أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وفا ربايعة - ثلاثونَ ساعةَ موتٍ على قيدِ الحياة ..!















المزيد.....


ثلاثونَ ساعةَ موتٍ على قيدِ الحياة ..!


وفا ربايعة

الحوار المتمدن-العدد: 3416 - 2011 / 7 / 4 - 22:07
المحور: الادب والفن
    


في القريبِ ، حيثُ الغُرفُ التي تتشِحُ بالأبيضِ المُكفِّنِ للحُلمِ وللملامِح ، أرتمي كأيِّ جيفةٍ تتلقفُها الأكُفُّ ، وتتقاذَفُها الأسرِّةُ الغبيّةُ ، واحِداً تِلوَ الآخر ، أتذَكَّرُ الجِرذانَ البيضاء ، والتي طالما كانتْ ملاذَ أمراضَنا النفسيّةَ ، بحُجَّةِ الاكتشاف ، وها أنا اليوم ، أُضحي جرذاً أبيضَ القلبِ ، عديمَ الظِلِّ ، لا تعلوهُ أيُّ ملامِح ، لا يراهُ إلاّ الشفقُ الذي يَقلِبُ جوَّ الغُرفةِ المقيتةِ ، إلى اللونِ الذي أهواه ، لونُ اللاشُعور ..!
كُلُّ ما يَدورُ في هذا المبنى هوَ ميّت ، عدا وجهُهُ الأسمر، وثيابُهُ الزرقاء ، يُطِلُّ بنظرتِهِ التي تمنَحُ الأملَ والنورَ للغَد ، ويَمسَحُ شَعريَ باسِماً ، ومَع ابتسامتِهِ المُطوَّلة ولكنَّهُ كالآخرين ، يبتسِمُ ليخرِقَ مسامَ جِلدي ، ويَدُسَّ في أورِدَتي ما يُبقيني غائبَةً عن الدُنيا ، ومُعلَّقةً في السماءِ ، يربِطُني بالأحياءِ قلبٌ مَقتولٌ يدقُّ بانتظامٍ يُثيرُ فُضولي ، ويأخُذُ ما تفتَّتَ من خياليَ المُحتضِرِ إلى البعيد ، حيثُ الكونُ الفسيحُ الذي لا ينتمي إليهِ أحدٌ سواي ، وبِضعَ مخلوقاتٍ تحومُ حولي إلى المالانهاية ، أُطرِقُ لبُرهةٍ : الموتُ رحمةٌ لمن يُضطرُ لِمُمارسةِ الحياة ، وأنا مِمن يُتابِعُونَ مُراهناتِهِم الفاشِلة ، وينتَشونَ بالخسارةِ مرّةً تِلوَ المرَّةِ ـ برأيي ، كُلُّ مَن حَولي بحاجةٍ إلى فُسحةٍ هادئةٍ وللكثيرِ من الورق ، كي يُشفوا من تشبُّثِهم بالحياة ، فلو كانَ في هذهِ المقبرةِ المُعلَّقةِ طابِقاً طابقاً ، ما يكفي من الأوراقِ والأقلام ، لكُلِّ مَن يدورُ في أروِقَتِها ، لما وُلِدَت فكرةُ وُجودِ المُستشفياتِ على الإطلاق ..!

