|
حدائق النور لأمين معلوف: حكاية نبي أخطأ الزمن
رشيد منيري
الحوار المتمدن-العدد: 1015 - 2004 / 11 / 12 - 09:14
المحور:
الادب والفن
"-إلى الأبد؟ ماني: إلى أبعد في « حدائق النور »، يكتب أمين معلوف سيرة خاصة ، لنبي عاش في القرن الثاني في بلاد ما بين النهرين، لكنها تتجاوز ذلك لتؤرخ لزمن يتواصل، يزداد فيه العطش إلى التسامح و الجمال بقدر ما تتسع مساحة الدمار . إن الجزء الأعظم من تاريخ البشرية كان و لا يزال تاريخ صراع، لكنه أيضا تاريخ نبوءات، و ماني، الذي يحكي الكتاب سيرته أو ما تبقى من سيرته بعد عصور من الكذب و النسيان، واحد من أنبياء الجمال و التسامح و الحب. 1 أدهش ماني جمال الكون. لكن دهشته لم تكن لتجعله يتخلى عن رزانة الحكيم و وثوقيته لصالح تشكك الفيلسوف أو خيالية الفنان .كانت نبوءته دعوة لاكتشاف الجمال الكامن في الإنسان و محيطه الواسع، لهذا كان يشجع "المختارين" ممن اتبعوا دعوته [ يَرفُض كلمة أتباع] إلى ممارسة الفنون:"إن الشرارة الإلهية موجودة فينا جميعا... و على كل أحد أن يغذوها بالجمال و المعرفة، و بهذا تتمكن من التألق."(1) ، و بالإضافة إلى كونه طبيبا بارعا، كان ماني أحسن رسامي عهده و المؤسس الأول للرسم الشرقي، و حين شاء شاهبور امبراطور الشرق وقتذاك أن يخلد صورته جريا على تقاليد الأسرة الإمبراطورية فإنه لم يختر غيره لهذه المهمة: "-تقضي عاداتنا منذ القدم بأن يطلب كل ملك من أمهر رسامي عهده أن يرسم له صورته. و قد قيل لي بأنه أنت أيها الطبيب البابلي. أفتكون يدك لا تزال ثابثة؟ -تظل يدي طائعة. -لقد أحضرت إلى هنا الكتاب الذي يضم صور أسلافي لترى أي طريقة ينبغي أن تتبع. -لي طريقتي الخاصة في الرسم. -ظننت أني سمعت أن يدك طائعة؟ -رأسي يرسم و يدي تطيع." (2) و كان عميق الإحساس بالموسيقى؛ يَعتبر أنه في فجر الكون كانت المخلوقات جميعها تسبح في نغم علوي قبل أن ينسينا إياه سديم الخلق .قال مخاطبا رازاف عازف القيصر: " غير أن عودا مدوزنا مع روح الفنان قادر على بعث تلك النغمات الأصيلة...". كان ماني فنانا موغلا في العظمة، و ربما أخطأ طريقه نحو النبوءة. 2 " أومن بجميع الأديان و لا أومن بأي منها" كانت سماحة ماني إنسانية في عمقها ، فما يهمه هو الإله الذي بداخل الإنسان و الذي يقويه هذا الأخير بالجمال و المعرفة، فمصير العالم بيد البشر. قوتان أساسيتان في رأيه تحكمان الكون: قوة "ملك حدائق النور" و "قوة سيد الظلمات". لم يَخلق أحدهما الآخر و لا يملك أحدهما مصير الآخر و الإنسان في الأخير هو الطرف الحاسم:"لقد عهد ب"الخلق" إلى الإنسان. و إليه يرجع قبل أي كان أن يجعل الظلمات تتقهقر." (3)، و ما كان يجعله منفتحا على كل الأديان ،حتى الوثنية منها، هو إيمانه بالإنسان، لم يكن يراعي لاختلاف المعتقَد مادام المعتقِد هو نفسه." إن لكل شعب تقاليد دونت في شرائعه و نسبها للمشيئة الربانية"(4) و بالإمكان القول