرحمة والمغفرة والعكس صحيح , بالرغم أنها كلها كامنة في الذات الإلهية لم تبرحها سواء في تعاطي النص مع الفرد المؤمن او مع البشر جميعا باختلاف عقائدهم.!
هنا الإشكالية.. فتصاعد فعل صفة العدل يسحق المغفرة والرحمة وأن تواجدت فاعلية صفتي المغفرة والرحمة فستُلغى فعل العدل بالضرورة .
* إشكالية أخرى .
الله عليم وهى من صفاته أيضا والتى تكتسى بالإطلاق واللامحدودية فتجعله يعلم أى حدث قبل وقوعه حتى ولو كان تافها ً ..وعندما ندخل صفة الله العليم فى معادلة العدل والرحمة والمغفرة فستزيد الأمور سوءا ً وإضطرابا ً .
فمعنى أن الله عليم فهو على علم وإدراك بأى حدث وفعل مر وسيمر بك قبل وقوعه ..فيكون الفعل الذى فعلته أو ستفعله هو مُدون ومعلوم مسبقا ً وتم إتخاذ قرار العدل أو المغفرة فرضا ً منذ الأزل وما فعلك المستقبلى إلا تحصيل حاصل وإثبات لما هو مُدون .. وعلى هذا الأساس تكون الأمور محسومة سلفا ً فلا معنى لعدل ومغفرة وكل هذه الجلبة فالأمور مُبرمجة وتتم حسب البرنامج المعد دون أن تحيد عنه .
ماذا نسمى هذا الأمر .. إنها العبثية واللامعنى بعينها .
* إشكالية أخيرة .
نختم تأملنا بهذه الجزئية المنطقية : كيف يكون الله غفورا ً ورحيما ً وعادلا ً قبل خلق الإنسان ؟!!...كيف تتواجد صفة يكون المفعول به والفعل غير متواجد.!!..وكيف يحق إطلاق صفة على موصوف بدون أن يمارس فعل الوصف ؟!..أم أن الصفة هنا مُستحدثة وهذا يقودنا لمن أطلق الوصف , فنحن من نخلق آلهتنا .
* كيف نفهم هذا التناقض والعبثية .
الإنسان أسقط على إلهه صفاته الإنسانية أى أنه منح إلإله نفس الصفات التى فى حوذته وهو فى طريقه لرسم وتجسيد صورة إلهه ..فتصور الإنسان أن العدل يُمارس حينا ً والمغفرة والرحمة يمكن أن تمارس حينا ً آخر كإسقاط لوعيه الإنسانى على صفات الإله . فليس هناك من مشكلة أن يكون الله عادلا حينا ً ورحيماً حينا ً آخر كما نمارس سلوكنا البشرى , فلم يرى الإنسان أن هناك معضلة أن تكون صفات الإله نسبية تتصاعد حينا وتتضاءل حينا ً آخر .. فاعلة حينا ً وخامدة حيناً آخر فهكذا رسمنا آلهتنا بخطوطنا وألواننا ولم تخرج عن الوجود المشخصن الإنسانى .
إعطاه صفة العدل والمغفرة والرحمة للإله كأجمل الصفات التى نأملها ونترجاها فيه جاءت بفكر إنسانى يأمل ويتمنى ويرتجى فى إلهه أن يتحلى بهذا الصفات لتبدد عنه قسوة الطبيعة والعالم المادى ..إذن فليكن الإله متميزاً كملك عظيم يمتلك الكثير من القدرة والفعل لهذه الصفات , ولكن الكثير يجعل هناك مقارنة ونسبية بين الإنسان والإله فيمكن أن تقول بأن الله يمتلك عدلا ً أكثر من عدل الإنسان بألف مرة مثلا ً وهنا سيكون الله مفردة وجودية محدودة شأنه شأن الإنسان ولكن بحجم أكبر من الإنسان نسبيا ً ... ليأتى علماء اللأهوت ليخرجون فكرة الله من ورطتها فيطلقون هذه الصفات بلا حدود أو أسقف تحدها فى قدرتها وفعلها ...ولكنها صفات إنسانية لحما ً ودما ً ولا تحتمل المط واللامحدود فأنتجت التناقض والعبثية بالضرورة.
نحن اخترعنا الآلهة ورسمناها ووهبناها صفاتنا ولم ندرك من فرط تبجيلنا إياها أننا نسقط الفكرة في فخ التناقضات فصفات الإله هي صفاتنا البشرية الهوى والهوية .
دمتم بخير ..
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