أُتابِعُ تسلسُلَ أفكاري بانتظام ، فأنا لستُ بحاجةٍ إلى المئاتِ من المَجسَّاتِ التي تخترقُني نازِعةً أيَّ شُعورٍ ، قد يخطُرُ ببالِ أيِّ طبيبِ يزورُ جُحري ، ولا إلى كُلِّ تِلكَ الأسلاكِ المُتَّصِلةِ برأسي ، والتي تنتهي بجهازٍ يُدمِنُ رسمَ الخُطوطِ المُتعرِّجة . أرأيتُم ، كيفَ أنَّ الخُطوطَ المُستلقيَةَ على الورقِ هيَ عُقدَتُنا الأزليّة ؟ فحتى الأجهزةُ لم تسلَم من شبَقِنا للكتابة ، وكأننا نُرغِمُ كُلَّ ما حَولَنا ، على مُمارسةِ استمنائِنا المُتعلِّقِ بالورق ، إذاً ، لقد بدأتْ معالِمُ المقبَرةِ الحديثةِ والخاصةِ بي بالتكوّن : سريرٌ بملاءةٍ بيضاءَ تتمازجُ الألوانُ الحيّةُ فيها بغباءٍ ، حيثُ أنَّها لا تتناسِبُ معَ الساكِنِ الجديدِ للتابوتِ المفتوح ، ونافِذةٌ تتراءى السماءُ أمامَها واسِعةً ، كعينيِّ قِطّةٍ أفاقَتْ لتوِّها من النومِ ، وساعةُ حائطٍ تقِفُ أفاعيها بشموخٍ أمامي ، مُعلِنةً انتصارَها ، وملايينٌ من الأصواتِ التي لا تنتزِعُها من رأسي ، سِوى ، علاماتُ استفهامٍ كثيرةٍ ، ولا إجابات..!

ساعاتٌ خمسٌ تمُرٌّ ، وأنا مُغيَّبةٌ عن الحياة ، بعينينِ مفتوحَتيّن ، وأنفاسٍ مُتتابعةٍ بترنيمةٍ ثابِتة ، ورغبةٌ باحتساءِ الكثيرِ مِنَ القهوةِ معَ نفَسٍ صغيرٍ من سيجارةٍ لا تنتهي ، وأُرغَمُ للمرَّةِ الأولى على الانتظار ، لكنَّ انتظاري هذهِ المرّة لا يَقودُني إلى أيِّ نهاية ، فأُحاوِلُ أنّ أُجنبَ رأسي المزيدَ من الأسئلةِ التي لا تؤدي إلاّ إلى الفراغ ، فأُضطَّرُ إلى انتظارِه ، علَّهُ ينزعُ عن رأسي الأسلاكَ التي تقتَنِصُ الفُرصةَ ، كي تمتصَّ أفكاري ، لتُحوِّلَها إلى خُطوطٍ مُتشابِهة ، لا يُكادُ يُميَّزُ بينها ، وفجأةً ، أتذكَّرُ المادةَ اللزجةَ التي وُضِعت بينَ خُصلاتِ شَعري لتثبيتِ مِجسّاتِ جهازِ التخطيطِ الدِماغيّ ، والتي تُصيبُني بالغثيانِ في كُلِّ مرَّةٍ أُحاوِلَ إزالَتها ، ولوهلةٍ لا أكترِثُ لوجُودِها ، فبَعدٍ قليلٍ ، سأُضطّرُ لإزالةِ شَعري بأكملِهِ ، شَعري الذي بقيَ يُقاوِمُ تَقلُّباتِ شُعوري ولم يَمُتْ يوماً واحِداً ، أرفعُ عينيَّ إلى الأعلى وأُفكِّر : كم هوَ عقيمٌ هذا العلمُ الذي ينتزِعُ من أجسادِنا كُلَّ ما هُوَ على قيدِ الحياة ، ليُحافِظَ على دقّاتِ قلبٍ ماتَ مُنذُ زمن ..!