أنه في إصراره على الإنسان و على الجمال فيه، كان ماني قد سبق بأزمان عديدة دعوات النهضة الأوربية و الفلسفات المعاصرة، و لو أن هذه طرحت المسألة بشكل مختلف فيه خلو من نزعة الزهد و تحرر من الباطنية المفرطة. كان بهذا المعنى تقدميا إلى حدود بعيدة، متجاوزا عصره ، و لا نعتقد على العموم أن هذه الخصلة الأخيرة محمودة بالنسبة ل"نبي"، إذ لربما كان هذا- كما تساءل الكاتب- أحد أسباب إخفاق دعوته. لقد عُذب ثم قتل مصلوبا. 3 اختار ماني حياة الزهد. و لم يتخذ امرأة و لو أن علاقته ب"ديناغ" لم تكن واضحة حتى لمناصريه تبعا للكاتب. و كان يحمل موقفا إيجابيا من النساء عكس دعوات عديدة أخرى، " إن الشرارة الإلهية موجودة فينا جميعا... إنها ليست ذكرا و لا أنثى" (5). وقد كان مرافقه الأكثر قربا إليه امرأة هو من طلبها من هرمز ابن الإمبراطور، و وارث العرش بعده، دون أسباب مباح بها. الإلتباس العاطفي حين يتعلق الأمر بحياة نبي هو أمر مثير. و من بين مناصري ماني كانت هنالك كثرة من النساء، منهن من حرقن مع كتاباته لما رفضن البصق على اسمه. و حين استشهد على الصليب، رحن في بادرة جميلة يقبلن شفتيه تباعا. 4 رفض ماني أن يكون نبي الإمبراطور و أن تسفك باسمه الدماء و لو مقابل تحول ديانته إلى دين البلاد الرسمي بتبني "ملك الملوك" له.و لم يعط رأيا في الحرب حين كان العاهل يستجدي توأمه السماوي. لكنه سعى دائما إلى التدخل لصالح السلام حتى اصطدم مباشرة بالقصر. وفي الوقت الذي كانت فيه جيوش الإمبراطور تحارب، كان هو ينشر دعوته مناديا بالجمال و السلام. اعتقَدَ دائما أن أمور الأرض ليست ما يعنيه بل الأشياء الأخرى الأبدية و الكاملة. كان يبتعد عن ممارسة السياسة في حين يمـــــارس )يدري أو لا يدري(تلك السياسة التي يرفضها القصر و التي لم يكن عصره ناضجا لها ماديا. يقول الإمبراطور شاهبور مخاطبا ماني:" إن حبي لك أشد من حبي لولدي أنفسهما. و ما دمت حيا فما من يد ستنال منك، لا يدي و لا أية يد غيرها. و لكن لماذا تصر على الحديث عن إلغاء الطبقات؟"(6).يدعو ماني إذن للمساواة، و يرفعها إلى مستويات فوق مادية لكن للواقع مرآته التي تعرف جيدا منطق الإنعكاسات. و ما أثار حفيظة الملاكين ميسوري الحال هو المساواة المادية التي كان يصلهم حَرها و هي لا تزال فكرة في مهد. لكن هذه الدعوة لم تكن صدى لتحولات اجتماعية عميقة في واقع الشرق و لا كان لها صوت سياسي ليشكل امتدادا لإرهاصات تحول مفترض، كانت "خالصة".لهذا لم تكتمل. لم تنضج في صهد الحياة. تماما لأنها كانت بالحاجة إلى الكثير من الواقع..فالجمال الذي كان ينشده ماني كان محتاجا إلى محاربين بنفس حاجته إلى حكماء. لكن ماني لم يفكر هكذا . وحتى لو فعل فهل كان سيسعفه ظرفه التاريخي؟ لقد كان ماني بمنطق أمير مكيافيلي، نبيا أعزلا و كل الأنبياء العزل أخفقوا في حين انتصرت دعوات الأنبياء المسلحين. 