وأخيراً ، يأتي المساءُ مشلولاً إلى الغُرفة ، وتنخفِضُ الأصواتُ بصورةٍ قاتلة ، فالليّلُ سوأةُ المرضى ، ورُقعةُ صراعِهم المريرِ مع الموت ، وليّلي صِراعٌ مع لا شعورٍ وحياةٍ أرغبُ بفصلِهِما عن جسدي ، كُلُّ ما حولي يموتُ دونَ أن يلَحظَهُ أحد : الجُدرانُ التي تنتَصِفُ باللونِ الأزرق ، بابُ الغُرفةِ ذو الزجاجِ المُهشَّم ، حتّى الغيومُ التي تتكَبَّدُ عناءَ المُضيِّ في سماءٍ تضيقُ في عينيّ ، و برغبةٍ مخلوقٍ يعشقُ الموتَ لسببٍ مجهول ، أُسندُ رأسي ليمسَحَ بأصابِعِهِ على شَعري ، كطفلةٍ استحقّت قطعةَ حلوى بعدَ مُذاكرَتها الطويلةِ لدرس الانتظار، يُطيلُ التامُّلَ بوجهي ، ودونَ أن أهمسَ بحرفٍ واحِدٍ ، أنتزعُ قلمَهُ المُعلَّقَ بقميصِهِ الأزرق ، وبِضعَ أوراقٍ من سِجلِّ مُتابَعةِ المرضى ، فيُدرِكُ بعينيِّ جرّاحٍ بُغضيَ للأطبّاء ، أترُكهُ يتخبَّطُ في البحثِ عن إجابة ، لكنني لا أُريحُ عَقلَهُ المُتعَبَ ، مَنعاً لأفكارِيَ المُتناحِرةِ من التلاشي ، فالمُسمَّى واحِدٌ لِكِلى القصَّتين : طبيبٌ ينزعُ مِنّي حياةً بأكمَلِها ، يستأصِلُ روحاً بكامِلِ عُنفوانِها ، ويقتُلُ كُلَّ ما يتعلَّقُ بأطرافِها من أحلامٍ أو معالِم ، في مُحاوَلةٍ لمُمارسِةِ أمراضِهِ النفسيّةِ المُستعصيّة ، والتي تُوِّجَت بانتِهاكِ حُرمةِ مشاعري ، وهتكِ عُذريّةِ قلبي ، تارِكاً إيايَ جيفةً لا تَمُتُّ إلى واقِعها بأيِّ صِلةَ ، وآخرٌ يُحاوِلُ الوُلوجَ إلى تِلكَ الروحِ المقتولة ، علَّهُ ينجحُ في إبقاءِ كَفَنِها ناصِعاً ، وأكثرَ انسِجاماً مع تقلُّباتٍ طقسٍ يَكادُ لا يعنيها ، لكن كيفَ لكَ أن تُميِّزَ بينَهُما ؟ حيثُ أنَّ كُلَّ الأطبّاءِ هُم قتلَةٌ بمرتبةِ الشرف ، ولو كُنتَ طبيباً فأنتَ خالٍ من الشُعور ، وإنّ كُنتَ تدَّعي بأنَّكَ تمتلِكُ قلباً ، فأنتَ طبيبٌ فاشِل ، أو أنتَ موتٌ مُحكَمٌ لا يُمكِنُ الإفلاتُ مِنه ، وهُوَ لا يُدرِكُ بِخبرَتِهِ ، أنَّ الموتى الذينَ يُثابِرُ – بجهلِهِ – على منحِهم الحياةَ ، يُمضونَ ما تبقى من أوقاتِهم ، في حِسابٍ لا ينتهي معَ الأقدار ، تِلكَ الأقدارُ التي لطالَما أعطتهم آمالاً بالحياة ، وها هُم الآنَ مُجرَّدَ قُشورٍ تُخفي في جوفِها ، ملايينَ الخيباتِ المُتتابِعةِ ، والتي كانَ آخِرُها ، الرُقودُ في تابوتٍ مفتوح ، أمامَ نافِذةٍ مُشرَّعةٍ تنتَظرُ الصُبحَ الموبوء

وبعَدَ صِراعِهِ الطويلِ مع عِظامِ جُمجُمتي المُتعَبةِ ، لانتزاعِ فِكرةٍ واحِدة ، قد تُغيِّرُ هجومَهُ المُباغِتَ على خياليَ الحيّ ، يُغادِرُ الغُرفةَ تارِكاً حيرَتهُ إلى جانِبي ، وأوراقاً أغرَقها الدمعُ قبلَ أن يُلامِسها مَنيُّ القلم ، وقبَلَ أن يُقفِلَ البابَ يؤكِّدُ بأنهُ سيكونُ بالجوار ، وأهمسُ لهُ بذاتِ الصوتِ المُحتضِر ، بأنني سأكونُ بانتَظِارِه في الصباح ..!
الخامِسةَ صباحاً ، حصيلةُ أربعَةَ عشرَ ساعةً في مرقَدي هذا ، تُقابِلُها ساعةُ نوم ، تتخلَّلُها الدُموع ، بعدَ حُلمٍ مريرٍ، مليءٍ بالأحداثِ التي كُدِّسَتْ في ساعةٍ واحِدة ، وكأنَّ خياليَ يُحاوِلُ ترتيبَ مشاهِدَ كثيرةً في الحُلمِ ، فالزَمنُ في حالَتي مَخلوقٌ ضعيفٌ في ضُمورٍ مُستَمِّر ، فَهُو يُسارِعُ في تصويرِ النهايةِ الحتميّةِ لقصَّتي ، قبلَ أن ينتهي الوقت ، والحُلمُ باختِصارٍ شديدٍ : طبيبيَ المريض ، بذاتِ الوجهِ والعينينِ ، وابتسامةٍ أُخرى تقتُلُ لهفتي لرؤيةِ ثغرِهِ الباسم ، وطعنةُ مِبضَعِهِ في خاصِرتي ، تاركاً إيايَ أغرقُ بدماءِ الخِيانة ، وبذاتِ الابتسامةِ البريئةِ التي تُخفي سُمومَهُ ، يرمُقُ جُرحيَ المفتوحَ ، و يمضي مع جميلةٍ جديدة ..!

الحُلمُ البغيضُ ذاتُهُ ، يتكرَّرُ في كُلِّ مرّةٍ حاولَت أنفاسِيَ مُزاوِلةَ الراحةِ ، وفي كُلِّ حُلمٍ جميلةٌ جديدة ، لذا قرَّرتُ الاحتِماءَ مِنَ الجُرحِ الغيابيِّ بالأرق ، علَّني أجِدُ مُتنفَّساً لعقلٍ أنهكتهُ الأورامُ والأفكار ، سُكوتٌ لحظيٌّ بينَ الديناميكيّةِ والاستاتيكيّةِ ، يُعيدُ إليَّ قُدرَتي على ترتيبِ الأحداثِ بصورةٍ أدقَّ ، وفي لحظةٍ يُشَتِّتُ وجهُهُ الأسمرُ جميعَ حِساباتي ، مُعيداً لبريقيَ الخافِتِ ، طُفولةً فقدتُها أثناءَ انهماكي بوضعِ علاماتِ الاستفهامِ الكثيرة ، أقطعُ صمتنا بكلمةٍ تحمِلُ في جُعبَتِها الكثيرَ من الأسئلةِ والخيباتِ والدموعِ وملامِحِ الذهولِ التي اعترَتني مُنذُ بدايةِ انهياراتي المُتتابِعةِ في الأشهُرِ القليلة ، والتي انتَهتْ – كما قِصَّتي الأخيرة – بحُفرةٍ تنهَشُها السُطورُ التي لا تُنهيها إلاَّ العلاماتُ التي قرَّرتُ وضعَها بقوليَ : لِمَ ؟
لِمَ ، حرفانِ مُتلازِمانِ ، لطالَما أثارا في نَفسي دوائرَ لا تنتهي ، في مُحاوَلةٍ يائسة لإيجادِ علاقاتٍ سببيّةٍ بينَ الأشياء ، يُحاوِلُ نديمٌ – كما ارتأيتُ أن أُسمّيَه – أن يجتثَّ حِممَ الأسبابِ التي تؤدّي إلى وجوديَ مُعلَّقةً ، بينَ تينِكَ الحرفينِ ، ولا جدوى ، فسِلسِلةُ الأحداثِ الكثيرة والتي ابتدأتها " الكسرةُ " على اللّام لن تَنتزِعها من رأسي إلاّ " فتحةُ " تنَفُسٍ تُبقيني بخيرٍ إلى أنّ أُقرِّرَ ماذا سأكون بَعدَ كُلِّ خيبة ، وأخيراً ها أنا أضُمُّ بينَ إصبعيَّ لُفافةً مُشتَعلة ، أفرَجتْ عن ابتسامةٍ خالَها للحظةٍ ، أنَّها لا تندَرِجُ ضِمنَ قوائمِ معالِمِ وجهي ، لُفافةٌ تقرأُ على مُحيَّايَ فواتِحَ آمالٍ – وإن كانتْ مبتورةً – لحياةٍ أُخرى تُولَدُ في الغد ، وأيُّ غدٍ يا نديمُ سيأتي لقلبٍ مَقتول ؟