5 كان ماني نبيا قريبا من الأرض. كان الوحي قريبا منه، يأتيه إلا من توأمه أو صنوه الذي رآه أول مرة على صفحة ماء في بستان النخيل . هل سيكون مجرد حذلقة أن نقول أن وحيه يأتيه من نفسه، كما تجيء المبدع لحظات توهجه و قوته ؟ألا نستطيع أن نقول أن لحظات الإبداع عند ماني أو لنقل لحظات الإلهام كانت بالقوة التي جعلته يسمي إلهامه وحيا و يقتنع بذلك. ألم نفترض بداية أنه قد يكون بالأساس فنانا موغلا في العظمة و الإبداعية إلى حد أخطأ طريقه إلى النبوءة؟ ألم تكن قدرته الشخصية تحديدا على استحضار بواطنه و التمكن منها هو ما جعل دعوته تنصب على قوة الإنسان الباطنية؟ المهم هنا هو أنه كان مخلصا لما قاله بشأن "النور" .فنبوءته كانت بداخله، تخرج إليه حين تشاء أو حين يحتاجها و تشاء، و كانت هي نوره الوهاج. حين يُسأل ماني ويُطلب منه أن يعطي رأي صنوه السماوي كان يأخذ وقتا -يختلف كل مرة- في انتظار وحيه ، و كأنه يُلهَم بالمعنى السالف الذكر. كانت نبوءته الإنسان و كان وحيه منه؛ هو الإنسان . إن انسجاما أثيرا يحكم تاريخ و أفكار ماني.
6 ابتدأت معاناة ماني مع المتطرفين من خلال تجربة " الناصريين" الذين يكثر ذكرهم في الكتاب باسم "أصحاب الملابس البيضاء".كانوا يعتكفون في بستان نخيل بعيدا عن "المدائن" عاصمة الشرق في ذاك العهد ، لا تربطهم بالخارج إلا بعض العلاقات الإقتصادية البدائية المتمثلة في بيع محاصيلهم الزراعية لتوفير العيش في ظل حياة التقشف. معتبرين الناس خارجا كفرة و زناديق، و كان الرهبان الرسميون يبادلونهم التهم ذاتها. قضى ماني في هذا البستان سنين طفولته و مراهقته، قارئا نهما لما يسمح بقراءته، متأملا عميقا لنفسه و ما حوله.حتى جاءه "الوحي" في بدايات شبابه.و ظل ينتظر إذنَ "توأمه السماوي" ليعلن نَبذَه لمِلة أصحاب الملابس البيضاء بالتخلص من ثوبه القديم الأبيض و استبداله بلباس مختلف رسم عليه زهورا ملونة.و خرج من البستان محملا بلعنات رفاقه القدامى. التجربة الثانية هي مع رهابنة القيصر الذين استقبلوا كلام ماني منذ بداية دعوته بنفس التهم التي حُمِّلها و هو يخطو أولى خطواته خارج البستان. لكن ماني لم يكن يتبادل التهم مع أحد لأنه يحاور "نور" الناس و ليس "ظلماتهم". 7 "حدائق النور" لأمين معلوف سيرة و رواية و بيان حقيقة أيضا. جمعٌ لما تبقى من حياة نبي لم يعد يُذكر إلا نموذجا لثنائية ظلت غير مفهومة إلا بشكل ساذج:النور/الظلمات. ماني الطبيب والنبي و الرسام و الإنسان يسكن في ظلال الوهج هادئا و متزنا. شأنَ المسيح و الحلاج و غيفارا و كل الذين دفعوا حياتهم ثمنا لثراء الإنسان الروحي.
هوامش "حدائق النور" تأليف أمين معلوف، ترجمة د.عفيفي دمشقية،دار الفرابي بيروت 1993 (1) ص179 (2) نفس المرجع.ص254 (3)نفس المرجع.ص157 (4)نفس المرجع.ص170 (5)نفس المرجع.ص179 (6)نفس المرجع.ص197 94*نفس المرجع.ص
#رشيد_منيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|