واُضيفُ بنظرةٍ أُخرى ، تحدياً لم أعهَدهُ من قبل ، رِهانٌ جديدٌ على تَحوُّلي ، إلى مخلوقٍ آخر ، مَخلوقٌ يُصِّرُ على المُتابَعةِ ، حامِلاً مخزونَ آبارٍ من الحِقدِ التي خُيِّلَ إليهِ أنها لم تَكُن موجودةً على الإطلاق ، أُقرِّرُ بأنني سأنزعُ جِلدَ البراءةِ عنّي ، وسأعودُ مُخبِّئةً عينينِ مشقوقَتيّنِ طوليّاً ، وقد أحمِلُ أيَّ ملامِحَ مُشوَّهةٍ ، فلَم يعُد يعنيني إلاّ الانتقام ـ فدُنياً كهذهِ ، والتي كُلَّما ازددتُ فيها براءةً ازدادتْ شِدَّةُ طعناتِها ، لا تستَحِقُّ مِنِّي إلاّ ، العودةَ إلى أروِقَتِها ، أحمِلُ نعشَ قلبيَ الصغيرِ بيديّ ، وأُخفي تحتَ لمعةِ مُقلَتيَّ ، الرغبةَ في الانتقامِ ممِن شارَكَ بِسقوطي ، أُقفِلُ نقاشيَ الهاديءِ معَ نَفسي أمامَه ، مُعلِنةً الرغبةَ في النوم ، فلا يملِكُ إلاّ أن يتمنّى لوجهيَ ابتسامةً لا تموت ، ويُقفِلُ البابَ ، لأبدأَ مرحلةَ التحوُّلِ الجديدِ قلباً وقالِباً ، دونَ أن يلَحَظَني أحد.
ياه ..!! إنَّها العاشرة ، موعِدُ نُزهتي المُحبَّبةِ إلى غُرفةِ الأشعّة ، والتي تتكَرَّرُ كُلَّ ثلاثِ ساعاتٍ ، وعلى الكُرسيِّ المُدولَب ، أجلسُ وأرفعُ ساقيَّ بفرحٍ طُفوليٍّ إلى الأعلى ، وتقودُني المُمرِضةُ إلى هُناك ، وفي الطريق ألمحُ نيفين مريضةَ اللوكيميا والتي تقفُ دائماً على النافذةِ الشرقيّةِ في الغُرفة ، مُحاوِلةً أخذَ نَفَسٍ خالٍ من رائحةِ موادِ التنظيفِ – كما تدّعي عَلَناً – وسِرّاً تنتَظِرُ بوجهٍ ملؤُهُ اليأس ، خطيبَها الذي سارَعَ بفسخِ خُطوبَتِهِ حالَ علمِهِ بمرضِها ، بعدَ قصّةِ حُبٍّ دامَتْ خمسَ سنوات ، وفي الحُجرةِ المُجاورة ، أمُّ علي العجوز المُصابةَ بسرطانِ الرئة ، والتي يُحاوِلُ الأطبَّاءُ عبثاً أن ينتَزِعوا من يديها جهازَ الأكسجين ، وهيَ تتشبَّثُ حتّى النَفَسِ الأخيرِ ، بالقليلِ من الهواءِ المسلوبِ من قُطيراتِ الماءِ المُنسدِلةِ في الجهاز الموضوعِ جانِبَها ، أبتسمُ بسُخريةٍ بالغة : حياتُنا بِرُمّتها ، تتمحوَرُ حولَ " الهواءِ والهوى " فأيُّهما عندما يُفقدُ من أدراجِ أجسادِنا ، يُحيلُنا إلى جِيَفٍ مُتحرِّكة ، تُمارِسُ المُضيَّ إلى حيثُ تَقودُها يدٌ خَفيّةٌ " ما " ، تلكَ اليدُ الإلهيةُ التي حاولتُ مُنذُ صِغري تكوينَ أفكارٍ كثيرةٍ تدورُ حولَها ، لكنني وبَعدَ جهدٍ جهيد ، أرفعُ يديَّ مُستسلِمةً لرغبةِ تلكَ اليَدِ العُليا .

" لا يوجَدُ جسدٌ سليم " ، تدورُ تلكَ العبارةُ معَ رَكبِها في رأسيَ المُثقَلِ بالجبالِ المُتراكِمةِ من الأسئلةِ والأفكار ، فحتّى العلمُ الحديثُ لم يتَمَكَّن من مَنحِ أيِّ جسدٍ صِحّةً كامِلةً أو حياةً مُعافاة ، فكُلُّنا مرضى ، ولكِنَّ نَزعَةَ كُلٍّ مِنّا لتقَبُّلِ تلكَ الحقيقةِ مُختَلِفةٌ ومُتفاوِتة ، وفي لَحظةٍ مُستَقطَعة ، أشعرُ بأنَّ يداً ما قد أطبَقتْ على أوراقيَ المتروكةَ تحتَ الوسادة ، وعِندَ وُصولِيَ إلى غُرفةِ الأشعّة ، كانَ سيناريو العبثِ بالأوراقِ – الذي تخيَّلتُهُ - مُرتَباً في رأسي ومُشاهَداً وحائزاً أيضاً على تصفيقيَ الطويلِ .
وفي غُرفةِ الأشعّةِ المُظلِمة ، والتي أُضطَّرُ فيها – كُلَّ مرّةٍ – إلى نزعِ سلسِلتي الفضيّةِ من عُنُقي ، وأقراطِيَ الفِضيّةِ ، و تزادُ مُخيِّلتي اتِساعاً - أرقاً ، عِندما أُحاوِلُ حَصرَ الأجسادِ المُنهكةِ التي أمَلَتْ ببصيصِ نجاةٍ حالَ دُخولِها إلى هذه الغرفة ، وخرجتْ مِنها بدمعةٍ مخنوقة ، وفي طريقِ عودَتي إلى جُحرِيَ الصغير ، تحتَلُّ أوراقيَ المُخبَّأةَ تحتَ الوِسادةِ ، المَقعدَ الأوَّلَ والوحيدَ في رأسي ، وِعندَ وُصولي ، يكونُ المشهَدُ الأوَّلُ في أوجِهِ ، فعلاماتُ الذُهولِ تعلو وجههُ بصورةٍ فاضحة : " أيُّ مُخيِّلةٍ سبعُ فضائيّةٍ تمتَلِكُها هذهِ الصغيرة ؟ وأيُّ عقلٍ قد يحمِلُ هذا الكمَّ الذي لا ينتهي مِنَ الأفكارِ والخُطوطِ التي تتقاطعُ بِصورةٍ غريبة ؟ وأيُّ تحليلٍ تفصيليٍّ لأمورٍ قد نراها اعتياديةً ، قد حازَتْ على الكثيرِ من التفكيرِ والتمحيصِ والفَضاءِ التَخيُّليّ ؟ عَقلٌ يعمَلُ كـ ساعةٍ سويسريّة ، يستَحيلُ أن يكونَ مُصاباً أو حتى مُنهكاً بصورةٍ جُزئيّة ..! "
وفي غمرةِ إنصاتي لجُمَلِ الدهشةِ التي امتَطتْ معالِمه ، أُحاوِلُ ترتيبَ إجاباتٍ لا امتَلِكُها ، حتّى أُفلِتَ مِن مِشنقةِ القِصّةِ ذاتِها ، والتي أُمارِسُ تناسيها منعاً لانهيارٍ آخرَ قد يتعلَّقُني جرّاءَ التذَكُّر ، أبتَسِمُ بسُخريتي المُعتادةِ في وجههِ : عِلمُكَ أيُّها الطبيبُ لا يَعي أنَّ الأجزاءَ التالِفةَ والمُصابةَ ، تعمَلُ دائماً بأقصى طاقةٍ لديها ، حتى تتمكَّنَ من نفيِّ تُهمةِ التقصيرِ والضعفِ والمرضِ عن كاهِلِها . أحفَظُ حُرمةَ دموعيَ مُحتَميةً بالصمتِ القاتِل ، فأنا أُدرِكُ أنَّ حرفاً خارِجاً ، سينسِلُ نسيجَ الجُرحِ الذي أتمنّى أن يندَمِل إذا ما قُرِّرَ – بعدَ ساعاتٍ – بأنني سأُمارِسُ الموتَ وأعودُ إلى جُدرانِ جُحريَ الأكبر هُناك ، وإلى دوّامةِ الروتينِ التي لا تنتَهي إلاَّ بُفقدانِيَ لحروفٍ ثلاثٍ ، هي حُروفُ اسمي ، لِذا ، أُقرِّرُ أنني أُريدُ المُراوَغةَ في إجابتي لأسئلَتهِ المُختبئة ، سأكتفي الآنَ فقط ، بأن أُمارِسَ دورَ الغبيّةِ أمامَه ، وأنّ أتمنّى بأن تَقِفَ الدُنيا عن الدورانِ كي أستطيعَ النزول ، إلى حيثُ أُحسُّ بالأمانِ ولو لمرّةٍ أخيرةٍ في عُمري ، وفي خِضَمِّ وُصوليَ إلى بؤرةِ الأفكارِ المُحرِقة ، أفقِدُ الوعيَ من جديد ، وعندما أستيقِظُ ، أجِدُ أنَّ طبيباً جديداً قد أُضيفَ إلى اللائحة : طبيبُ الأعصاب ، أو شارلوك هولمز – كما أُسمّيه – سِرّاً ، وهُنا بعمليةِ حِسابٍ صغيرة ، أُقدِّرُ أنَّ وقتاً سُيقتَطَعُ مِن عُزلتي هذه من أجلِ التحقيق ، وكما أيِّ مُتَّهمٍ أُدينَ دونَ أن يَدري ، ألتزِمُ الصمتَ الطويل ، حتّى لا يحصُلَ الخصمُ على إيماءةٍ واحِدة تَغرِزُ إدانَتي أكثرَ فأكثر ، فلَيسَ لديَّ هُنا مُحامٍ يرفَعُ وِزرَ السِهامِ التي تُصيبُ القلبَ وتنبِشُ المدفونَ من ماضٍ وذكريات ، إذاً ، عليّ أن أُحافِظَ على اتزاني وهُدوئي ، حتّى أتمَكَّنَ مِنَ الإفلاتِ من حبلِ مِشنقةٍ آخر ، قد يَلتَفُ حولَ جيدٍ ما عادَ قادِراً على حملِ سلسِلةٍ صغيرة ، وبالتِفاتةٍ سريعةٍ إلى الحائطِ المُتباكي على أكوامِ خرائبي ، ألمحُ الساعةَ تُشيرُ إلى الثانيةَ عشرَ ليلاً ، يا إلهي ، ثلاثونَ ساعةَ انتظارٍ قد مرَّت ..! أودَتَ بسِنيِّ عُمرٍ حمَلَ الكثيرَ إلى سلَّةِ المُهملات ، مع أوراقِ إدانتي التي ضُبِطَت أسفلَ وِسادَتي والمُدرجةِ على طاولةِ الطبيب ، أهزُّ رأسي ببؤس : لا مفرَّ الآن ، إنّها النهاية ، سيُدَقُّ عُنقُ شُعوري ..!
وبعدَ عِراكٍ طويلٍ معَ أفكاري المُنتزعةِ من الورق ،أقِفُ بِكبرياءِ ورِعٍ سيُقادُ إلى المِحرقة ، وأُطالِبُ بما أمتلِكهُ من أدلةٍ كي تُحرَقَ إلى جانِبي ، حتّى أشعُرَ على الأقلّ ، بأنني لن أموتَ وَحدي ، فشخصٌ عاشَ حياتَهُ مُحاطاً بالنّاسِ ، مِنَ الصعبِ أن يتَقبَّلَ فِكرةَ الموتِ في حُفرةٍ جانبيةٍ صغيرة ، وحيداً ورَطِباً ، ومُبللاً بملايينِ السُطورِ التي لم تكتَمِل : لم يتبقى لديَّ في منفايَ هذا ، سِوى خمسُ أوراقٍ تتمَحورُ حَولَها حياةٌ كامِلة ، مَضَت في زمنٍ قليل ، وفي أوجِ تشبُثي بحياةٍ دُوِّنت على الورَق ، يتدَخَّلُ نديم ، مُنقِذي الوحيد في هذه المقبرةِ المُعلَّقة ، وبنظرةٍ هادئة ، يُعيدُ إليَّ أوراقي ، إنَّهُ يُكافئُني مرّةً أُخرى على صبري ..!
وفي أثناءِ عودَتِنا إلى الغُرفة ، يُشيرُ إلى الورقِ قائلاً : ستمضي ثلاثونَ ساعةً أُخرى ، وستمضي دونَ ورَق ، بِناءً على رغبةِ المُحقِّق ، أقلِبُ أمامَهُ كفيَّ باستسلامٍ ، ويهمِسُ بعينينِ ملؤُهما الغرق : سأكونُ بالجوار ، فلقدْ بدَأتْ فِعليّاً - ومنذُ هذهِ اللحظة - ثلاثونَ ساعةَ موتٍ على قيدِ الحياة ..!



وفا ربايعة ..
1 / 7 / 2011

" للموتِ وجهٌ آخر .. هوَ أنت " ..!



#وفا_ربايعة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إطارٌ أخيرٌ .. ولا صُوَر ..!
- محاولةُ انتحار رقم (1) ..
- سالعَنُ حيفا ..!!
- لا تعتذر ابداً للعابرين !!
- أنا .. وأنتَ .. وحنّا السكران !
- أعِدْ لقيثارتي لحنَ السلام !!
- أحكي لغيمِكَ : عُدّ .... وأنتَ لا تأتي !!!!
- بوحٌ قاصر !!!
- قبلةٌ لعينينِ من ما !!!
- غواية !!!!
- سقطَ القِناع .. عن القناع نصٌّ مُعتَرض - ليسَ للحذف -
- ذاكرةُ الماءِ المنسيّة ...
- بعضٌ من بقاياه !!
- هاربةً من نسيان .
- سنةٌ واحدةٌ كافِية !!
- جدارٌ و وطنُ على ظهرِ الغيمْ !!
- احتمالاتُ صُوَر


المزيد.....




- من دون زي مدرسي ولا كتب.. طلاب غزة يعودون لمدارسهم المدمرة
- فنان مصري يتصدر الترند ببرنامج مميز في رمضان
- مجلس أمناء المتحف الوطني العماني يناقش إنشاء فرع لمتحف الإرم ...
- هوليوود تجتاح سباقات فورمولا1.. وهاميلتون يكشف عن مشاهد -غير ...
- ميغان ماركل تثير اشمئزاز المشاهدين بخطأ فادح في المطبخ: -هذا ...
- بالألوان الزاهية وعلى أنغام الموسيقى.. الآلاف يحتفلون في كات ...
- تنوع ثقافي وإبداعي في مكان واحد.. افتتاح الأسبوع الرابع لموض ...
- “معاوية” يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العر ...
- ترجمة جديدة لـ-الردع الاستباقي-: العدو يضرب في دمشق
- أبل تخطط لإضافة الترجمة الفورية للمحادثات عبر سماعات إيربودز ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وفا ربايعة - ثلاثونَ ساعةَ موتٍ على قيدِ الحياة ..!